القصة القصيرة

انقلاب

منذ ليلتين لم يرقأ للزوجين الشابين جفن، الزوجة الحامل انتصف شهرها التاسع، وقد سافرت الطبيبة المتابعة فجأة لحضور مؤتمر علمي دولي، القابلة تارة تثرثر بأنّ ولادة (البكرية) عادة تطول عن غيرها، وتارة تطمئنها بأنَّ القطط والكلاب وسائر المخلوقات إنما تلد بالفطرة دون مساعدة من أحد! الحماة الحنون تلهج بالدعاء لتتم ولادة كنتها على خير، ويأتي ولي العهد إلى الدنيا في ساعة تيسير.
يذهب بها للمستشفى مرتين ويعود بخُفّيْ حُنين. في الثالثة حجزوها، وطلبوا منه شراء بعض المستلزمات، ثم الانصراف للحضور في الصباح الباكر. لا يدري كيف مرّت ساعات الليل عليه وعليها، ينطلق بالسّيارة إلى المستشفى في غبش الفجر شاردًا، تنتابه أفكار ووساوس، يطردها وتطارده، الطريق الخالية تُغريه بزيادة السرعة. يودّ لو كان له جناحان يطير بهما ليطمئن على زوجه وولده.
يصعد أحد الكباري الجديدة، الملف الطّويل والشبورة المفاجئة يجعلان الرؤية متعسرة، لا يزال هائمًا في أودية الخيال، يسمع صراخ الوليد القادم، ويتخيل ملامحه التي تشبهه كثيرًا، يراه ينمو ويحبو، ويحاول الوقوف فيتعثر بعد خطوة أو اثنتين، يناغيه ويلثغ ببعض الحروف المتكسرة، يميز بينها ماما واضحة جلية من أول مرة، ثم أخيرًا بابا بعد عدة محاولات.
تنعشه السباحة في بحر الخيال الجميل، ثم يعيده للواقع المؤلم صراخ فرملة عالية مفاجئة واصطدام شديد! بينما سيارته الصغيرة تدور حول نفسها ثم تنقلب على جانبها، يلمح شبح سيارة نقل (مان)، تخترق مقطورتها المثقلة بحمولة زائدة حاجز الكوبري الحديدي، وتتعلق مقدمتها بأعلى السور منذرة بالسقوط في أي لحظة.
سائق النقل المتهور يخلص نفسه بصعوبة، ينظر بحسرة إلى حمولته الثمينة التي تبعثرت، ومُزقت كل ممزّق، وتفرق دمها بين القبائل، وهو يصرخ بلا جدوى في البشر الذين انشقت عنهم الأرض، وقد تجمّعوا من كل حدب وصوب، في سباق محموم كالنمل الجائع، أسفل الكوبري المنكوب، ينهبون بهمّة ونشاط، ما استطاعوا من أجولة الأرز الملقاة على قارعة الطريق بلا صاحب، غير آبهين أو واعين للمقطورة المعلقة فوق رؤوسهم كأنها ظلة، والتي لو أُذن لها بالسقوط لسحقت نواصيهم الخاطئة سحقًا، وجعلتهم كالرميم.
أما صاحبنا فقد كان رهين المحبسين: جسم المركبة المتصدع، وعظامه المكسورة، فقد انبعج باب سيارته الصغيرة واستعصى على الفتح، كما لم تسعفه كتفه وقدمه المكسورتان على الحركة، فقبع في مكانه هامدًا خلف المقود، يئنُّ أنينًا خافتًا، يعي كل ما يجري حوله، فيسمع ويرى، دون أن يقوى على النطق.
بين الحلم واليقظة يبصر بضعة نفر يخفُّون إليه ويحفُّون بالسيارة، استبشر بهم خيرًا، وحمد لهم سرعة إغاثتهم ونجدتهم. قبل أن يغيب عن الوعي تمامًا، تيقن أنّ الجمع الكريم الذي فرح بقدومه، لم يكن إلا ثلة من اللصوص المحترفين، الذين عكفوا على تفكيك السيارة بمهارة، كصراصير قذرة تداعت إلى قطعة كعك دسمة، دون أن يلتفتوا لأنينه فيمدوا له بالمساعدة يدًا، أو يُلقوا عليه مجرد نظرة.

السابق
براجماتية
التالي
صدمة

اترك تعليقاً