القصة القصيرة

حِمَمُ السّراب

دبّ الشّحوب في غُصيناتهم الممتدّة نحو الأفق..
الجدب يطارد الرّواء الفارّ مرعوبا من وريد إلى وريد..يدركه، يمسك بتلابيبه، ينشب أنيابه في العروق الغضّة..ينتفضون وجعا وجزعا..
يتهامسون:” ما عاد في ذي الأرض ما يستحقّ الحياة..”
طفقوا يلملمون ما اختزنوه ليوم تُشيح فيه الشّمس بوجهها عن دروبهم، بعض دنانير ومكاييل من العزم..
انسلّ من فراشه وقد تناهى إليه شخير والده العجوز تقاطعه بين الحين والآخر بعض زخّات أنين والدته وهي تكابد سياط الرّوماتيزم تجلدها بلا هوادة..
عند باب غرفتهما تسمّر، خانته الخطى، ركبتاه ثقيلتان كأنّما صُبّ فيهما طنّ رصاص، ما عادتا تحملانه..
قرفص.
رأى نفسه بميدعته الزّرقاء يقف شامخا..
أمّه تقرفص أمامه تسوّي له ياقة القميص، تقبّل وجنتيه، تتشمّم كفّيه الصّغيرتين، تتخلّل أصابعها شعره، تحتضنه ولؤلؤة نفيسة تنطّ على خدّها.. تمسحها، تبتسم، تلثم الكفّين الصّغيرتين، تهمس له:” منذ اليوم لن أناديك إلّا “سي الأستاذ” حتّى لا يسبقني إليها أحد.. أسمعت “سي الأستاذ..؟”
رأى ، وهو يغالب الأديم يدعوه إلى الارتماء في حضنه، ذاك الأستاذ يكبر فيه، يسوس خطاه، يرسم له بوصلة الهدى ونقاط العبور، يهبه الرّداء، فيندسّ في جلبابه ويظلّ فيه مقبورا..
تحامل على نفسه واستند إلى الجدار وانتصب واقفا.
غلبته دمعة وهو يجرّ خطاه خارج الحضن الدّافئ، انسابت على خدّه كقبس نار، حطّت على شفتيه، فتح فاه وامتصّها ، بملوحتها يمسح مذاقات مرارة الخذلان.
مدّ يده إلى رتاج باب الحديقة يفتحه.
انتفض خافقه وهو يَنْشَدُّ من كمّه، اضطربت شفتاه وهما تغالبان صرخة، رآهما به يلحقان، يتوسّلان إليه ، دموعهما هطلا يروي الجدب المعشّش فيه، اختنق بعبرة حارقة، مثقلا وجعا كأنّما على رأسه الطّير.
التفت..
أغصان الوردة الحبلى بانتظارات الرّبيع تشبّثت بكمّ قميصه الصّوفيّ..
تشظّى بين الفرح والأسى.
تمتم وهو يتخلّص منها:” حتّى أنت…؟”
…………………..
تسلّلوا إلى المركب المتواري خلف صخرة صلدة.
همهم البحر معاتبا.
هجم الموج عليهم فارتعدت فرائصهم وسهام الرّذاذ تُثخن وجوههم الفارّة إلى جحيم، تزاحموا على سطح المركب والموج مِكَرٌّ مِفَرٌّ، مُقرّعَهم تارة ولاثما أجسادهم الهرمة مُذْ فجر العمر ارتحالا في المجهول تارة أخرى..
صاح الرّبّان:” يا كريم..” فانسحبوا إلى القبو بعضهم فوق بعض كقطيع أجرب يتخاطبون بالمناكب في عتمة برائحة العفن..
بين هدهدات ورجّات كانوا يتأرجحون..
صاح صوت:” إنّي أختنق..”
انهالت عليه المناكب تقريعا وترويعا..
فرّ من الصّمت صوت آخر:” معدتي ستنفجر..”
لطمته الهسهسات”هسسسسسسسس..”
متكوّرا يدسّ رأسه في قميصه الصّوفيّ، شَعُر بسائل لزج ساخن يندلق على حذائه، صُعق..
رأى وجه والده يمتقع وهو يعود إليه من المدرسة بعد جولة لعب مع الأتراب بحذاء مُترب لا وجه للنّضارة فيه، سمعه يصيح :” أهكذا ربّيناك..؟ دائما أردّد على مسمعك أنّ نظافة حذائك من نظافة سريرتك.. يا سي الأستاذ!!!. أقضم عمري أجمّل الأحذية وأرتّبها ليتباهى النّاس بنضارتهم وهم ينتعلونها وأنت تشقّ زحام الحيّ بحذاء قد شوّهه الجرب..”
احتار..
ما فقه سرّ غضبة والده الإسكافيّ ، لكنّه أقسم ألّا يشوّه وجه حذائه ما عاش وصار يلعب مع الأتراب حافيا..
حاول تفحّص حذائه فلم يجد إلى ذلك سبيلا..
في ركام الأجساد هذا بات جسده أشلاء موزّعة حيث شاء لها المقام..
حاول مسح الحذاء في أحد الجيران لكنّ المركب ارتجّ وتوقّف فجأة..
غمرهم صمت المقابر..
القلوب في معتقلها تنتفض كفأر انطبق على ذنبه فخّ..
همس أحدهم:”غرقنا..” ، فردّ آخر :” هلكنا..”
دبّت بينهم حركة خمدت سريعا وأصوات جلبة تتناهى إليهم من السّطح..
حملقت العيون في العتمة، تاهت في ضباب الأسئلة، في همس ردّد:” رضاك يا أمّي..”
لذعته مرارة صوت فيه يصرخ:”رضاك..؟! أتركتَ لرضاها فسحة وقد طمرت روحها فقدا بلا رائحة للإياب..؟!”.
من خلف عتمته رآها تستلّ جسدها الوهن من الفراش، تدلف خارج غرفتها وهي تردّد:”يا فتّاح ..يارزّاق..”، من فراشه الدّافئ يصغي إلى دعائها وهي تختم صلاتها، يشتمّ رائحة الخبز تفوح من التّنّور القديم ، ينتشي بامتزاجها بعبق القهوة وراحتاها الحنونتان تحملهما إليه في غرفته وهو يرتضع بقايا حلم أو يتجرّع مرارة حنق وهو يرى شهادته منتصبة على الجدار يكاد يعلوها الصّدأ وأمّه تتعهّدها كلّ يوم حتّى لا يغبرّ وجه ابنها الأستاذ فيها..
ارتجف وهو ينحشر في زاوية الحنين الضّيّقة، ودّ لو يتحوّل نورسا فيطير عائدا..
” ألا تبّ الرّحيل عنك يا أمّ..”
تمتم وهو يغالب رغبة مريرة في الإجهاش بالبكاء..
قطع حبلَ الشّرود صوت الرّبّان مناديا:” يا سلام..”، فتدافعوا إلى السّطح، دفعتهم يد الرّبّان واحدا تلو الآخر نحو مركب الصّيد المجاور والإيطاليّ المنتصب على سطحه كنسر الأكوادور يعدّهم بعينين تنضحان مكرا وسخرية ودفقا آخر ما تبيّونه..
تهامسوا:” ظفرنا بالمنى..”
من تحتهم تمتم البحر بلكنته الإيطاليّة:” بل غرقتم في الدّنى..”
وحُشروا في قبو اختلطت فيه رائحة سمك متعفّن برائحة الوقود وروائح المصاقل والخوازيق القديمة…

السابق
معدم
التالي
سوء

اترك تعليقاً