القصة القصيرة

الرجل الذى قرر العــودة

في صباح يوم عبوس .. كنت قد اغتسلت بماء النهـر الجاري ناحية الشمال .. و ارتديت أفضل ما لدى من ملابس زاهية .. و انتويت مغادرة النجع الرابض فى حضن الجبل العتيق قاصداً السوق الكبير .

لم أنس وقتها أن أتخلص من أسمالى القديمة المملوءة بالحكايا العتيقة السمجة .
هكذا نصحنى الشيخ الطاعن فى السن عند عتبة الدار.

(تكتكات) القطار المتجه ناحية المصب تصرخ فى أذنىّ .. تجلجل دون غيرها .. تملأ فراغ أيامى الباهتة ، وأنا لا أعرف أو أتخيل من قبل دروب السوق الكبير .

ما هى ؟.
وعلى أى شىء تكون ؟؟!.
رغم أنى أعيش و أرسم لها صوراً شتى فى يقظتى و منامى لكثرة الحديث السائر فى النجع بعدد حصى دروبه ومدقاته الضيقة .
قـالـت شيوخ البلاد المتاخمة لنجعنا من قديم الأزل : ــ

يا ولدى ..
أرض السوق هناك أعمدتها متداخلة وشاهقة العلو ، وتبتلع الناس مهما كان (أقفيتهم) طويلةَ أو قصيرةً .
مع أنه ملح الوجود , و مقياس احتمال قوة الرجال .
أما النكات اللاذعة التى تتعاطاها الألسنة هنا وهناك عن أهل ساكنى النجوع و البرارى ضريبة الجهل الأسود عندهم ، ولحداثة الخبرات المكتسبة لدينا ، و اشتداد منحنى الفقر وضيق الأيام حول الجميع .
يا ولدى ..
من يمتطى صهوة القطار الزاعق ناحية أرض السوق الكبير عليه أن يخلع عمامة الخوف عن تكوينه الطينى .

استمعت لكل النصائح المتصاعدة حول أبخرة أدخنة (الجوزة) المنتشرة في (مصاطب) النجع ناحية السماء .
حزمت أمتعتى وكل ما أملك من مؤن .. خبأتها تحت جلدى و انتظرت ساعة الرحيل .
عند عتبة الدار ودعتنى أمى ، وقبل أن تترك يدى قبضت حفنة من تراب الأرض من تحت قدميها .. دستها برفق تحت عظم جبهتى العريضة . لم أسألها عن السبب .
بينما قالت أختى الأرملة : خيرًا فعلت .. لقد سألها من قبل المرحوم (طايع) زوجى يوم رحيله منذ زمن غير معلوم ميقاته .
يومها كان واقفاً بين يدى أمه كوقفتك تلك ، ولكنه (قصع) عمامته الكبيرة على مؤخرة رأسه وقال بنبرة زاعقة :
كفانا تخلفا يا أماه ؟.
فدًّسُ التراب تحت عظام جباه الرجال وقت (زعيق) صافرة القطار قرب وقت الرحيل نذير شؤم .
كفانا جهلاَ يا أماه في نقل مواريث الأجداد الخاطئة ، فحراجى القط وأبناء عمومته منذ فجر التاريخ وحتى الأمس القريب شيدوا القمم العظام .
وأنا كما ترانى يا ابن أم .. بعدما ذهب (طايع) على قدمين ثابتتين بالأرض ، و ردّ أمه ، ولسنين طويلة لم يعـد من بلاد ما بين النهرين إلا فى نعش لم ير أهل النجع له مثيلا من قبل ..
وصرت من بعدها أرملة فى سن الفتيات العذارى اللائى يطلبن للزواج اليوم .

حشى المسافر حلقه ببعض الهمهمات المكتومة في صدر أخيه الأصغر ، ومضى على المدق الموصل نحو محطة المغادرة .
فى طريق سيره المحموم قال له إمام الزاوية المشدودة أركانها عند ناصية نهاية المدق الواصل بين كومة ديار النجع وشريط السكة الحديد :
يا ولدى …
تراب هذه الأرض دائماً طاهر ..
من حمله بين جوانبه و اعتبر لوقت العودة !.
لا ينوح ! ولا يناح عليه !.
ويعود من بعدها غانماً بالأقوات وتقاوى الصبر للأيام العسرة القادمة.

