القصة القصيرة

الملحد، أنــا وشيراز

جاد، كان زميلي بالفصل، لكني لم أحدثه قبلا.. كنت أجده منعزلا عن بقية الزملاء دون أن أعي السبب.. كان ذلك قبل أن يقرر ذات حصة الجلوس على مقربة مني.. أتذكر أنها كانت حصة “الثقافة الأمريكية American Culture” التي يحضرها جميع الطلبة وأحيانا يحضرها كل طلبة الجامعة الذين يجيدون الانجليزية..
كانت تلك المرة الأولى التي أتحدث فيها إلى جاد.. وكانت المرة الأولى التي أعرف فيها أنه كان ملحدا.. هكذا بدون مقدمات بدأ يحدثني عن وهم الجنة والنار، وعن ما أسماه وهم الخالق.. حدثني عن أشياء كثيرة.. كان واثقا مما يقول.. لم يكن جاهلا على أي حال كما هو حال باقي الملاحدة الذين اتخذوا من الإلحاد موضة..
– أي إله هذا الذي لم ينقذ أمي من الموت لتتركني وحيدا وأنا دون العاشرة.. أي إله هذا الذي لا يمنع أباً من ترك زوجته المريضة مع ابنها الرضيع ليتزوج أخرى.. أي رحمان هذا الذي لم يرحمني وأنا مجرد طفل..
لم يكتف بهذه الاستفهامات العاطفية التي من الواضح أنه حاول عبرها أن يضع توطئة رومانسية لعلي أتعاطف معه ومع ما سيقوله تاليا.. وهو ما تأكد لي بعد أن انتقل للأهم بحديثه عن وهم كل ما هو ديني.. لم يتوقف عند الإسلام بل سحب لعنته على كل الديانات بما فيها بعض الديانات اليابانية والصينية التي لا يعرفها أحد غير معتنقيها.. كان يتحدث بعبارات فلسفية سهُل علي أن أكتشف مصدرها.. وكأنه كان يقوم بسرد حرفي لكتاب ريتشارد دوكينز المعنون بـ “وهم الإله The delusion of God”.. كنت قد قرأت الكتاب قبلها بسنة جراء موجة الإلحاد التي انتشرت في تلك الفترة بالجامعة، خاصة لدى طلبة الفلسفة واللغات.. ربما ذلك يرجع أساسه إلى كون هؤلاء الطلبة هم الأقرب إلى الفكر والثقافة الغربيين.. هذا باعتبار أن فكرة الإلحاد غربية الجذور.. ليس مهما إن كانت بدايتها هي الثورة الفرنسية 1789 أو حتى قبل ذلك بقرون، وأقصد هنا فترة انتشار ما عرف بـ” الهرطقة ” أو الخروج على الدين عند اليونانيين. المهم أننا في المشرق تبنيناها متأخرين، تبنيناها كما نتبنى كل شيء سلبي..
ظل جاد يحدثني لربع ساعة تقريبا، لم يوقفه إلا الدكتور الذي ولج الفصل ليقدم محاضرته، التي ما كنا نستطيع معها إلا الصمت بحكم الطريقة الممتعة التي يتحدث بها الدكتور عن المجتمع الأمريكي، وكيف يستطيع بلغته الجميلة وكلماته المنمقة أن يهدم أمام أعيننا وهم “الحلم الأمريكي”..
انتهت الحصة سريعا بساعاتها الثلاث، كانت أمامي نصف ساعة قبل الحصة التالية.. وجدتها فرصة لاحتساء بعض القهوة في مقصف الكلية إلا أن جاد طلب أن يرافقني.. كان بإمكاني أن أرفض إذ غالبا ما أفضل مجالسة نفسي وحيدا، إلا أني هذه المرة اجتاحني فضول عميق لأجالس جاد أكثر لعلي أكتشف كيف يفكر من اختاروا اللادين.. لذلك وافقت على مرافقته لي..
بدأ حديثه من النقطة التي توقف عندها سابقا، كنت أنصت له بتمعن دون أن يُشتت فنجان القهوة انتباهي.. لم أقاطعه قط، كان رهانه أن يُقنعني بما يقول وكان رهاني أن أجعله يفهم أني أحترم ما يقول.. تحدث بكثير من الدلائل العقلية التي نسخ بعضها من كتاب “سيكولوجية الإلحاد” وبعضها الآخر من كتاب “نهاية الإيمان”.. إلا أن كل ما قاله كان تافها بالنسبة لي، كان داخلي يهمس بعبث: “شنو كيخربق هذا؟”.. لم أقل ذلك، اكتفيت بالصمت.. كنت وما أزال مُحصنا ضد كل ما يمكن أن يهز عقيدتي وإيماني.. ليست وحدها النصوص الشرعية ما حصنني، ولا هي كتب السيرة، ولا هي دروس ديدات والشعراوي والبوطي والصابوني… حصنتني تلك الدروس البسيطة التي ضمتها مقررات سنوات دراستي الابتدائية.. أما مقررات اليوم قد تقودك للإلحاد مباشرة.. حصنني أيضا المحيط الذي نشأت فيه.. والأهم أن الطبيعة التي يؤمنون بها هي ما حصنتني ضد الانزلاق.. فالعدم لا يصنع شيئا..
