القصة القصيرة

حلم لم يكتمل

تجمعت قطرات العرق على جبينه العريض متخذة لها مجرى على خده، كدموع جسد أنهكه التعب و الانتظار ،تتألق تلك النظرات الكئيبة على محياه البائس تترجمها زفرات مخنوقة خارجة من جوفه المكلوم.. أجساد مكّدسة أمامه،و عيون حيرى و نظرات شاردة تائهة تبحث في زرقة المحيط عن جواب، عن أمل شقه الوطن العاجز نصفين، انبسط الظلام و أطل القمر محتشما وراء سحب داكنة لفت الليل بطوق القنوط فصارت الساعات دهرا سقط ثقلا على القلوب الواجفة التي تتلظى رغم قسوة البرد التي تلسع الأجساد.
الكون في صمته الرهيب، و الأمواج تعزف سيمفونيتها المعتادة تهمس بأسرارها الخفية وتسرد بلغتها الخاصة حكايات من حملهم اللوح الخشبي على ظهرها…على المركب صمت واجم لا يخرقه سوى صوت شخير رجل في الأربعين من عمره ،و قد احتل بكرشه الضخم مقدمة المركب ، على كتف الجالس بقربه اسند رقبته المختفية وراء شحم ينسدل من تحت فكيه ،فاتحا فمه على أسنان شديدة الصفرة من أثر الدخان ومن حين لآخر ينتفض صارخا:
” هل وصلنا… “، يفترس الوجوه الناظرة إليه بحنق يمرر يده على صلعته المستديرة التي تترنح بها بعض الشعيرات و يعود سيرته الأولى.تساءل هامسا في نفسه:”يا لها من أعصاب باردة كيف ينام و يشخر و لا يأبه لخطورة الموقف”.لم يجد جوابا و انصرف يطالع شابة افريقية منكوشة الشعرشاحبة القسمات تجلس قبالته و قد زمت شفتيها، تفرك كفيها و تطبطب على فخذيها وهي تجرهما بلا هوادة.همهمة خافتة تنبعث من الركن القصي بالمركب تسترعي انتباهه خاصة و أنا أحد المتحاورين هو قائد المركب،استشعر من حركاتهما و الاضطراب على محياهما الخطر الحتمي..كفت الشفاه عن الكلام و ابتلعت ما بقي منه إلى غياهب الجوى حين لحظت العيون تتجه إليهما متسائلة ما الخطب؟؟
انكمش على نفسه،والخوف يعصر قلبه عصرا،يقلب عينيه بين وجوه من معه فيقرأ فيها انكسارا و رعبا مميتا ،تتسارع دقات قلبه كلما مرت موجة مشاغبة تهز المركب هزا عنيفا فيتألف الركاب في صيحة واحدة مكلومة ” الله أكبر”…تململ في مكانه داسا رأسه بين ركبتيه تتحرك شفتاه فيَصد ر عنهما صوت يشبه التضرع الخافت…مرت لحظات هادئة في عرض البحر، الأمواج تهدهد المركب كمهد رضيع باك..فطافت به أطياف الذكرى مستحضرا لحظات جميلة تشق على مضض بين أشواك الخوف و الشجن طريقا لترسم ابتسامة على فمه الذي مضغ الصمت حتى شبع و تجشأ ..اشتعل قلبه حنينا إلى أمه، تذكر حضنها الدافئ، و رائحة الخبز على التنور كلما استيقظ على صوتها الحاني ليتبرك بدعواتها برزق وفير ومستقبل زاهر..أي مستقبل زاهر والوطن الموبوء يتصدع فيسقط الردم فوق رؤوس أبنائه؟. تذكر حبيبته بابتسامتها الرقيقة و منديلها الأحمر الذي لا يفارق رأسها و نظراتها المتوسلة التي ترجوه أن ينقذ شبابها قبل أن يذبل على كرسي الانتظار.كيف السبيل و في الدرج شهادات و شهادات و في الجيب قروش..!!
قطرات من الماء البارد ترشقه فتلسع وجهه فيعود من بحر الذكرى حزينا أسفا..فجأة صار الموج يصرخ و يهز المركب هزات عنيفة ،اتقدت القلوب خوفا و ارتفعت الأصوات من هنا و هناك و صار المركب يترنح كجسد ثمل و زأرت الريح حتى ارتفعت لزئيرها موجة فصارت كالطود العظيم ضربت المركب ضربة محارب عنيد فقلبته رأسا على عقب ،أيقن الهلاك و اليم يبتلعه بهدوء حتى اكتسح الظلام كل الأرجاء..بيديه يجاهد ..يسبح و التيار يجذبه نحو الأعماق..يصرخ:
لا لا لا أريد أن أموت …دعني يا بحر أعود..أمي.. أمي..أنجديني..
وقبل أن تخور قواه رأى يدا تمتد إليه و تمسكه وصوت يناديه بني.. بني ..بدا له أنه يقترب من سطح البحر..اتقد الأمل في نفسه فصاح ..سأنجو ..سأعيش ..انتفض شاهقا ليكتسح نور الظهيرة عينيه؛ كانت الأم فوق رأسه تلف كفيها حول صفحتي وجهه و هي تردد:
كابوس يا ولدي..كابوس..
اغرورقت عيناه بالدموع ، عانقها و أجهش بالبكاء.

السابق
سعيد
التالي
تنكير

اترك تعليقاً