بعد ذرف الدموع الحارة بكل دروب ومسالك النجع .. تأبط أحلام كل أهالى النجع ومدد طوله الزائد عن الحد بين كراسى عربات الدرجة الثالثة بقطار الصبيحة قاصداً أبواب السوق الكبير .
ساعات طويلة ، وصرخات عجلات القطار تلف البوادى الشاسعة ، وتقطر زيوتاً بألوان شتى من صهد حرارة الطريق ..
ها هى الآن تخف من حدتها ، والـرفوف تتخفف مـن أثقالها الوبيلة ، وأبواب العربات المغلقة منذ بداية الرحلة يفتحها من أوصدوها بعد صعودهم .. يعيدونها لسيرتها الأولى .
أشعة الشمس الندية من بعد ليلة كالحة السواد تتخلل من خلف فتحات الشبابيك والأبواب على الوجوه الواجمة ، شعاعها البكر يتمدد داخلى بالرغم من اختفاء جريد النخل من كامل الصورة ..
تغسل وجهى و وجوه كل السهارى مثلى دون أن تسكب قطرة ماء واحدة .
قبس من الضوء الحائر منذ شبولتى يتراقص من حولى .. يسكن الآن بمؤخرة رأسى الفتية .. يرسو عند شاطىء مقولة رابضة تحت ظل بدنى الضخم .. الأرزاق بالله .
نظراتى المتقطعة تجوب المدى .
كل النظرات النافذة من خلف شيش النوافذ الموصدة تتكسر فوق الجدران الأسمنتية الشاهقة الارتفاع ، والحوائط الملتصقة ببعضها البعض .
المتمرسـون فى الرحلات المتعاقبة من حولى يعلنون فى صمت بهيم عن قرب محطة الوصول .
عند استيعاب عباراتهم الرصينة يحط فوق كتفى طائر القلق الرهيب ..
ترتعد له فرائصى ..
حانت اللحظة .
لا أتمكن من التحكم فى إنتظام ضربات العضو الضخاخ بصدرى المرتجف .
عندها تذكرت مقولة الشيخ الطاعن فى السن الذى كان عابرًا لديارنا بالنجع ذات يوم لا أذكره :
(إن شـر بقاع الأرض يا ولدى .. بـقعة يباع فيها كل شىء ويشترى) .

توقفت عجلات القطار عن الدوران مع اختلال ضربات نبضي .
علىّ الآن النزول ..

خطواتى البطيئة متلعثمة على بلاط يضوى من تحت قدمى أرى فيه انهدال عمامتى المتسخة من آثار عثرات الطريق الطويل فوق رأسى الكبير الحجم .
مسافات كثيرة مشيتها وحدى ، و سلالم أكثر صعدت وهبطت عليها .
لم أر خلالها مظاهـر السوق الكبير كما قصها علىّ خالى ذات ليلة فى دارنا بالنجع البعيد .
الشوارع من أمامى ومن خلفى طويلة ومتقاطعة فى كل الاتجاهات الأصلية .
لا أدرى إلى أى شىء تفضى ..
ولا أيّا من هذه التقاطعات تؤدى إلى بوابة السوق الكبير .
وأين المنتهى ؟
الحوانيت من حولى كثيرة وثابتة فى مكانها .. أبوابها مفتوحة على الضلفتين ..
الداخلون والخارجون لاتنقطع لهم وتيرة ..
(كلاكسات) العربات المارقة فى كل اتجاه تتعالى صرخاتها وكأن الناس هنا أصابهم الصمم ..
توقفت خطواتى البطيئة عند مكان فسيح ..
يقال عنه ميدان (….. ….) .
البنايات من حولى ارتفاعها أعلى عن ذى قبل .. وأنا لا أجيد القراءة..

