حوار

حوار مع الكاتب والناقد السوري محمد صبيح

القصّة التي تخوض في السياسة بشكل مباشر وتقريري أقرب للخبر الصحفي

مازالت سلسلة القصة القصيرة جداً في الممارسة العربية بإشراف الدكتور زهير سعود مستمرة في تدوير الأفكار ذاتها على نقاد وأكاديميين عرب لإيجاد نقاط تقاطع توضح الرؤية والتعريف والهوية لهذا الفن الأدبي الجديد، ويمهد الطريق لهواة هذا الفن لكتابة نماذج رائدة فيه.
الدكتور محمد ياسين صبيح ينضم إلى سلسلة القصة القصيرة جداً في الممارسة العربية. وهو أستاذ جامعي سوري، كاتب، وناقد، رئيس رابطة القصة القصيرة جداً في سوريا. له كتاب نقدي بالقصة القصيرة جداً بعنوان “القصة القصيرة جداً – رؤية تأصيلية”، ومجموعات قصصية عدة، قصيرة وقصيرة جداً منها: ناي من ريح، ونافذة بلا جدار، وأشرعة من ضوء، إضافة إلى ديوان شعر (لا أثر لكفّك على الجدار) ومقالات نقدية في الأدب الروائي والقصصي والشعري والفلسفة وغيرها وذلك في أهم المجلات الثقافية العربية والمحلية. لمعرفة المزيد كان لنا هذا الحوار معه:

  • كيف تعرّف باختصار فن القصّة القصيرة جداً؟

هي فن سردي حداثوي يمتلك جمالياته الذاتية المختلفة، والمضمّرة بالتشويق المعرفي والتأمل الإيحائي، والدهشة الممزوجة بالترقب والمتعة، هي فن الكتابة المكثفة والسريعة. ولقد كثرت التعريفات التي حاولت تقريب مفهومها، ولكن نرى أن أغلبها عام وقد ينطبق على أكثر من جنس أدبي، لذلك نجد أن التعريف الأكثر قرباً من مفهومها هو (أنها قصة بحدث تكتب بشكل مكثف وإيحائي) فهو يؤكد أنها قصة، وبالتالي فلها حدث وبقية العناصر، ومن ثم تكتب بتكثيف حتى تأخذ مشروعيتها من التسمية (قصيرة جداً)، وهذا ما نراه مناسباً، أما بقية التوصيفات فهي تحصيل حاصل.

  • هل ترى الفنّ جنساً أدبياً أم أنه نوع قصصي؟ وما الدلائل الجوهرية التي تستند عليها لإثبات الرأي؟

مفهوم الجنس الأدبي كمفهوم نقدي وأدبي وثقافي، يشير إلى تحديد الأنواع الأدبية الإبداعية حسب مجموعة من المعايير والمقومات الفنية، والذي قد يؤدي إلى تحديد ماهية النص الأدبي، حسب تلقي القارئ له من خلال مجموعة من المعايير التخيلية التي تبرز في أفقه الاستنباطي المرتبط بهذه المعايير الأجناسية، ولكن برغم وجود هذه العناصر والمعايير، التي تخص كل نوع أدبي، إلا أنه يوجد مجموعة منها تشترك فيها أنواع أدبية عدة، لكنها ليست تفضيلية، بمعنى أنها تكون أساسية تحدد ماهية هذا النوع كجنس مستقل، ولكن في ما يخص القصة القصيرة جداً، فلها معاييرها التي يمكن تحديدها (بالقصصية، ووجود الشخصية، والقصر وغيرها) وهناك من وضع بعض القوانين التي تحدد معيارية الجنس الأدبي مثل (المماثلة، والتواتر والأهمية والقيمة المهيمنة وغيرها)، وكذلك محاولة تصنيف الأدب إلى أجناسٍ بناءً على الاختلاف في طرائق إدراك الموضوع، فعندما يلقى نصاً ما رواجاً، فقد يغدو مثالاً يحتذى به في الكتابة.

