كُلّ ليلة يعود في الثانية أو الثالثة بعد منتصف الليل، يتأبط معطفه الذي تفوح منه روائح بائعات الهوى ، يتسلل بهدوء كي لا تعلم بقدومه، يتعمد العودة في هذا الوقت المتأخر فهو متأكد أن النوم قد غالبها، بعد طول انتظار أعدت فيه نفسها وتهيأت لعله يرضى عنها، لعلها تنال منه ليلة تذَكّرها أنها زوجتة وحبيبته، يدخل ويتجاهل العشاء اللذيذ الذى أعدته وتركته على الطاولة، يتجاهل كل محاولاتها لجلب رضاه وإستجداء عاطفته ،لأنه يعلم ويضمن حبها ووجودها، فهو حبيبها الذي أحبته وتحدت أسرتها من أجل الزواج به، فخروا مذعنين لرغبتها، بعد أن مانعوا بسبب سيرة والده التي كانت تجوب الحي الذي كانا يقطناه سويا قبل الزواج، كان أبوه زيرَ نساء معروفا وسبقه في هذا الطريق المسدود، تزوجته رغم ذلك، متحدية الصعاب متسلحة بأنوثتها وعاطفتها القوية إتجاهه، كانت نِعْمَ الزوجة لم تشكو له او تزعج أذنه بحديث الفضفضة والشكوى ، كما تفعل سائر النساء، لكن للأسف الشديد فشلت كل محاولاتها مؤخرا في اجتذابه من جديد للبقاء معها، كان مصرا على عدم التنازل عن حريته، لقد فض قيوده أياما قليلة عقب زواجه بها، أصبح رفيقا للفوضى التى بداخله ،مضت الأيام على هذا الحال ليلة تلو أخرى مرت سنة على زواجهما لم يتذكر تاريخ الزواج، وكيف له أن يتذكره وهو يقضي أغلب لياليه في أحضان غيرها.
كم إشتاق جسمها لحضن عنيف بطعم الشغف والرغبة، لأصابع تسري على جسدها فتحدث تلك القشعريرة اللاهبة فيجتاحها طوفان الارتعاش اللذيذ، بهذا الحديث كانت تتجاذب أطراف الكلام مع نفسها هذه الليلة على غير العادة، جلست تفكر وتعيد التفكير هل يحق لي خيانته؟ هل يحق لي البحث عن إشباع رغبتي مع غيره؟
وبينما هي على هذه الحال تحدث نفسها المشتاقة للأنثى التي بداخلها في ليلة لم يغلب فيها النوم عليها كما العادة، توجهت بخطوات بطيئة سيرا نحو شرفة غرفتها التي تحوم بها طيور الأرق والوحدة ، أطلقت العنان ليديها تحاول استنشاق هواء عليل يطرد عن نفسها وعقلها هذه الأفكار الخبيثة، وهي على هذه الحال توقفت سيارة تحت الشرفة مباشرة ، نزل يترنح منها، نعم إنه هو رغم سواد الليل الشديد استطاعت رؤيته ومعرفته، ترنحه الشديد يوحي أنه عانق الخمر طوال الليل رغم السكر وذهاب عقله لم يتردد في وضع قبلة قوية على شفاه حبيبته التي نزلت تودعه لتعود بعدها إلى داخل سيارتها وتنطلق كالبرق
لحظات قليلة بعدها يسمع صوت تصادم عنيف بين جسد والطريق الأسفلتي تناثرت على إثره دماؤها.
نعم لقد فضلت الموت على خيانته وخيانة حبه الذي سكن قلبها رأت أن إنهاء حياتها أهون من تسليم جسدها لرجل غيره.
تجمهر الناس في الحال ممن ايقظهم صوت التصادم وهول المنظر يرصدون الواقعـة بـأعين متسعة ذُهولًا وصدمة، أخذوا يطالعون بعضهم البعض، حتى داهمهم هو بجسم يترنح، لا يكاد يستطيع مع تأثير الخمر استيعاب المشهد إنتشلها من بين أيديهم بـعنفٍ وصياحه يصم آذانهم: -أين الطبيب؟ أحضروه لـيعالجها، داهمهم الأمن وفرق جمعهم، لـيقتربـوا منه، أعطنا إياها لـربما استطعنا فعل شيئ، تعاونوا على حملها أسرعوا إلى المشفى وهيَّ بين أيديـهم جثةً هامدة،
مرت أكثر من ثلاث ساعات ذهب عنه خلالها تأثير الخمر من هول الموقف وطول الساعات، لا يزال ينتظر ، وما أسوأ الانتظار في لحظاتٍ كـتلك، لا تزال الدموع تنساب على وجهه حتى بدأت الممرضات في الرواق يشفقن عليـه وبعضهن يبكينه، خرج الطبيب لـينتفض الأخيـر واقفًا مهرولًا نحوه يسألـه بجنون: -كيف حالها؟ لقد داويت كل جروحها ؟ اليس كذلك ؟كانت تتألم؟ نعم كانت تتألم؟ لكنها الان بخير أخبرني أنها بخير، أشفق الطبيب عليه وتعقدت ملامحه وهو حائر مشوش، لكنه حسم الأمر وقال دفعةً واحدة:
-البقاء لله لقد ماتت زوجتك
تشنجت تعابير وجهه وبدأ جسده يهتز بـحركاتٍ غريبة فهتف الطبيب بقلق:
-ماذا بـك؟! ما خطبك كن قويـا.
لم ينهِ جملته حتي سقط الأخير أمامه فاقدًا للوعي، فتح عينيـه بعدها بصعوبةٍ، للوهلة الأولى كان لا يدرك المكان ولا الزمان، صاح بصوت مرتفع إنها الليلة الاخيرة إنها الليلة الاخيرة ايقظ صراخه زوجته الممددة إلى جواره وهي تردد على مسامعه هون عليك إنه مجرد كابوس يا عزيزي، استجمع أنفاسه واعتدل في جلسته وشرب كأسا من الماء البارد من يدها أخبرته بعد مرور ثوان قليلة، لقد كنت تصرخ وتهذي قائلا إنها الليلة الاخيرة، إنها الليلة الاخيرة، فماذا كنت تقصد!!!
ضمها إلى حضنه استشعرت دفأ افتقدته لزمن ثم سمعت صوته يهمس بالقرب من أنفاسها، إنها الليلة الاخيرة في درب بائعات الهوى ياحبيبتي.
