النص للكاتب عبد المجيد المحمود
نص القصة على مجلة لملمة من هنا
القراءة
إن هذا النّص ،بكلماته و عنوانه يتكون من أثنى عشرة كلمة ..نص قصير جدا، و هذا يذكرنا بما هو أكثر منه قصرا نص أرنست همنغواي : ” للبيع حذاء طفل لم يلبس قط ” في ست كلمات ، بل يذكرنا أيضا بما يوجد في الأدب الإنجليزي الحديث و الذي يسمى : بقصة ست كلمات ( Six word story) ، أصغر حكي ممكن. أعتقد أنّ قصر الحجم، و الافراط في ذلك، لا يناسب الذّائقة العربية، الولوعة بالحكي. إلا إذا كان قد أعِدَّ بإتقان فنّي قصصي، بحيث كلّ كلمة لها دورها الوظيفي في النّص… فالقاص عبد المجيد أحمد المحمود، و إن كان مقلا في انتاجه القصصي، إلا أنّه حين ينشر ، تأتي ابداعاته لافتة شكلا و مضمونًا. فالنّص الذي نحن بصدده يُجاري نسقَ الكتابة التي تحاول توظيف الحجم بأقل ما يُمكن من الكلمات بغية تحقيق اختلاف نوعي و عددي..
فمادا عن النّص ؟
1 ــ العنوان : نجــاة
التجاة لغويا لها عدّة معان حسب المراد و السياق، منها : الناقة السّريعة . السّحابة. النّجوة من الأرض…و لكن ما يهمنا، هو ما يلائم صياغة النّص و هو : ( النّجاء) فنقول :
نجا ينجو نجاةً ونجاء ونجوا ونجاية: – نجا من كذا: مثلا خلص ” من حادث سير”. فالنجاة هي الخلاص من أذى أو مكروه ما، و من كلّ ما من شأنه أن يشكّل مَخافة…
و يبدو أنّه من العناوين التي تلخص فكرة النّص .إذ سرعان ما يتبادر للذهن المعنى اللّغوي ( النجاء) فيقبل المتلقي على النّص انطلاقًا من خلفية لغوية.. إلا أنّه سيشعر بعد قراءة كلمات النّص القليلة، أنّ العنوان كان مُخادعًا، ما يُعرف في علم العنوان: بالعنوان المزيف
( faux titre) و قد تكون تلك أوّل مُفارقة، بين العنوان و النّص. لأنّ النّجاة لم تكن حقيقية بقدر ما كانت وهمًا بالخلاص في ذهن البطلة / الشاة.
2 ــ التناص (Intertextualité)
ــ ملخص النّص: خوف الشّاة من الذئب، دعاها للانفراد عن القطيع.
ــ المسوغ الافتراضي: أن الشاة ترى القطيع كلّ القطيع، فريسة للذّئب. و أنّ النّجاة أن تنفردَ بعيدًا. و في تصرفها مُسوّغ عكس المُتعارف عليه. من حيث قيمة التَّجمُع، و أهمية الانتماء للجماعة. ما يعرف في علم الاجتماع ( Belonging).
ففكرة النّص لها تداخل نصّي و ما ورد في الجديث الشريف :
عن أَبي الدرداءِ قالَ: سَمِعتُ رسولَ اللَّه ﷺ يقول: “ما مِن ثَلاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلاَ بَدْوٍ لا تُقَامُ فِيهمُ الصَّلاةُ إِلاَّ قدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيكُمْ بِالجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا يأْكُلُ الذِّئْبُ مِنَ الغَنمِ القَاصِيَةَ ” رواه أبو داود بإِسناد حسن.
إذاً، اختيار الشاة الخاطئ، هو اختيار المصلين الذين يتركون صلاة الجماعة فينفردون، و ينفرد بهم الشيطان. كما ينفرد الذّئب بالشاة القاصية.