ومثال الرواية البوليسية التي تنهض على موضوعاتٍ تشويقيةٍ بوليسيةٍ مكررة، تتمثل في اكتشاف المحقق للجريمة، وهنا يقول طوماشوفسكي بأنه (يمكن تحديد الجنس الأدبي بمقارنة الخصائص النوعية التي تصطلح بوظيفةٍ مهنيةٍ في الخطاب، وكل هذه المحددات موجودة ضمن القصة القصيرة جداً، وبرغم عدم اعتراف الكثير من النقاد والكتاب بأجناسيتها إلا أننا نؤكد أنها جنس أدبي مستقل، حسب كل المعايير الأجناسية التي تطرق إليها الكثير من النقاد.

  • كيف تنظر للخصائص التي تميّز القصة القصيرة جداً عن القصة بأنواعها: (الرواية، القصيرة)؟

نعلم أن ما يميز الرواية هو امتدادها الزمني والمكاني وتعدد الأحداث والشخصيات والكثير من الشرح والوصف، أما القصة القصيرة فهي تحتوي على عدد أقل عدد من الشخصيات ويمكن أن يكون فيها أكثر من حدث، وبالتأكيد لا تمتد زمنياً، إنما تتصف بسرعة معقولة في اجتياز الأماكن والزمن، وبعض الوصف الضروري للبيئة الحكائية، أما القصة القصيرة جداً، فطبيعتها المكثفة لا تشمل وصف أماكن عدة محددة، إنما المطلوب هو التلميح إليها ضمن مجال السياق القصصي، وكذلك الزمن لا يلعب دوراً محورياً، كما في الرواية والقصة، إنما هو ضرورة من خلال حصول الحدث ضمن حيز زمكاني سريع، ونظراً لتسارع التطورات الاجتماعية والتكنولوجية، الذي فرض أنماطاً سريعة من القراءة ساهمت بانتشارالقصة القصيرة السريع، وهذا كان واضحاً من خلال كثرة عدد المجموعات الأدبية التي تهتم بها على مواقع التواصل الاجتماعي. وكذلك هي ضرورة إبداعية حداثية، فكما أدى تطور الشعر إلى أشكال شعرية عدة، فالقصة أيضاً فعلت، وهذا تطور ديناميكي طبيعي، من هنا نرى أن القصة القصيرة جداً، حققت أجناسيتها وخصائصها التي نراها في التكثيف والإيحاء والقفلة المفاجئة وغيرها.

  • لوحظ خلاف بالرأي حول محددات الفن وما يمكننا نعته بالأركان، فكيف ترون تلك العناصر البنائية على أهميتها؟

نعم هذا الأمر هو مهم جداً نظراً لكونه يحدد ماهية وأركان القصة القصيرة جداً، فلقد تعددت الرؤى حوله وبالتالي تعددت الأركان، فنحن نقول إن هناك عناصر مهمة يجب أن توجد حتى يستحق النص أجناسيته، فكيف مثلاً نقول عن نص ما إنه شعر؟ وكيف يمكن أن نقول عنه إنه قصة قصيرة؟ وهكذا، وبالتالي لا بد من وجود محددات أو أركان لكل جنس أدبي تميزه عن غيره، ولا نقول شروطاً تعجيزية، إنما موجهة لتحديد الجنس الأدبي، هكذا يمكن أن نحدد للقصة القصيرة جداً بعض هذه المحددات، مثل (التكثيف، القصصية عن القصة القصيرة (حدث وشخصية وبداية ونهاية، القفلة المفاجئة)، وهكذا نراها هنا تختلف بالتكثيف والمفارقة.

  • هناك من يرى أن القصة القصيرة جداً هي القصّة الومضة، وبعض النقاد يرون أنهما جنسان أدبيان متمايزان، فكيف تنظرون لدلالة التعبيرين؟ وكيف تفندون موقفكم؟

