القصة السلسة

حكايات الزمن المر (5)

…فتحت الباب فبرز المحجوب بجسده الضخم ووجهه المتجهم، سيطر الخوف على مجامع قلبها، فهرعت الى غرفتها وأغلق الباب بإحكام كما جرت العادة في غياب أمها.مر بعض الوقت فسمعت صوت دوي وكأن شيئا سقط واصطدم بالأرض، أعقبه صوت أجش غليظ النبرات يصيح:
ـ ساعدوني.. ساعدوني..
عرفت أنه المجدوب، تململت تصغي لصراخه الذي يشق الحجر، تراجعت قليلاً قبل أن تقرر أخيرا الخروج لنجدته وتخرج مسرعة من غرفتها ولم تشعر إلا وهي تتوسط غرفة أمها، أحست بالباب يغلق وراءها ،التفتت مفزوعة، كان المحجوب يمسك بالمفتاح ويدحرجه بين أصابعه وعلى وجهه نظرة خبيثة، وابتسامة سخرية، أدركت أنها كانت ضحية خدعة، ضحك ملء فيه وقال ساخرا:
ـ أخيرا تمكنت منك يا حلوة..أين المفر مني الآن ..
صاحت ،توسلت ،قاومت لكن لا شيء يجدي ..قضي الامر !
أمضت شامة أسبوعا كاملا مستلقية على سريرها، وقد أصيبت من هول ما حصل بانهيار عصبي؛ لا تتكلم الا لتقول أشياء غير مفهومة، شحب لون وجهها و غارت عيناها وانطفأ بريقهما، وسكنهما حزن عميق. الأم حائرة في أمر فلذة كبدها، كيف تركتها وردة تضج بالحياة وعادت لتجدها جثة لا تبدي حراكا و قد ذبل كل ما فيها !. قضت الليالي تسهر عليها فتسمعها تتمتم بكلام مخيف وتستفيق في منتصف الليل صارخة و منتحبة، استعانت بالأطباء فما وجدوا بها داء ،ظنت أنها عين أصابتها فقصدت الفقهاء و المشعوذات، فأرهقنها بالطلبيات و زيارة القبور والأولياء، ولا شيء يتغير.
مر شهر و شامة منطوية في غرفتها غارقة في عزلتها لا تقابل ولا تكلم أحدا، حتى محسن قرة العين و مهجة القلب لم تقبل رؤيته تاركة اياه في حيرة و حزن لا ينتهيان، العيون كانت تتجه متهمة المجدوب، واجهته الأم مرات عديدة و حاصرته بالسؤال، لكنه يردد على مسامعها بإصرار أنه لا يعرف شيئا وانه كان في العمل ؛محسن كان يعرف ان وراء نظراته الخبيثة يوجد ما يخفيه، و ان مفتاح اللغزعند شامة .
شيئا فشيئا بدأت الغمامة السوداء تنجلي وغدت شامة تخرج من عزلتها و تتبادل بعض الكلمات مع أمها، فاستبشرت خيرا بعدما رأت ابنتها و قد علت وجهها لمحة العافية، غير أن بريقا غريبا يملأ عينيها، فصارت كثيرة الشرود ،قليلة الكلام وتغرق في تفكير طويل ولا تخرج الى بهو المنزل الا في غياب المجدوب.
ذات يوم قررت شامة أن تحطم جدار عزلتها فرافقت والدتها الى بيت العشابة التي اعتادت أن تقصدها لإحضار الاعشاب. كانت المرأة منهمكة في تحضير طلبية حين طلبت منهما الانتظار قليلا. على مبعدة يسيرة منها جلست شامة تراقبها وهي محاطة بأنواع شتى من الاعشاب تخلط هذا مع ذاك بدقة متناهية وكأنها جبلت على ذلك.بالقرب منها كانت هناك عشبة أشبه بحبات القرنفل صفراء وضعتها في معزل عن الاخرى، شعرت بالفضول فمدت يدها لتتفحصها فاستوقفتها المرأة العجوز صارخة في وجهها:
ـ لا تلمسيها..هي سامة يا بنيتي ابعدي يدك عنها.. لو دقت فكمية قليلة منها قادرة على قتل حصان …
استطردت العجوز تشرح للأم كيف تستعمل بعض الاعشاب التي وصفتها لابنتها لتعود النضارة لجسدها ..في حين تعلقت نظرات شامة بالعشبة السامة و غرقت في تفكير طويل.

السابق
الحقيقة
التالي
رحّالة

اترك تعليقاً