القصة القصيرة

إثبات براءة

في تلك السنة، أوائل السبعينات كان يتم فصل البنين عن البنات فكانت هنالك مدرستان ، المدرسة” أ” للبنات والمدرسة ب” للبنين وكنا نسميهما مدرسة البنات، ومدرسة الأولاد.
في الصف الخامس بدأنا بتعلٌُم نصوص اللغة العربية في كتاب “سنابل من حقول الأدب ” الذي جمعه وأخرجه المرحوم سامي مزيغيت .
حضر إلى مدرستنا معلم شاب فهمنا بعد أعوام انه كان خريجا حديث العهد قليل التجربة، هش يحمر وجهه كلٌما وقف في مواجهة أكثر من ثلاثين طالبة يحدٌقن به ويتفحصن هندامه من أخمص قدميه حتى قمة راسه ، وكثيرا ما تنَبٌ،ه إلى نظراتنا ووشوشاتنا الخبيثة الحاملة شيطنة الصغار، فيضغط على إصبع الطباشير الكلسي حتى يسحقه بين إبهامه وسبابته .
كونه حديث العهد ومعلم جديد كما أطلقنا عليه لا يُعفيه من حفظ أسماء المتنافسات وإلا ستكون عاقبته وخيمة،وقد أُعجبنا بأشعارٍ يأتينا بها للمتنبي والمعري وكبار الشعراء الذين لم يصادفنا إنتاجهم في كتبنا المدرسية وكان يُكثِر من ترديد الأبيات الشعرية كتفسيرٍ لنصوصٍ وقطع أدبية في كتاب القراءة فيستشهد بحكم وأمثال ، عطاء غزير جعل درس اللغة العربية يمر كبرهة قصيرة ، لكن هذا الصفاء والإنسجام مع الطالبات وتجاوبهن لم يدم طويلا، حين تعلٌكمنا إحدى القصائد عن الأم والحقيقة لا أذكر كاتبها ولا عنوانها لكنها تضمنت وصف معاناة الأم في حملها ، وهنا ردٌد أستاذنا الأية الكريمة ” ووصٌيْنا الإنسانَ بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليٌَ المصير ” سورة لقمان الآية 14″ .
واستطرد يشرح التعب الذي تعانيه الأم الحامل منذ تكوٌُن النطفة حتى ساعة الولادة ، أنصتنا وحاورناه وطلب منا حفظ القصيدة غيبا لأنها تدخل في حصة المحفوظات وانتهى اليوم كسائر االأيام .
في اليوم التالي صباحا وقبل ان نصطف في طابور الصباح كانت هنالك لبكة وفوضى ورواح ومجيئ وامراة تصيح في غرفة المديرة ، ثم خرجت مزبئِرة كالقطة المتربصة للإنقضاض ومالبثت ان غادرت تتوعد بألفاظ لم نستوعب معانيها لصغر سننا لكن استنتجنا أنٌ حدثا مُعيبا تم في مدرستنا !
بعد دخولنا الصفوف وانتهاء طابور الصباح دون أن تفتش المديرة والمربيات على النظافة أو يتفحصن أظافرنا، اقتحمت المديرة غرفة صفنا فارتعدت فرائصنا أمام وقفتها وتكشيرتها وعبارتها : بنات، سأسال سؤالا واحدا لا غير ..وأريد إجابة واضحة دون مواربة والويل ثم الويل لمن تتهجأ او تكذب، سأقتلع أذنيها …التزمنا الصمت الذي صاحبته البهتة الشديدة ونزل السؤال الصاعقة : هل تعلمتُن في درس القراءة عن الحبل والولادة ؟ هل شرح أستاذ العربية هذا الأمر ؟
ماذا ؟ لا ..كيف ؟ لا افهم …
تصاعدت هذه الهمهمات التي قطعتها المديرة بصوت مرتفع وهي تخبط الطاولة : أريد جوابا هل حدٌَثكُن عن الحبل والولادة والزواج ؟
أطبق الصمت ، نظرنا إلى بعضنا باستهجان ، آثرت بعض الطالبات العبث باقلامهن ، أطرقت أخريات وابتسمت بضع طالبات كن يؤثرن الجلوس في المقاعد الخلفية هربا من المشاركة في الدروس كنٌ فئة من يحصلن على إنسخي القطعة في حصة الإملاء . مرت الدقائق بطيئة تنذر بما لا تحمد عقباه .
بدأ الغضب يجتاحني حتى وجدتني أقف وأرفع سبابتي بخوف وخشوع : معلمتي هل يمكنني التحدث معك في مكتبك ؟
ولم لا تتحدثين هنا امام الطالبات ؟
حافظت على صمتي وهي تسبقني إلى مكتبها بعد ان أعربت لها وأنا ارتجف عن رغبتي في التحدث معها على انفراد .
وشرحت لها بدقة قصيدتنا التي تعلمناها ورددت الآية الكريمة التي كتبها معلم اللغة وهي تهز رأسها وقد انفرجت أساريرها وقالت : يجلسن لاحتساء القهوة والخوض في مواضيع لا يدركن منها سوى رتق قصص نميمة .. ويحهن خرٌابات البيوت …
وبقي معلمنا واستمر في تدريس موضوع اللغة العربية الجميل وكان أكثر انطلاقا ومرحا حين قرأ لنا أحد نصوص المازني الساخرة وقصيدة لحافظ إبراهيم.
سنوات طويلة استغرَقَنا الأمر لنفهم أن المديرة استبسلت في الدفاع عن المعلم وعن أخلاقه وسيرته وقدراته وأنها استعانت بشهادتي وشرحي ..وأن الواشية كانت من شلة الجالسات في المقاعد الخلفية التي لم تميز ولم تفسر فهم المقروء ولا المسموع .ونقلته إلى أمها التي لم تجد وقتا لتفلية رأس ابنتها من القمل والصئبان .
السابق
الليل
التالي
وهم

اترك تعليقاً