لا شك أن التسمية بحد ذاتها تعد إشكالية كبيرة، فبعضهم يعد تسمية القصة القصيرة جداً بأنها الومضة، وهنا لا نوافق على التسمية من حيث كونها تختلط مع شعر الومضة ومع مفاهيم الومضة نفسها التي تختلف بماهيتها ومكوناتها عن القصة القصيرة جداً، أما إذا كان المقصود بمفهوم الومضة هي أجناسية جديدة تختلف عن القصة القصيرة جداً، فهنا لا نعترف بأجناسية هذا المفهوم الأدبي؛ لكونه يقدم جملاً نعدها حكماً أو مواعظ كانت تتداول منذ القدم، لذلك نعدها مقولات فقط ولا يمكن اعتبارها قصة، لأنها تفتقر إلى مقومات القصة كما ذكرنا سابقاً، وإن أغلب ما نراه من كتابات في الكثير من المجموعات الإلكترونية، لا يمكن اعتباره قصة بتاتاً! فعندما نقول قصة، فهذا يعني بالضرورة وجود حدث وشخصية وتواصل سردي، لنحصل على خاتمة، تحوي دهشة ومفارقة تعطي قيمة مضافة للقصة وتكمل فكرتها، أما ما نراه من قصص يقال عنها ومضة، فهي تعبر عن مقولات أقرب إلى الحكمة منها إلى القصة، وبعضهم الآخر يقترب من الخبر الصحافي سرداً وخاتمةً.

ففي الومضة مهما اجتهد الكاتب، سيكون من الصعب عليه الخروج من عباءة الحالة العامة للفكرة، دون المقدرة على الخوض في حدث ما، يعطي فكرة كاملة مع حدث مناسب، فالحدث فيها يأتي مقزماً، ليصبح حالة تقريرية تنقل خبراً، وليس حدثاً، أو ليعطي حكمة أو نكتة، ومن هنا تأتي خطورة اعتبار الومضة القصيرة جداً قصة، فهي باعتقادي تبتعد عن القصة كثيراً.

  • لا شك أن لكل فن من الفنون الإنسانية (ومنها الأدبية بالطبع) نموذجاً شاهداً، تكتمل فيه عناصر البناء الفنّي، فما نموذجكم الشاهد في هذا الفنّ؟ ولماذا؟

نعم يوجد الكثير من النماذج التي تكون رائدة في جنسها كقصيدة النثر والرواية وغيرها، وكذلك في القصة القصيرة يوجد الكثير من الإبداعات التي يمكن أن نعدها تمثل شاهداً أو نموذجاً لقصة قصيرة جداً ناجحة بمعاييرها ومكوناتها وأعتقد بأننا جاوبنا على السؤال 14 والذي يدور بالمحتوى نفسه.

  • يتفق النقاد على قيمة الكثافة في النص القصصي القصير جداً، ومن الواضح أن هناك فروقات في تحديد مفهوم التكثيف للقصّة، فما مفهومكم لهذا الركن البنائي؟

إن التكثيف الذي نعنيه هو الذي يختزن طاقة إبداعية سردية كبيرة، وذلك في كلمات وجمل قليلة، مشبعة بالتأويل والرمزية، فالمحافظة على متانة السرد، دون الوقوع في مطب الاستسهال، والوصف الزائد، والحشو، يعطي القصة ق ج، أهمية وشرعية وبلاغة في المعنى والفكرة، وبالتالي يجب أن لا يكون التكثيف هو الهدف بحد ذاته، بل وسيلة للحصول على قصة مكتملة الأركان. فالتكثيف لا يعني الاختصار بأي شكل؛ لأن الاختصار هو إسقاط بعض العبارات أو بعض الأحداث، إنما التكثيف هو فن صياغة الجملة التي تحتوي بطبيعتها السردية على قيم حدثية ودلالية إيحائية وغير محشوة بالوصف أو الشرح الذي لا يخدم مقصديتها، ولا يخدم تفاعل المتلقي معها.هو الذي يخلق أثراً دلالياً، دون أن يشرح ذلك صياغة، أو في جمل مسهبة. ثم إن قوة التكثيف لا يمكن أن نحصل عليها بشكلها المتقن من دون الإيحاء؛ لأنه يساعدنا على اختزال الكثير من الشروحات، عندما نوحي للفكرة فقط دون أي زيادة في الإسهاب.

