القصة القصيرة

مصير

مسكينة.. لم تكن تدري مصيرها.. و أن عودتها إلى أحضان عائلتها.. المكان المناسب الذي جاءت منه قد يكون محل سترها و عفتها.. و دون سابق إنذار و على إيقاع سريع وقعت الفاجعة ألم و حزن و دموع و حسرة.. عقب امتداد سنة و نصف من رباط الزواج الذي انفصل في لحظة حاسمة.. دون أدنى تفكير و تعقل.. كان التسرع بملك العاطفة و تحت ضغط الإلف و العادة.. و مما ساهم في ظلمها حماتها التي وقفت بكل ثقلها إلى جانب ابنها.. تسانده فيما ذهب إليه من إجراء تعسفي.. اتخذه بعيدا عن أية عاطفة إنسانية أو وخز ضمير.
هكذا و بكل بساطة.. المرأة متعبة تحتمي بالسرير في حالة من الوهن و العجز عن الحركة بجانبها تنام رضيعتها حديثة الولادة التي لم يمر عليها إلا بضع ساعات.. تقدم منها بكل وقاحة و صفاقة و صدمها بكلمة الطلاق و بضرورة مغادرة المنزل فرصتها قبل عودته في المساء.. تواصلت مع والدتها و ألحت عليها بالمجئ.. و عندما وصلت أخبرتها بالواقعة وما جرى لها دون ذنب اقترفته .. و بالتالي لم يكن بدا من الوالدة إلا أن تطلب من ابنتها أن تجهز نفسها و تحمل رضيعتها لاصطحابهما و العودة بهما من حيث أتت.
الرجل بعد مرور أيام قليلة من الواقعة.. لم يطق صبرا .. سارع إلى الزواج مرة أخرى.. فحظي بفتاة جميلة.. و بعد معاشرة استمرت لسنوات.. لم تنجب و كانت عاقر.. فما كان منه إلا أن سرحها بالمعروف..
لأنه يبحث عمن يحمل اسمه في هذه الحياة.. و يكون سنده و عونا له على نوائب الدهر.. فأشير عليه بامرأة ذات نسب و خلق فتزوجها.. و كانت خلال مسيرتهما الزوجية.. في كل ما تنجب له مولودا ذكرا إلا أن الموت كان له بالمرصاد فيخطفه.. و هكذا كان يعيش طوال السنين لحظاتها تترواح بين الفرح و الحزن.. إلى أن أصيبت خلالها زوجته بمرض عضال ألزمها الفراش.. عجز الأطباء عن اكتشاف مسبباته و الوصول إلى علاجه.. و بقيت تعاني آلامه و شدة قسوته عليها ليلا و نهارا.. و زوجها يقوم برعايتها و الاهتمام بها بكل جهده و قوته.. إلى أن حان الوقت الذي لفظت فيه أنفاسها الأخيرة.
و مرت عليه سنوات عجاف.. عاش فيها وحيدا بين أربعة جدران لا أنيس و لا جليس يرفع من معنوياته و يخفف عنه مرارة الوحدة.. مما دفع بأحد الشباب جاره في الحي إلى إيداعه دار رعاية المسنين ترفّقا به.
و بعد شهور من وجوده بالدار لاحظ ذات يوم أن المسنين في حركة غير اعتيادية.. يرتدون أحسن الثياب.. يتبادلون الكلام الطيب و بالابتسامات.. فإذا بفتاة جميلة لطيفة تدخل عليهم بإطلالتها البهية.. ثغرها ينفرج عن ابتسامة مشرقة فرحة.. جلست بينهم تطمئن على أحوالهم و تحادثهم و تجبر خواطرهم بحكايات مسلية و قصص ممتعة.
و بينما هي كذلك حتى تقع عينيها على مسن.. ينزوي بركن منفرد بنفسه بمنأى عن الجميع.. تقدمت منه و خاطبته بلباقة و أدب.. فما كان منه إلى أن حلت عقدة لسانه.. فصارحها مما كان منه و ما مر به من أحداث.. هنا فقط تذكرت ما حكته لها أمها من ظلم و تعسف لحقها من زوجها و طردها شر طردة إلى الشارع بعد طلاقه منها.. في اليوم الأول من ولادتها معها.. و هي ما زالت في لفائفها.. وكيف عنت الأمرين في تربيتها و تعليمها حتى بلغت اليوم من النضج و الوعي الكبيرين.. بإحساسها العاطفي و ما شعرت به من ميل و انجذاب إليه.. أدركت بحاستها أن هذا الرجل المسن والدها.. و لكنها كتمت الأمر و انسحبت من أمامه بهدوء و سكينة و لم تنبس ببنت شفة.
و حين عادت إلى المنزل.. حدثت أمها بما جرى بكل التفاصيل و الحيثيات.. جمعت الأم شجاعتها و بطيبتها و حسن تدبرها أبلغتها أن عليها أن تعتني به و تحسن إليه فهو والدها مهما كانت الظروف و الأقدار.

السابق
التيه
التالي
بِرّْ

اترك تعليقاً