في مدينةٍ مُنهكةٍ، تحملُ جدرانُها ندوبَ الصراعِ الصامتةَ، كان صرحٌ شامخٌ يلوحُ في الأفقِ كذكرى باهتةٍ لسلطةٍ جاثمةٍ. اسمُ حاكمٍ ظلَّ يترددُ في الخفاءِ كهمسٍ ثقيلٍ يخنقُ الأنفاسَ.
ذاتَ ليلةٍ، وبينما كانت أصواتُ الغضبِ تتعالى في الأزقةِ كريحٍ هوجاءَ تحملُ معها مرارةَ السنينِ المتراكمةِ، اندفعَ شبانٌ غاضبون نحو القصرِ المنيعِ.
صوت أحدهم، يعلو بحماسٍ: “أخيرًا! لقد انتهى عهدُ الظلامِ! زالَ الثقلُ الذي أرهقَ أيامنا لعقودٍ. غدٌ جديدٌ ينتظرُ مدينتنا الجريحةَ!”
لكنْ، وسطَ الهتافاتِ الصاخبةِ، همسَ آخرُ بنبرةٍ قلقةٍ، وهو ينظرُ إلى خريطةٍ معلقةٍ على جدارٍ مهشم: “توقفوا لحظةً… إسقاطُ الرأسِ… أهو نهايةُ المطافِ حقًا؟ انظروا إلى هذه الخطوطِ المتشابكةِ… ألا تخبركم شيئًا؟ يراودني قلقٌ… قد يكونُ الشرُّ أعمقَ من مجردِ شخصٍ واحدٍ.”
داخلَ القصرِ، وجدَ الشبانُ رجلاً نحيلاً جاثيًا أمامَ خريطةٍ متشابكةِ الخطوطِ الحمراءِ. كان شحوبُ وجهِهِ كتابًا مفتوحًا يحكي عن عبءٍ ثقيلٍ، وعيناهُ مثبتتانِ على تلك الشبكةِ القرمزيةِ التي تلتفُّ حولَ صورةِ أرضِهم كأفعى نائمةٍ.
صوت شابٍّ، وقد خفت حماسهُ للحظة: “انظروا… لم يبدُ كالوحشِ الذي تخيلناهُ. رجلٌ مرهقٌ، يجلسُ أمامَ خريطةٍ وكأنها قدرٌ محتومٌ. ربما… ربما كنا مندفعين.”
لكنْ سرعانَ ما قوبلَ ترددهُ بصوتٍ غاضبٍ: “لا تضعفْ الآنَ! لقد أراقَ دماءَنا، استباحَ أرضَنا. نهايتُهُ هي العدلُ.”
وما إنْ سكنت أنفاسُهُ، حتى بدأتْ تلك الحمرةُ الغامضةُ على الخريطة تبدو وكأنها تنبضُ بحياةٍ خفيةٍ. تلاشى وهجُ الانتصارِ سريعًا كفقاعةِ صابونٍ، تاركًا وراءَهُ فراغًا موحشًا.
بعد فترةٍ وجيزةٍ، بدأتْ تظهرُ في الحاراتِ وجوهٌ غريبةٌ، تحملُ في ملامحها صلابةً لم يعهدها أهلُ البلادِ. سرى قلقٌ جديدٌ في الأجواءِ كدخانٍ أسودَ ينذرُ بعاصفةٍ أشدَّ هولًا.
صوت امرأة عجوز، يرتجفُ خوفًا: “من هؤلاءِ الغرباءُ؟ لم نرَ مثلَ هذه العيونِ من قبلُ. نظراتُهم باردةٌ… لا تبشرُ بخير.”
فيما كان الخوفُ ينتشرُ، تنهدَ رجلٌ مسنٌّ بحسرةٍ: “حذرنا… لكنَّ الاندفاعَ كان أقوى. الفراغُ يجذبُ دائمًا ما هو أسوأ.”
عندها فقط، شعروا بوخزٍ باردٍ في أعماقهم، كإدراكٍ متأخرٍ لثمنِ فعلتهم. الآنَ، يقفون على أرضٍ قاحلةٍ، تتصاعدُ منها لعناتُ الجهلِ، وتطوفُ في ذاكرتهم صورةُ الرجلِ الشاحبِ ونظراتُهُ المثقلةُ.
صوت الراوي (بنبرة مريرة): رحيلُهُ المفاجئُ كشفَ عن سرٍ دفينٍ: أنَّ استقرارَ وطنٍ بأكملِهِ كان معلقًا بخيطٍ رفيعٍ. لكنْ، ربما تنبتُ براعمُ وعيٍ جديدٍ من هذه الأرضِ المحروقةِ. جيلٌ قادمٌ قد يرفعُ رأسهُ ليسألَ: ‘لماذا سقطَ الوطن؟’ بدلاً من ‘من أسقطَ الحاكمَ؟'”

حسين أحمد الشريف بن قرين درمشاكي، من مواليد 1971.3.17م.
مجالات الكتابة: القصة/ القصة القصيرة/القصيرة جدا/الومضة القصصية/ الشذرة/الشعر.
الكتب المطبوعة المؤلفات
1/ انا و أبي: مجموعة قصصية/ طبعة أولى وثانية/دار فنون للطباعة والنشر والتوزيع/القاهرة/2019م.
2/ المرأة التي تزوجت الجني: مجموعة قصصية/ طبعة أولى وثانية/دار فنون للطباعة والنشر والتوزيع/القاهرة/2019م.
* تُرجمتْ مجموعته القصصية (انا و أبي) إلى اللغة الفرنسية عن دار الثقافية بالمنستير_بتونس/2020.
3/ غصة وجع ( رواية قصيرة ) عن دار الثقافية بالمنستير بتونس/ 2021
4/خطيئة (قصص قصيرة وقصيرة جدا) الطبعة الأولى
قريبا عن دار الجابر للطباعة والنشر والتوزيع/2025
* له تحتَ الطبع:
★الربيع خريف آخر/مجموعة قصص قصيرة و قصيرة جدا
★ فاكهة الأنوثة/ديوان شعري
* تُرجمتْ له قصائدٌ قصيرةٌ جدا إلى اللغتين الانجليزية والهنغارية ضمن كتاب ( بوسع_قلبي ) تاليف الشاعر الفلسطيني: منير مزيد/ المقيم بالمجر.
* نُشر له حوارا مع الروائي و القاص والشاعر والمترجم الأديب العراقي أ. زيد الشهيد نشره بكتابه (من ذات المبدع إلى الذات المبدعة- زيد الشهيد في حواراته) دمشق 2016.
* تم تضمين مجموعته القصصية (أنا و أبي) لكتاب: أسئلة السرد _(أسئلة القصة القصيرة جدا)_ من تأليف الأديب والروائي والناقد العراقي الكبير الاستاذ داود سلمان الشويلي
وافر الامتنان وغامر الود لمنصة لملمة لسخاء النشر وبهاء التوثيق