  • يصرّ بعضهم على اعتبار القصصية أول ركن بنائي في حين يرى الآخر الحكائية، فهل ترون فروقاً بين المصطلحين، وأيهما ترونه الأنسب؟

الحكائية تأتي من الحكي، ومن وصف المشهد، إنما القصصية تأتي من وجود قصة، بمعنى أن تتكامل مع أركان التسمية، كحالة أدبية تبدأ بحدث وبوجود شخصية مع نهاية مناسبة، فالحكاية تكون سردية أي نص يعتمد على السرد البسيط ويغفل تفاصيل القصة ومقوماتها الفنية ولا يأبه كثيراً باللغة وغالباً ما تأتي الحكاية سرد لحدث تاريخي أو لسيرة ذاتية لشخصية ما وأحياناً تكون الحكاية بعيدة عن الواقع وتتخللها أحداث أسطورية أو خرافية لا تنطبق مع الواقع نهائياً، والقصة هي الحكاية بعد إعادة صياغتها وكتابتها واستثناء قائلها. أحداث مترابطة ومحبوكة ترويها شخصيات القصة وحوارات الأبطال فيها (وليس الراوي أو الحكواتي)، قـد يكتبها المؤلف ولكن خيال القارئ هو ما يشكلها ويرسم خلفية الأحداث فيها (لهذا السبب يتذوقها كل قارئ بطعم مختلف).

هكذا يمكننا أن نفهم القصصية أو القصة، فالحكائية إذاً تعني وجود سرد يحكي عن موضوع ما، دون أن تكتمل فيه عناصر القصة من حبكة ونهاية. من هنا نرى أن القصصية هي الركن الذي يجب أن نتداوله بدل الحكائية. لذلك نرى أن مصطلح القصصية يناسب بناء القصة ويصف حالتها الفنية التي يقال لها قصة، والتي تتضمن الحكائية كنمط أساسي خام يبنى على أساسها السرد النهائي القصصي.

  • تتمايز الأجناس والأنواع القصصية بسمات عناصر القصة للحدث والشخصية والبيئة وما ندعوه بالحبكة في تجميع تلك العناصر، فما الخصائص الواسمة لحبكة القصة القصيرة جداً؟ وكيف نميز كل عنصر عن قرينه في الأشكال السردية المغايرة؟

لا شك أن الحبكة مهمة جداً في كل الأجناس القصصية (رواية وقصة قصيرة) من خلال أهميتها في رسم الحدث وتعقده وتطوره وصيغة تفكيكه، ولأنها تعد النقطة التي تبئره وتجعل القصة مكتملة، ولكن في القصة القصيرة جداً، لا يمكن أن يبقى مفهوم الحبكة كما هو في باقي الأجناس الأدبية، لأن الزمن السردي قصير جداً، ولا يكفي لجعل الأحداث تتطور ببطء ضمن ظروفها البيئية، بل يأتي الحدث أو النتيجة بشكل مباغت، وهكذا تصبح الحبكة مضمرة، بشكل يهطل سريعاً، وقد تتمثل بالوقت نفسه مع بداية الحدث، وبالجملة نفسها. وإن كان للحبكة مراحل في الرواية أو القصة تتطور من خلالها، فإنها في القصة القصيرة جداً، هي حالة ومض سردي تبدأ وتنتهي بالوقت نفسه، هي دمج السرد والحدث والحبكة من خلال جملة واحدة، وهذا لا يعني عدم وجود سببية لها، بمعنى أن الحدث يبدأ بمسبب وينتهي بنتيجة، وهذا يأتي سريعاً دون تطور ظاهر، أو نمو بطيء، بل يأتي سريعاً كومض البرق، فالحبكة إذاً في الرواية والقصة القصيرة تكون ظاهرة ممتدة وتصريحية، أما في القصة القصيرة جداً، فهي مضمّرة، إيحائية ولا تظهر مباشرة، بل تكون سببية سريعة تمضي سريعاً إلى نهايتها.

  • هل ترون تمايزاً بين لغة القصة الكلاسيكية والحداثية؟ وما لغة القصّة القصيرة جداً؟

أولاً: تطورت القصة القصيرة على مدى عقود، بعد أن تأصلت انتشاراً على يد غوغول وتشيخوف وموباسان، وتعددت أساليبها وتقنياتها، من الرومانسية إلى التموضع الذاتي إلى الواقعية وغيرها من الأساليب التي تحولت من خلالها سردياً، ولكن المشكلة تكمن في عدم تطورها اللافت إلى الآن وذلك لسيطرة الأساليب التقليدية في القص والسرد عليها، وبقيت تراوح مكانها، من هنا نرى أن الفرصة أتت لتحقيق تطور ملموس من خلال القصة القصيرة جداً والتي من شأنها رفع سوية الأساليب السردية الحديثة إلى مستويات تليق بالسرعة والتطورات الحاصلة في كل المجالات.