دارت رأسى وتمكن الصداع منى من كثرة التطواف بنظرى الثاقب على اللوحات المعلقة بكل شبر فوق واجهات العمارات وأسطحها العالية فأجلسنى أرضاً ..
فى هذه البقعة من العالم غلبنى النوم عندما غاب ضوء الشمس خلف العمارات الشاهقة الارتفاع .
لم أدر المدة التى غلبنى فيها سلطان النوم ؟.
عند إفاقتى وجدتنى محاطا برجال فى زى متماثل الهيئة واللون وغطاء الرأس .
عرفت بعدها أنهم (شرطة) .
{هاتك .. سين ، و جيم} ..
تنبهت لأسئلتهم بعدما نزف الدم من (قفاى) الذى كانت تتباهى بعوارضه عائلتى هناك فى دروب النجع البعيد .
علمت فى حينها أنى مقبوض عليه .. لم أجرؤ على سؤالهم عن تهمتى .
فالتُّهَمُ عندهم كثيرة متنوعة لا يخلو منها جرابهم أبداَ .
أقلها وطأة .. متشرد .. صايع .. بلطجى .
وأعلاها صعيدى .. جنوبى الموطن والأصل .. لا يحمل تحقيق شخصية .
ــ {جلنف} ــ
لم أع معناها حتى اللحظة .
نكست رأسى طويلاَ ، وانتحبت عند كل العتبات سراً ، وعلانية ..
ــ ارحمونى يرحمكم من فى السماء ؟.
ــ غريب قاصدَ أرض السوق الكبير؟.
فتشوا كل جزء من عروقى النازفة .. حتى سرت كما ولدتنى أمى مخضبا بالدماء كيوم مخاضها وقت ولادتى .

لم يعثروا على حلم واحد ذي مغزى عندى يخصهم مخبأ تحت جلدى المهترئ .

سمعت من يقسم ـ أمامى ـ أننى شاب موتور ومسحور بالسوق الكبير.

بعد ليال لا أعرف مقدارها سمحوا لى بالخروج و السير فى اتجاه واحد .. يفضي بي ناحية الجنوب .
لم يكن لىّ حق الاعتراض .. وافقت على الفور .

فى سيرى المحتوم هذه المرة عبرت كبارى كثيرة غير متشابهة فى المطالع والمنازل والانحناءات والتقاطعات .. غير أن القليل منها كان الماء يجرى من تحته منذ سنين بعيدة و ربما من قبل بناءها ، و لكن لون الماء كان باهتاً ورائحته كريهة .
سألت أحد العابرين كان يسير ببطء مثلى ، ولكن فى الاتجاه المعاكس ناحية الشمال عن سر هذا العفن .
قال : يا هذا .. إن هذا هو النهر الخالد .
لم أستطع استيعاب ما قاله آنفاَ .
لم أقو على عقد مقارنة بينه وبين ما يجرى هناك قرب مضارب نجعنا النائى فى أقاصى الصعيد الجوانى .
تذكرت فى حينها ما كانت تقصه أختى ذات ليلة على مسامع وليدها الوحيد و اليتيم قبل رحيلى
ــ اعلم يا ابن بطنى ..
{نيل نجعنا الجارى ناحية الشمال دوماَ على بعده وبداءة أهالينا من حوله لبلاد بحرى يعتبر مثل البنت البكر .. لم تختلط مياهه بمياه البشر أبدًا }.
لم أتوقف عند مقولتها فى حينها .. ولم أستطع الوقوف عند تفسير وتأويل ما كانت تعنيه بالضبط ، كما لا أستطيع الكف عن المسير ناحية الجنوب حتى لا يغلبنى سلطان النوم و أجدنى مقبوضا عليه ثانيةً .

ظللت فى سيرى متسارعِ الخطى ، لا أعلم المسافة التى قطعتها ، ولا المسافة المتبقية للوصل للنقطة التى حددوها بقولهم أول منازل الجنوب .
لم أحدد الزمن الذى مضى ، ولا المدة الباقية للوصول إلى تلك النقطة.

