مقالات

الترميز .. تعالي الكاتب أم عجز الجمهور

تقول الميثيولوجيا الإغريقية القديمة أنّ هيرميس رسول الوحي لكبير الآلهة زيوس كان مكلّفا بحمل الرسائل إلى البشر، لكن رسائل الآلهة كانت مشفّرة إلى حدّ كبير ويستعصي فهمها. وهذا ما دفع هيرميس إلى المجازفة بتفسير شيء من الرسالة والإشارة تلميحا عبر مجموعة من الرموز إلى بعض معانيها.

إنّ مسألة الترميز في معرض حديثنا عن كتابات الجيل الأوّل ما بعد الحداثة فتحت الباب أمام طرح أنثروبولوجي مهم: هل النص المرمّز هو نص نخبوي يسقط في الغموض أم أنّه نص دسم ويحتاج إلى قارئ حصيف. ولعلّ ما ذهب إليه الكاتب الشهير لويس بورخص الذي قال: من غير المنطقي أن نتوقّف عن الكتابة لأنّ البعض لا يجيد التأويل، قد أماط اللثام عمّا يختلج في صدر بعض الكتّاب الذين اتّهموا بأنّهم نخبويين ويدفعون نصّهم دفعا للانتحار على عتبة الهيبر-غرافيا.

إنّ عملية الكتابة هي مخاض عسير وتحتاج لمغامر يقتحم عالم السرد دون استئذان، وكي يضمن موطئ قدم فهو مطالب بالإجابة عن أسئلة الكتابة الثلاث: ماذا نكتب وكيف نكتب ولمن نكتب؟ ومن هنا نفهم أنّ العملية ليست مجرّد إسهال لغوي ومجّانية لفظية بقدر ما هي توجيه رسالة من داخل مأساة وملهاة الفكر البشري.

إنّ لجوء الكاتب للترميز فسّره بعض النقّاد حسب بارومتر سياسي وأخلاقي واجتماعي، فعندما يكون الوضع السياسي هشّا وتسوده الدكتاتورية يلجأ الكاتب للترميز خوفا من ردّة فعل السلطة والتّي تمتلك الرواية الرسمية دائما. ويلجأ أيضا للترميز إذا خشي المواجهة مع الموروث الاخلاقي للمجتمع والذي لا يتسامح مع التابوهات كالدين والجنس حيث يعتبرون كلّ متكلّم في هذين الامرين أشبه بالكافر أو الزنديق…

لكن السؤال الذي يطرح خارج كل الحسابات: هل الترميز تقنية في الكتابة أم ترف لغوي واستعراض للعضلات؟ للإجابة عن هذا السؤال نذكر مقولة سيلان الشهيرة: فوق اللاثوابت يتم الارتكاز. وبعيدا عن مشجب التكهنات الذي نعلق عليه قصور مؤسسة النقد في إيجاد جواب شافي وكافي لهذا السؤال يبقى النتاج السردي والشعري مرتهنا إلى ذائقة القارئ ومزاجه الفكري حيث يرى في الترميز إمّا قدرة ناجعة في التلاعب بالمفردات وردم الهوةّ بين مختلف القطاعات الفكرية فتحضر الفلسفة والجغرافيا والتاريخ وعلم الاجتماع داخل النص الواحد وإمّا غموض وعبثية في الكتابة قد تحتاج إلى باغراوند تكون أشبه بقاعدة بيانات يجب على القارئ أن يمتلكها.

في محصّلة قولنا يبقى الترميز سلطة فكرية تترجمها اللغة إلى تصوّرات تعطي للنص بعدا أنطولوجيا قد يحظى بتزكية قارئ يعشق السفر بين التفاصيل أو رفض من قارئ آخر يرى في عملية القراءة استهلاكا فكريا كافيا ولا يحتاج لما يسمّيه البعض القراءة المزدوجة في إشارة إلى عملية القراءة وفكّ شيفرة المكتوب.

السابق
تبادل
التالي
ارشيف

اترك تعليقاً