ثانياً: نرى أن لغة القص القصير جداً يجب أن تتميز بالسرعة والتكثيف، وأن تتمازج مع الإيحاء والشاعرية، لأن هذه التقنيات تعطيها أشكالاً جمالية تليق بها، وقادرة على شد انتباه المتلقي، وهنا على الكاتب الانتباه إلى المقدرة على إضفاء أسلوب تشويقي في السرد، فبدون التشويق يفقد النص متعته وأحد أركان الجماليات السردية.

ونركز على تفاعل العلاقات اللغوية التعاقبية والعمودية، لأنها تنشئ بتركيزها قوة دلالية اختزالية تهيئ أرضاً خصبة للسرد القصير جداً، لأن يتطور نحو رشاقة قصصية مطلوبة. وهنا نوافق دي سوسير على هذا التعالق اللغوي بين الأبعاد الأفقية والعمودية.

ومن التقنيات التي يمكن أن تسهم في حداثتها وجماليتها، الشاعرية والتي ركز عليها الكثير من النقاد، من جان كوهين إلى ياكبسون وغيرهم.

  • ماذا تقول في صفات الخطاب السردي للقصّة القصيرة جداً؟ وكل تأطير للقصّة الأصلية هو بحاجة الخطاب بين جهتين؟

يعد الخطاب السردي حسب معجم السردي أتى بمفهوم الخطاب القصصي، وهو يمثل “مجالاً يتناول تداولاً لأقوال بين جهات مختلفة، بين المؤلف والقارئ وبين الراوي والمروي له، وبين الشخصية والشخصية وبينها وبين ذاتها لا سيما في المونولوج الباطني. فهو في المجال النقدي يقع في تقاطع تحليل النصوص والتطبيق الإجرائي، والإبداعات الأدبية، بينما يعد سوسير اللغة عبارة عن (نظام من الرموز يستعملها الفرد للتعبير عن أغراضه والكلام إنجاز لغوي فردي، يتوجه به المتكلم إلى شخص آخر يدعى المخاطب، ومن هنا تولد مصطلح الخطاب، بعدّه رسالة لغوية يبثها المتكلم إلى المتلقي، فيستقبلها ويفك رموزها، لذلك نعد النص يتضمن الخطاب، فالنص يشكل للغة المكتوبة، والخطاب يحدد كيفية روايتها وجعلها قابلة للمناقشة والتفهّم. فالخطاب إذاً يحدد لنا كيف نسرد الأحداث في القصة، ومن هنا يمكن أن يحدد الأسلوب والتقنيات الذي نسرد بها القصة، ويمكن تعريف السرد حسب تودورو بوصفه المادة الأساسية.

للخطاب السردي (بأنه نظام لغوي خاص يحمل حادثة أو سلسلة من الحوادث المتوافرة أساساً في (حكاية المتن) وتؤديها شخوص في أزمنة محددة وأمكنة معينة، يقوم السرد بإنتاجها فنياً على سبيل التخييل). ثم تكون مهمة الخطاب السردي تنظيم هذه المحمولات في نسق لغوي، فيكسبها شكلاً فنياً منتظماً في علاقات مبنية على قواعد تربط أبنيتها الداخلية بالأبنية اللّغوية، لتشكيل كتلة فنية هي النص الروائي. وهنا يمكن أن نميز بين نوعين من الخطاب أو منهجين: منهج سردي دلالي يهتم بالمضامين السردية، ومنهج سردي لساني يهتم بالعلاقات بين عناصر النص (أحداث وشخصيات وزمن ومكان)، وهكذا نجد أن الخطاب السردي للقصة القصيرة جداً، يتميز ببعض الأساليب والتقنيات التي يمكن استخدامها في السرد، حتى نحقق مفهومية الخطاب وشروط النص الأدبية، والتي نعدها متوافقة مع تقنيات التكثيف والحوار والشاعرية والإيحاء.

