الخاطرة الطويلة

اعتراف

أعترفُ.. والاعتراف محبة للحقيقة.
أعترفُ، وللاعتراف وجه واحد. إخراج ما كان يمور في عمق السريرة، إلى سطح وجلاء العيان.
أعترفُ أنني حين قررت أن أقف على رؤوس الأشهاد، وأقول بأعلى صوتي:
– اليوم.. واليوم فقط، أمكنني التخلص من قيود النفس الأمارة بإخفاء الحقيقة.
– اليوم.. واليوم فقط، سيؤول الباطن اللئيم، إلى ظاهر نقي شفاف.
– اليوم .. واليوم فقط، سيعرف العدو سر العداوة، والصديق عمق الصداقة.
– اليوم .. واليوم فقط، سيكشف عن ساق، ويُكْرع كأس التّرياق.
أعترفُ .. والاعتراف كبد الحقيقة.
وأنا الجاهل الذي أفنيت ردحا من عمري في الإخفاء والتورية والتقية. أقف اليوم أمامكم لقول الحقيقة وعلى رؤوس الاشهاد. ليس في خُرس كاهن، ولا أمام هيبة فقيه، أو في محراب زاهد.
لكن، ما الجاهل؟ أو ما الجاهلية؟ وبأي مفهوم أنسب نفسي للجهل والجاهلية؟
هل لأنني أدمنت إخفاء الحقيقة؟ وهل كنت أدرك حقا ما الحقيقة حتى أخفيها؟
ما كنت أدركه، أنني كنت أعيش يومي ليومي، كما عاش أبي وعاشت أمي وعاش كل قريب مني أو في محيط عايشته وعشت بين قيمه ومبادئه وأعرافه. فهل أبرئ نفسي بالإيحاء بمسؤولية المحيط في إخفائي للحقيقة؟ قد يكون لي عذر وأنا طفل وصبي وحتى يافع، لكن لماذا جاهرت دوما بالإخفاء وأنا في أرذل العمر؟ هل لأنني جُبِلت على الخوف، أم الرياء؟
في كل الأحوال، حان الوقت لإفشاء الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة. لم يعد في العمر بقية للخوف. لكن ما الحقيقة؟ هل هي ما يؤمن بها العامة وبسطاء الناس؟ أم هي ما نطق به فلاسفة الماضي وعلماء اليوم؟ هل ما جاءت به الشرائع والأديان؟ أو هل هي ما نادى به المبشرون والمصلحون؟
لكل منهم حقيقته، فكيف لي أن أميز بين الحقائق حتى أدرك ما الباطل؟
لم أفهم بعد، لماذا أُرْغِم سقراط على شرب السم، وهو من أسس للحكمة؟ ولماذا قُتِل الشافعي وهو صاحب مذهب فقهي ؟ ولماذا سَحَل الغوغاء جسد هيباتيا ابنة ثيون على أديم الإسكندرية؟ ولماذا حُرِق جوردانو برونو على وتَد الأكوان؟ ولماذا كُسِرت ضلوع عثمان بن عفان وهو من الخلفاء؟ ولماذا اغتيل مالكوم إكس فقط لأنه أسود؟ ولماذا قطع لحم ابن المقفع وشُوي تحت ناظريه؟
من كان يملك الحقيقة، القاتل أو المقتول؟
تذكرت سردية لا أذكر أين قرأتها تقول:
” كان رجلان يقصدان دمشق، فلاحظ أحدهما قبرا على جانب الطريق، فسأل مرافقة:
– لمن هذا القبر؟
– لفلان رضي الله عنه؟
– كيف مات؟
– قتله أمير المؤمنين رضي الله عنه
– ولم قتله؟
– لأنه كان يترضى على فلان رضي الله عنه..”
ماذا يفيد اعترافي أنا الفقير إلى الله، ولم أقتل أحدا، ولم أحرق جلد أحد، ولا قطعت لحم أحد، ولم أرم برصاصة أحدا. لم أترض على أحد ولم ألعن احدا. لكن رغم ذلك فلي جرائمي الصغيرة، ولدي ما أخفيه.
إذن، سأعترف وأقول الحقيقة التي أخفيتها طويلا، وتكتمت عليها دهرا…
كنت.. كنت.. كنت..
” أتبول في الفراش أثناء منامي حتى زمن متأخر من عمري.. !!! ”
كتابة حسن قرى
مراكش في 28 مارس 2020-03-28
زمن الحجر الصحي – كوفيد 19

السابق
الخندق
التالي
بصمة

اترك تعليقاً