ساقـتنى قدمايَ فى سيرى المرغم لموضع لم تره عينى من قبل ، “موضع” يغلفه الزجاج السميك الشفاف من كل جانب ، الروائح والأبخرة المتصاعدة منه تحوم حولي ، توجد مثلها هناك فى دروب النجع ومدقاته الضيقة وسمائه كي تهبط الطيور الجارحة لتلتقط ما ساقه لها خالقها مع فارق المقارنة .
فتشت عن ما كنت أخبئ تحت جلدى من مؤن .. لعقت ما تبقى منها ببطء شديد ، عندما انتهيت من لعقى الطويل لم تستقم أمعائى الملتوية من بعدها .
سمعت صوتا يهدر بداخلى .
ــ لا يهم الطعام .
ــ المهم الإرتواء !.
ارتويت من عروقى الطافحة على بدنى الضخم بماء طعمه إلى الملح أقرب .
غير أن فمى لم تدخله قطرة ماء واحدة .
أسندت ظهرى المتعب على ظل جدار بالقرب من هذا “الموضع” والذى علمت بعدها أنه “حاتى” لعل الروائح الهاربة منه تنتفخ لها أوردتى وتمتلأ معها أمعائى الملتوية ، فأقوى على مواصلة المسير .
خذلتنى هذه المرة أقدامى المتورمة …
خارت قواى …!
أنا الذى كانوا يتحاكون عن قوته هناك فى النجع (فشر) أبوزيد الهلالى سلامة .
آثرت السلامة ..
ارتكنت بما أحمله من خيبة أمل بجوار رهط من الناس كانوا يفترشون أرض الرصيف الواسع فى محيط الأبخرة المتصاعدة من حانوت “الحاتى”.
انزويت داخل عجلة الزمن المتعطلة بعين مفتوحة عن آخرها و الأخرى ناعسة .
أسمع صوت صريخ عجلات القطار .. ينادي الغريب الذى عاش يحلم بالوصول لباب السوق الكبير .
همس فى أذنى من كان يهجع جانبى .
يا هذا ….
تواريت عنه فى ثياب النوم الغطيس ..
وكزنى بكوعه فى بطنى الخاوي على عروشه …
لم أبال للوكزة فهى أخف وطأة من (افتراء) أصحاب الزى المتماثل !.
عفقنى من عنقى الطويل من الخلف .
قال بصوت مبحوح : ماهى وجهتك ؟
ــ كنت قاصدًا أرضَ السوق الكبير .
قصع عمامته المنهدلة على مؤخرة رأسه الضامرة .. ثم رمانى بنظرة مستنكرة .
ــ يا {بوووووووووووو ى} .
ــ يا هذا .. حط عنك بلاهتك الصارخة .. كلنا هذا الرجل … عليك أن تتجلد .. أو تغادر .

بعد ساعات انتظار لم أحصها ، و قبل أن أسمع صافرة الوابور المتجه ناحية ديار النجع النائية ..
وقفت عند أقدامنا سيارة فاخرة بمحاذاة الرصيف .. هبطت منها سيدة ممشوقة القوام .. فاتنة .. يتبعها رجلان …
أحدهما ممصوص القــد ، والأخر نحيل البنية كعمود السوارى المضروب بساحة مولد سيدى عبدالرحيم القناوى ..
حسبتها ـ للوهلة الأولى ـ من الأسرة الحاكمة قبل قيام ثورة الضباط الأحرار ، فمظاهر النعمة بادية على سحنتها المتناسقة الأبعاد .

أشارت السيدة الممشوقة بطرف سبابتها المطلى ظفره بلون زهرة البنفسج التى تشبه زهور تكعيبة ابن كبير النجع هناك فى أقاصى الصعيد .
أشارت ناحية الرهط الثاوى على الرصيف المتسع ..
ــ أنت ..
ــ وأنت ..
ــ وأنت ..
ثم مضت بدلال ناحية سيارتها الفارهة , وكان يجرى فى ركابها الرجلان إياهما.
رغما عنى جذبنى من كان يجلس خلفى بقبضة يده العفية .. ( يللا بنا يا بوى )..
لقد أشارت السيدة إلينا نحن الثلاثة …
هممت معهم و لم أعقب .
قال من سبق و وكزنى بكوعه فى بطنى الخاوي :
( إبسط يا بوى .. كنت بتحلم بالوصول لأرض السوق الكبير .. أتفضل فرجنا كيف ع تعمل هناك ) .
وقعت كلمات الرجل الفظ على بدنى الضخم كصاعقة زلزلتنى فى مكانى .. دارت دورتها بداخلى .. أحالته لشىء مبهم غير معلوم الأركان !.
( فط ) الدم فى نافوخى .. سخنت عروقى الملتصقة بعظامى الهشة .
كنت أود الانقضاض عليه لأوسعه لكماً و ضربًا .
منعنى أملى لرؤية أعمدة السوق الكبير .

