القصة القصيرة

غياهب الحقيقة الغائبة

في تلك الليلة من ليالي العشرين يوما ،تاهت العقول ،وحارت واستقرت حين دوَّى ذلك الصوت من بين الجدران متنقلا بين زوايا المكان،ومتصاعدا في سماء الفناء الذي تزاحمت في أرجائه سلع و أغراض رثَّة ، هَاهُنا يقبع المتشردون فيبيتون بين تلك الجدران المتآكلة.
اتجهنا نحو مصدر الصوت،لقد كانت تلك المرأة تصيح بأعلى صوتها،أسرعنا الخطى نحوها ،وجدناها جالسة القرفصاء، فتملكتنا الحيرة، وبدَت على مُحَيّا بعضنا علامات من أثر ابتسامة عالقة اختلطت بغصة ألم ،ودمع يكاد ينهمر من معاينة واقع مطموس وراء ستار ، كانت المرأة تنعي شبابها، وتلعن اليوم الذي ولجت فيه هذا المكان،ولكن لا مفر لها من مكان لن يأويها غيرَه ، هذا ما أفصحت عنه حشرجة ٌصاحبت صوتها الصّادح ، فضاعت حروف من كلماتها الشاردة .
سألها أحدهم قائلا : ما اسمك ؟
أجاب أحد الموجودين بالمكان نيابة عنها : “مْنَّانَة ”
فأشار له آخر بأن يصمت ليترك لها الفرصة لتتحدث عن نفسها .
هل لديك بطاقة تعريف ؟
هل لديك أطفال ؟
ما هي المدة التي قضيتِها بهذا المكان ؟
كانت ترد بكلام غير مفهوم ،وكأنها لا تعي مَعْنى لتلك الأسئلة ،فلا يسجل الكاتب شيئا على تلك الأوراق،وظن آخرون أنها لا تريد الإجابة في وقت وجيز ،عن أسئلة تحمل ذكريات أخذت من أيامها الكثير ،فكل سؤال كان يتردد على مسمعها ،يوقظ جراحا لم تندمل.
كانت تسرح في كلامها عن أبنائها الذين لا تعرف لهم وجهة ،وعن عائلتها التي طردتها ، وعن الليالي التي تقضيها بهاته الغرفة التي لا تجد فيها إلا المعاناة.
صاحت قائلة:إنهم يأتون إليَّ ليلا، ويفعلون بي ما يشاءون ،يعتدون عليّ،وتتكررالأحداث في كل ليلة ،قال أحد الزائرين آنذاك :آه! إنها تُغتصَب كل ليلة ،وهذا ما أرادت قوله . وا عجباه !! لم يكن لقولها أي وقع على الحاضرين . رفعت رأسها إلى الأعلى تنظر إلى سقف المكان ،فكشفت عن ذلك الخَدّ الذي غادره الجمال ولم يترك إلا أثرا شاخصا،والْتَفَّ بتجاعيد رسمت أقواسا ومنحنيات ،تؤرخ لأيام حملت الكثير المبتور،واستطردت حديثها عن تلك المرأة التي تبيت في تلك الغرفة المتواجدة في الطابق الأول قائلة: إنها المسؤولة عما يحدث لها في هذا المكان .
غُصْنا في دوامَة من الحَيرَة ،وانصرفنا عنها متجهين صوب المرأة التي أشارت إليها في حديثها ،

تقدم المُستجوِب وسألها أسئلة محددة ، قالت:إن أبناءها قد خطفهم الموت، و تركها زوجها ولا تجد من يواسيها في نكبتها.كانت إلى جانبها حقيبة صغيرة، بداخلها بضعة أوراق ليس بها دليلا شافيا عن هويتها، ولا عن مكان سكناها . قالت: إنها تظل طوال النهار تتسول ، ولا تأتي إلا ليلا لتنام في غرفتها هاته .
احتار الكل في أمرها ثم قصدوا الأشخاص الآخرين المتواجدين في المكان :
ما اسمك ؟
اسمي: محمد
هل لديك بطاقة تعريف ؟
لا
أين مكان سكناك الأصلي ؟
مراكش
وماهي المدة التي قضيتها بهذا المكان ؟
خمسة أشهر
ما عملك ؟
أقوم بأعمال مختلفة وكثيرة ،مرة حمالا للبضائع ،وأخرى بائعا متجولا،ومتسولا ، ولصا …
ثم سجلنا معلومات عنه، وعن كل المتواجدين بذات المكان ،وانصرفنا والتساؤلات تتقاطر علينا .
قال صديقي عماد: إن حالتهم محيرة ، وتساءل آخر :هل هؤلاء مرضى، أم منسيون في هذا الركام ،أو أناس قد راودهم عن أنفسهم البؤس واليأس في وقت مبكر ؟
بقي هذا السؤال عالقا ،حاول البعض إبداء توضيحات بخصوص حالتهم فلم يفلح، وقال آخر وكأنه يريد أن يُطَوح بالحقيقة بعيدا : هذا المكان مكان عبور،وحالة المتواجدين فيه مزرية ولا تدعو للاطمئنان ،ولكن ليس بوسعنا فعل أي شيء .
غادرنا المكان ركبنا السيارة ،ذهبنا إلى المكتب، وحاولنا جرد وتصنيف هذه الحالات ،فلم نجد لها مكانا في أوراقنا،ورمينا بالأوراق ،فرمينا ذلك البناء النّتِن المليء بالتأوهات والأوجاع، وكان دوام الحال ليس محالا ،ليبقى هؤلاء في ذلك المكان كالجرذان المنتشرة قرب جحورها تترقب سواد الليل.

السابق
بلقيس
التالي
لا..تعدّ النجوم

اترك تعليقاً