3 ــ السّارد:
ما دام السّرد رهان التّواصل ( L’enjeu de communication ) حسب ما يرى رولان بارت. فإنّ القاص عبد المجيد أحمد المحمود اختار ساردا عليما . السّارد في النص يعلم ما يدور في ذهن البطلة/ الشاة: فهي خائفة من الذئب ، و غير مطمئنة وسط القطيع، و حدّدت هدفَ الانفصال طلبًا للنّجاة .. فالسّارد يحسُّ و يعلم ما تعلمه الشّخصية، فهذا يحقق: التبئير الدّاخلي، أي: الرّؤية مع و من تمَّ تحقيق الذاتية ( Subjectivité).
4 ــ الخرجة :
و نقصد بها الجملة الأخيرة في النّص، جاءت مفتوحة على كلّ الاحتمالات و التأويلا ت الممكنة.. و تلك أجمل الخرجات الواعية و الفنّية، متى ما توفرت ..لأنّها إيحاء غير مُباشر للمتلقي، أنْ يختار الخاتمة التي يرتئيها انطلاقًا من نسقِ و تركيبِ النّص، فيكون بذلك مشاركًا في عملية الكتابة، و الانتاج القصصي.. عكس ما كان عليه في السّابق.. يكتفي بالاستهلاك، و الرضا بما انتهى إليه النّص.
5 ــ اللغـــــة:
تبعًا لما هو شائع..اعتمد القاص عبد المجيد أحمد المحمود الجملة الفعلية [ خشيت، اتخذت] و الجملة الفعلية تفيد الحركة و الفاعلية عكس الجملة الاسمية التي تفيد التبات و السّكون، تكون أقل و قعًا و ثقلا على الأذن، كلّما كان النّص متناهيا في القصر. و لكن العكس ليس صحيحا ، فكلما توالت الجمل الفعلية في نص أطول نسبيا . كلّما أصبحت أجراسا مُزعجة، تربك الأسلوب، و تقلق متعة القراءة..و فضلا عن ذلك، فقد استعان القاص بحرف عطف واحد ،هو الفاء التي تفيد الترتيب مع التعقيب.
6 ــ الاضمار و الرّمز
نظرًا لقصر الحجم ككل نصوص ال(ق ق ج)، بصبح من الضّروري ممارسة عملية الصّمت، التي هي إضمار فنّي مقصود احترامًا لفكر و نَباهة المتلقي. فمن المُضمرات
أولا ـ: عدم وجود الرّاعي أو الإشارة إليه / رمز للمسؤول الغائب، و المنعدمُ دورُه، و كأنَّ
القطيع/ رمز للرعية، هائم مشرّد وحده بدون قيادة.
ثانيا : عدم ذكر مصير الشاة / و هي رمز للفئة التي تحاول الانفصال عن المجتمع بحثا عن حياة أمنة مُستقرة ،خلافا لحياة الفطيع. و خوفا من افتراس الذئب / الذي هو رمز لكل ما يتربص بشباب الأمّة من مخاطر البطالة، و الفقر، و الإدمان ، و الضّياع على الأرض. و الموت المحقق في عرض البحر. من خلال مغامرة للاجتياز إلى الضّفة الأخرى حلمًا بحياة أفضل، و تحقيقًا للنّجاة التي قد تكون و قد لا تكون.
هكذا نلاحظ أنّ نصا من جملتين .. من اثنى عشرة كلمة ..حقق اكتمال الصّورة الاجتماعية، التي تجسّد وضعًا خطيرًا تنحدر إليه أقطارنا العربية بسبب الافتقار لحكومات رشيدة ، و نظم ثورية عتيدة.. الشّيء الذي جعل الشّعب قطيعا تائهًا بدون راعٍ يقوده و يحميه. و كلّما انفصل فصيل يريد النّجاة، و جد الخطر يتربّص به. و كأنّه يهدّده داخل القطيع، كما يهدّده و هو خارجه.. لذا كانت النّجاة حلمًا ليس إلا.