  • يرى بعضهم أن الجراءة ركن من أركان القصّة القصيرة جداً، في حين يراها بعضهم تقنية من التقنيات، فما رأيكم؟ وكيف تفندون ذلك في مخالفة الرأي الآخر؟

برأيي أن الجرأة تنقسم إلى قسمين أو نوعين: جرأة شكلانية، وجرأة مضمونية، فالجرأة الشكلانية ترتبط باستخدام الكاتب لأساليب جديدة غير مطروقة في الكتابة، وهكذا يغامر بتقديم نصوص قد لا تلاقي القبول من قبل النقاد والقراء، وهذه جرأة يغامر بها الكاتب على حساب سمعته، ولكنها برأيي مطلوبة لتطوير القصة القصيرة جداً، بغض النظر عن صوابية بعض هذه الأساليب من عدمه، أما والجرأة المضمونية؛ ترتبط بطرق الكاتب لمواضيع تشكل تابو للكثير مثل المواضيع (السياسية الإشكالية، والجنسية) وغيرها، هنا أعتقد أن على الكاتب أن لا يخوض في غمار السياسة بشكل مباشر وتقريري، لأن هذا يفقد القصة القصيرة جداً مهمتها وجماليتها وسويتها، ويجعلها أقرب إلى الخبر الصحافي، وياكبسون ركز على أدبية النص، من خلال رفع صياغته إلى المستوى الأدبي الإيحائي البعيد عن لغة التقرير اليومي. وكذلك الأمر بالنسبة للأمور الجنسية، فبراعة الكاتب هي ما تخلق المعادلة الصحيحة، دون الدخول إلى متاهات التشويق المجاني والإثارة المجانية.

  • يتردد مفهوم الثنائية اللغوية في بعض الدراسات الخاصّة بالقصّة القصيرة جداً، ماذا تقولون بالمصطلح وهل هو من الأركان أم التقنيات، أم أنه لا يمتلك قيمة نقدية في هذا الفنّ؟

أهم ما تقول به أو تدل عليه الثنائية، أن الواقع يتألف من كيانين أو جوهرين، أو مبدأين نهائيين، كوجود مادي مقابل الوجود الذهني، فأفلاطون وضع تقابلاً بين العالم المحسوس والعالم المعقول، هذا فلسفياً وأدبياً فإن الثنائيات راسخة في التفكير الإبداعي، فسوسير وجد في اللغة الكلام ثنائية تعبر عن تعارض أولي في اللغة، وبالتالي حدد أولويات لكل منهما. وهكذا باقي الثنائيات اللغوية كالكناية والاستعارة وغيرها.

لذلك نعد مفهوم الثنائيات اللغوية في الأدب بشكل عام وجهاً آخر للعملية الإبداعية، خاصة في الأجناس القصصية والقصة القصيرة جداً بشكل خاص، فقد تساعد الكاتب على تبئير الجملة والفكرة، من خلال عرض ثنائيات ضدية تعطي إيحائيات تأويلية مناسبة، فالثنائيات تعني الغنى الفكري والفلسفي والتأويلي، فهي قد تأخذ المتلقي إلى عوالم خيالية، من خلال رصد الشيء وضده الثنائي، فالأسود يتضاد مع الأبيض لكنه بالوقت نفسه يتكامل معه وبودهما تخلق عوالم من الألوان والأفكار متعددة.

من هنا نرى أن استخدام الثنائيات اللغوية (والضدية) مهم جداً في تركيب بنيوي قصصي، يعطي القصة القصيرة جداً أبعاداً جمالية ودلالية مهمة، تساهم في تعميق تجربتها وتعدد أساليبها الكتابية.

