تشبه ذات لا أتصورها الآن، كل ما علي فعله أن أكتب وحسب، تستفزني شوارع المدينة للخروج والوقوف عند عتبات المحلات الضخمة وخاصة تلك التي تستفتح واجهاتها بالصحف والمجلات الملونة حيث أجدني أتوقف تلقائيا عند الصحف التي تهتم بالأدب، والفن، ولا أميل للأخبار والمواقف الدرامية التي لا تتوقف أبدا ، دائما ما أقول في نفسي إن المشتغلين في هذا المجال يملكون روحين، واحدة يتنفسون بها وأخرى للانسلاخ من ذاتهم الحقيقية،… تتكاثف السحب عند أعلى قمة خلف المساكن العتيقة، أعود محملة بأكياس مزينة من الخارج أطرحها في غرفتي لأشاهد ما اقتنيته من أشياء لربما تدخل على نفسي شيئا من المتعة، أشعل المدفأة وأجهز فنجان القهوة، كانت الكتب تشبه بلورة فضية، ساحرة، أحد مقتنياني اليوم وبعد هذا الخروج الطويل ليس كتابا مستهلكا كذلك الذي يعرض على المنصات ليل نهار يقرأه الصغار والكبار دونما جدوى، أراني أبحث عن شيء لا يتكرر، جملا موغلة في الأسطورية فخمة مستفزة، صارخة تدعوني لمؤانستها، كتبا ليس لها مكان، نعم كنت أبحث عن كتب ليس لها مكان، ومحرومة من المساجلات والدعايات، والتلفزة والقيل والقال، كتاب صغير يربض بجانبي كثعلب مراوغ، في كل مرة اصطحبه معي، أوراقه ظريفة مثيرة غامضة، ابتعته من رجل فقير يطرح باقة على ناصية شارع مغمور، لا يبالي بالأمطار المتساقطة التي تنوش كتبه المبعثرة، قال لي وهو يضع مجموعة من الكتب في الكيس الملون، الكتب تنتعش بالمطر، تصبح أوراقها أكثر نعومة وحروفها تتصخم، وتصبح مشتهاة أكثر من عيون النساء، سألته وأنا أتصفح أحد الكتب الضخمة تلك الكثيرة العدد من الصفحات، من أين مصادر هذه الكتب -يا عم- كأني به تنهد قليلا ثم قال إنها مكتبة جدِّه، كانت في قبْو بمنزل العائلة، هذا القبو مليء بكثير من الأشياء، تضعها العائلة كلما أرادوا التخلي عنها، وكانت هذه الكتب تحت الأنقاض ، فبدرت فكرة بيعها؛ فمنها يستفيد غيري والأهم أن أكسب الوقت والمال، فجلست هنا وما وجدت غيرك يشتريها !…
فهمت من حديثه أنهم لا يهتمون بهذه الدرر وليسوا من هواتها، وكثير من الناس ينفرون من مناظر المكتبات الموروثة عن أجدادهم ، فما أن يموت الجد ، تظل كتبه ذكرى لبضع سنين، ثم سرعان ما تطالها الأيدي لتهوي بها بين أقبية النسيان، وعدته في المرة القادمة سآتي لأشتري ما تبقى من كتب ذات وسامة تأخذ بالروح قبل القلب .. إنها مثيرة حدا للاشتهاء قراءة وحملا ودفئا … نسيت أن أخبره في أحد الأيام أنني وجدت قصاصة لجده كتب فيها أن لديه عائلة أخرى، هم من سيحملون اسم مكتبته، جئت لنفس المكان أبحث عن البائع .. فلم أجد سوى أثرا لأوراق متناثرة، عدت أدراجي .. كانت سلسلة الجبال تقف كما هي خلف أبنية مدينتي وخلف المنازل العتيقة المائلة، بينما تلبدت الغيوم أكثر وأصبحت الشوارع غرقى بدموع المطر… اختفيت في الحروف أسترسل ببصري نحو ذاك الفضاء، منتظرة يوما آخر لعلني أجد نصف المخطوطة عند ذاك البائع فنصفها هنا والنصف الآخر مازال تحت الأنقاض.