بعد برهة وقفت أمامنا سيارة الرجلين اللذين كانا فى ركاب (السيدة)
فى جلستى وسط مرافقى على الكنبة الخلفية للسيارة حاولت الربط بين كلمات الرجل الذى وكزنى فى بطنى ، وبين كلمات الشيخ الطاعن فى السن الذى عبر ديارنا بالنجع ذات يوم لم أذكره .
توجست خيفة من البيع والشراء هناك بأرض السوق الكبير .

بعد دقائق معدودة وجدتنى داخل بناية منخفضة الارتفاع أدوارها لا تتعدى ثلاثة طوابق بالبدروم ، ومضروب عليها سياج من الحديد المتداخل فاخرة عامرة بالأثاث المعطر .
علمت بعدها أن هذه البناية يقال لها ( فيلا ) .
من أول دخولى لهذه البناية وُكلَ إلىّ بخلط العطر بالماء فى {البانيو} ، وحمل {الشامبو} و الملابس الداخلية للهانم و وضعها فى الحمام .

ساعتها تأكدت أن سوق هذه البقعة من الأرض مختلف تماماً عن ما رواه خالى و إمام الزاوية والشيخ الطاعن فى السن العابر لديار نجعنا ذات يوم سابق لا أذكره .

تحملت أوامر (الهانم) الممشوقة القد والقوام شبه العارية فى بيتها طالما امتلأ جوفى ببقايا طعامها الشهى ..
تجلدت كما نصحنى الرجل الفظ الذى وكزنى فى بطنى الخاوية وقتها .

كان الرجلان اللذان زاملانى فى ركاب (الهانم) من عند الرصيف المتسع من أبناء جلدتى هاربين من الفقر المدقع والبطالة الضاربة هناك .
كانا ينعمان بالنوم العميق طوال نهار اليوم حتى قبل مغيب الشمس ، ومن بعدها لا ألمح لهما ظلًّا حتى صباح اليوم التالى .
لم أشغل بالى بأحوالهما وما وكلا به من أعمال ، و انتظرت ما سيسفر عنه قادم الأيام لعلى أبلغ أرض السوق الكبير .
فى صباح ذلك اليوم الذى رأيت فيه فراش الرجلين اللذين زاملانى فارغاً .. انقبض قلبى .
فتشت فى كل النصائح التى سمعتها منذ القدم ، و وضعت حلم أهل النجع هناك أمامى .. جدلت منها حبال الصبر .
تصبرت ….!
عند دخول منتصف الليل فتح الرجل الممصوص القد علىّ باب غرفتى القريبة من السياج الحديدى الملفوف حول البناية الفاخرة .
ــ أنت .. الهانم تطلبك .
ــ فى مثل هذه الساعة … ألن تخرج الهانم مثل كل ليلة ؟
وكزنى فى صدرى العارىِ .. قم ياهذا …
قمت مكرهاً .
ــ تقدم بسرعة .. عليك الدّور .
ادخلنى الرجل الممصوص القد حجرة ( الهانم ) عنوة ، و أغلق الباب من خلفه .
أشارت (الهانم) شبه العارية فى سريرها الوثير بذات السبابة المطلى أظفره بلون زهور البنفسج .
ــ تقدم يا رجل ..
احمل هذه الثياب وانتظر بجوار {البانيو}.
ــ ثياب ، و{بانيو} ؟
ــ ياهانم خلطت الماء بالعطر العنبرى منذ الظهيرة .
أطلقت (الهانم) ضحكة ماجنة عبقت الفضاء من حولها بالرعدة ، و أصابتنى فى مقتل .
تفصدت منى أوصالى ، و طفق العرق منى حتى كاد يغرقنى فى تلعثمى …
قالت وهى تكشف عن بعض مفاتنها النائمة تحت غطائها الشفاف :
ــ يا فتى .. أنت الآن بلغت أرض السوق الكبير .. عليك النزال بقوة ، أوالعودة لديارك البعيدة خالى الوفاض .
لم أهتز لما قالت .
كنت مازلت أطمع في الوصول للسوق الكبير ، و ألمس بيدى أعمدته الشاهقة الارتفاع .
ركعت السيدة على ركبتيها وهى مازالت فى سريرها الوثير وبدا من جسمها ما بدا و أشارت بطرف سبابتها المطلى ظافره بلون زهور البنفسج ..
ــ خذ الثياب و اذهب .. يارجل ، وسوف ألحق بك .. و إلا ….