  • ماذا يقدم لنا الناقد نموذجاً خاصّاً به، يراه مكتمل البناء في القصّة القصيرة جداً؟

تعددت الأساليب الكتابية في القصة القصيرة جداً، ولكل أسلوب سحره وجماليته، لذلك نعد تعدد الأشكال السردية الخاصة بالقصة القصيرة جداً، عملية صحية ومطلوبة وتساعد في خلق تراكم إبداعي يعمق التجارب المتعددة التي ظهرت وتظهر على الساحة الأدبية، لذلك سأحاول إيراد بعض النماذج في هذا السياق:

النص الأول استخدم الحوار ليحقق قصة قصيرة جداً مدهشة، تمتلك الخيال والإدهاش والفكرة: وهو للكاتب يحيى أبو فارس حليس من مجموعة أشرعة من ضوء، الكتاب المشترك لرابطة القصة القصيرة جداً في سوريا.

رعاةٌ

سألني: من تنتظر هنا؟
قلتُ: زوجتي في الداخل ولنا أربعة أطفال.
أردف مندهشاً: لكن هنا دار كفالة الأيتام!
أجبت بثقة: نعم نعم فأنا ميت منذ سنوات.

النص الثاني هو للكاتب د. زهير سعود، من مجموعة أشرعة من ضوء، يمتلك تقنيات سردية مكثفة، وإيحاء قوياً، ولغة سريعة رمزية.

أممٌ

سحره ظله حين الشروق، حمله في الظهيرة وناغاه، استطال وثقل بعد الزوال. أهمله، بكى وناشده، تبدد بالمغيب.

النص الثالث لي:

حلم

مرَّ الموكبُ أمامَ محلِّ العطارِ، لم ينتبِهْ أحدٌ إلى الصخبِ الذي نشرَتْهُ العطورُ.. لكنِّي استيقظتُ مذعوراً، وأنا فوقَ الأكتافِ، ورحتُ أبحثُ بين الرؤوسِ المتحركةِ .. عن الكلمةِ التي قتلتني..

  • من الملاحظ وجود نشاط مميز لمقاربات هذا الفن، فما رأيكم بما ينشر على صفحات التواصل والكتابات الورقية؟ وما تجريه بعض المجموعات من مسابقات بخصوص الفنّ؟

لقد انتشرت في بدايات القرن الحادي والعشرين المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي التي تهتم بالقصة القصيرة جداً، وهذا أعطاها الزخم الكتابي الواضح، وجعلت الكثير من الكتاب يلجؤون إلى هذه المواقع بغية التواصل والنشر، وبرأيي فإن هذه المواقع قدمت خدمات كثيرة للقصة القصيرة جداً، وأسهمت في بلورة العديد من آلياتها، نتيجة التفاعلات المباشرة بين النقاد والكتاب، ولكن بالمقابل ساعدت على نشر العديد من النصوص التي لا تنتمي لهذا الجنس الأدبي، وكذلك المسابقات قدمت خدمات مميزة نتيجة التنافس والقراءات التي تعقب النتائج، وهنا أصبح الكثير من الكتاب يترقبها ليعرف المستوى الذي وصل له. ولكن لازال النقد من خلالها متواضع ولا يقدم المطلوب منه.

  • هل من نصائح تقدمونها للهواة في كتابة القصّة القصيرة جداً؟

من أهم النصائح التي يمكن أن توجه للكاتب المقبل على الابداع:

  • عدم التعجل بالنشر، والقراءة المكثفة في مجاله، لأن القراءة هي ما يخلق لديه الخلفية الثقافية الإبداعية، ثم أن يتقبل ملاحظات النقاد الإيجابية، لأنها توجهه إلى مكامن الخلل في كتاباته.
  • محاولة الدخول إلى النص والحدث مباشرة بإيحاء مناسب، دون أن يقول مضمونه مباشرة وذلك ليحقق التشويق المطلوب.

  • الاهتمام بالعنوان لأن يكون إيحائياً ومناسباً وقصيراً قدر الإمكان. الابتعاد عن الشروحات والوصف والاكتفاء بالتلميح إلى البيئة المرافقة للحدث.

  • الاهتمام بالقفلة وجعلها قوية وصادمة وفيها دهشة ومفاجأة.

طبعاً نحن لا نقيد الكاتب بأي حدود وشروط، ولكن هي تلميحات لمحاولة تقديم قصص قصيرة جداً مناسبة للعصر وخالية من التشابه مع القصة.

السابق
استعصاء
التالي
كيد

اترك تعليقاً