عند سلالم {البانيو} خلعت بيدى عمامتى الكبيرة ، و دخلت أرض }السوء{ الكبير ، فأحلام أهل النجع كلها معلقة فى رقبتى ، و لا أستطيع العودة خاليَ الوفاض من بذرة واحدة من التقاوى التى حدثونى عنها قبل الرحيل ..
أقبلت علىّ الهانم حافية الأقدام والملبس إلا من غلالة لا تخفى من بياض جسدها المتناسق الأبعاد شيئًا داخل فراغ الحمام الفسيح .
خلعت عنى بيديها الرقيقتين كل ما كنت أخبئ تحت جلدى الأسمرانى من وقار ، ثم قذفت بى فى ماء {البانيو} المعطر بالعطر العنبرى الهندى .
ارتمت فوقى داخله ، و غاصت بى إلى القاع بعد أن نحلت وبرى بفرشاة لم أر مثلها من قبل .
لا أدرى بعدها شيئاٌ أقصه عليكم ….
غير أنى عبأت جيوب بذلتى الجديدة ما يكفي لشراء مئات .. بل آلاف حبيبات البذور التى يحتاج لمثلها أهلى و كل من فى النجع القابع فى حضن الجبل هناك .
بعد بضع ليال قضيتها هانئًا أقبل كل الأعمدة فى }السوء{ الكبير خرجت مبكراً ذات صباح أصنع ما أوصتنى به أمى قبل الرحيل :
يا ولدى الحبيب …
عندما تتحسن بك الأحوال و تغنم بالتقاوى لا تتأخر علينا ببعض منها ، و ابحث عن أقرب مكتب بريد من محل إقامتك و (شد) مكتوب باسم أخيك فى بندرنا القريب من مضارب النجع .

فعلتها مرة واحدة .

علمت (الهانم) من رَجُلَيْها بما حدث منى !!.
من بعدها ذهبت (الهانم) للرصيف المتسع هناك بجانب “الحاتى” إياه فى نفس التوقيت الأول ، وكان فى ركابها أيضاً الرجلان .. الممصوص القد ونحيل البنية .
لم آبه بكل هذا .
حينها كنت علمت كل مداخل الأسواق الكبيرة والصغيرة على حقيقتها حتى المخارج عرفت مخابئها …
خرجت على قدمى من الباب الرئيسى ( للفيلا ) سالماً معافى لم يستطع أحد أن يردنى .
لفلفت كثيراً فى الشوارع والحارات بحثاً عن طعم العرق الطاهر كما قال الشيخ الطاعن فى السن العابر لديارنا بالنجع ذات يوم أكاد أن أذكر ساعتها .
كانت الشمس قريبة من الرؤوس ، و كانت الناس بالنجع و النجوع المجاورة على امتداد المدى رافعة أيديها إلى السماء تهتف : يا جمال يا حبيب الملايين ..
و لكن اليوم كان الطعام الحلال شحيحاً ، وكل الأسواق مكتظة بالعويل وعرق النساء على اختلاف أشكالهن و ألوانهن ، وتربيعة نهودهن ودوران خصورهن ، و أسماء القوادين ، وسعر الفيزيتة .

لم أسأل هذه المرة عن الطريق الموصل لأول منازل الجنوب .
سرت وحدى دونما دليل .

قبل أن يطلق القطار المغادر لكل الأسواق الصغيرة منها و الكبيرة مُتّجِهًا ناحيةَ الجنوب صافرته فى الفضاء الملبد بالسحب السوداء معلنًا بدء قيام الرحلة .. كنت قد دفنت رأسى بين جموع العائدين للديار المحشورة ببطون الجبال العتيقة و الصحارى الشاسعة .. أبحث فيها عما تبقى من كرامة الانسان كما خلقه البارئ فى صورته الأولى ..
و أقص الحكايا حول أرض السوق الكبير ، و عرق النساء الممزوج بالعطر العنبرى و الماء الساخن و البارد ، و أردد مع الشيخ الطاعن فى السن الذى كان عابرًا لديارنا بالنجع ذات يوم أذكره جيدًا ، و أقوم من أوهام الأمهات و الآباء الفضفاضة الحالمة بالثروة الطائلة و التقاوى الصالحة فى آن واحد .

السابق
عقيدة البنادق
التالي
الصلصـــال

اترك تعليقاً