– هل لي أن أسألك صديقي المساتي، لماذا أراك تتجه إلى مسجد الكلية وقت الظهيرة؟ تصلي؟ لماذا؟ ما قيمة هذه العبادة؟ ما قيمة الدين نفسه؟
هذه المرة كنت مضطرا لأتحدث، لأرتجل بعض الكلمات التي لم أهدف عبرها لإقناعه بقدر ما هدفت للتعبير عما أقتنع به..
– الصلاة يا صديقي جاد ليست مجرد عبادة قد تغدو عادة عند كثيرين، الصلاة أكبر من ذلك بمراحل.. الصلاة هي لحظة تطهر من كل ما يدنس يومنا، الصلاة هي التجرد من مادية الكون والرقي لملاقاة الخالق، الصلاة هي الخلاص من شوائب كثيرة تحيط بنا.. أما الدين يا صديقي فهو ليس مجرد لائحة من الواجبات والعبادات.. الدين هو منهاج ننظم عبره حياتنا، الدين هو ما ينقلنا من الفوضى والعشوائية إلى النظام، الدين هو ما يمنح لحياتنا اتزانا لحظة تختل كل الموازين، هو ما يعيدنا لجادة الصواب حينما نفقد البوصلة…
– تأخرنا على الحصة صديقي، ما رأيك أن نكمل الحديث غدا مساء..
– لا محاضرات غدا.. حسنا سأنتظرك بنادي التعليم بعد العصر.. وإن تأخرت فهذا رقم هاتفي..
– اتفقنا..
في الغد لم يحضر وحيدا.. كانت إحداهن تتأبط ذراعها.. الغريب أنها كانت ترتدي حجابا على طريقة السعوديات.. لا يظهر من جسدها إلا عينيها وشفتيها وخديها ويديها.. لا أثر لمواد التجميل بوجهها الذي بدت ملامحه جميلة للحد الذي أفقدني واجب الوقوف احتراما لقدومهما..
– هذه شيراز، خطيبتي.. هذا عبد السلام، صديقي..
للحظة وقفت متسمرا، مستغربا، غير مستوعب لشيء.. استفهامات كثيرة تناسجت في مخيلتي.. جاد خطيب شيراز..؟ جاد الملحد، شيراز المسلمة المتدينة حسب ما يوحي به شكلها..؟ بأي منطق..؟ لم يوقف استفهاماتي إلا بسط شيراز يدها لمصافحتي..
– تشرفت بك يا عبد السلام..
– الشرف لي عزيزتي شيراز..
طلبت من أجلهما كوبا شاي حسب رغبتهما.. وقبل أن نخوض في أي حوار، اختار جاد أن يعرفني على شيراز.. قال أنها تدرس الصيدلة، وتسكن بالحي الجامعي.. قال أنهما ينتميان لنفس المدينة، صفرو، وأنهما التقيا قبل سنتين، كانا زميلان بثانوية علال الفاسي.. ثم قاطعته هي:
– كنت أعرفك قبل ذلك.. انعزالك كان يجذبني لكن ليس لدرجة أن أقتحمك..
كانت تتحدث بابتسامة إلا أن جاد لم يكن منتبها لما تقوله، انشغل بهاتفه لثواني، بدا أن الأمر أزعجها لكنها أكملت حديثها بنفس النبرة ونفس الابتسامة.. أعاد جاد هاتفه لجيبه، كانت تلك اللحظة لتي رن فيها هاتفي معلنا توصلي برسالة جديدة.. فكرت في تأجيل مطالعتها احتراما لهما إلا أن جاد أومأ لي برأسه وعينه دون أن تنتبه شيراز.. الأمر الذي فهمت منه أنه يطلب مني فتح الرسالة.. كانت رسالة منه: ” فلنؤجل حديثنا عن الدين لوقت لاحق، شيراز لا تعلم بأمر إلحادي.”
فقط لحظتها انجلى استغرابي، فقط لحظتها فهمت كيف لعلاقة حب أن تنشأ بين جاد وشيراز.. الحقيقة أني ابتسمت منتشيا وبعمق لحظتها، فقد أدركت أن علاقتهما مرتبطة بزمن محدد ولن تكون قط أبدية.. ما بني على باطل فهو باطل.. الكذب يقتل الحب.. أعترف.. أُعجبت بشيراز..
تحدثنا كثيرا يومها، لثلاث ساعات تقريبا.. وقبل أن نغادر بدقائق قيل الأهم لحظة أخبرني جاد أنه سيغادر المغرب في اتجاه الولايات المتحدة في اليوم الموالي وأنه سيمكث هناك لسنتين على الأقل.. فهمت أن أحد أفراد أسرته دبر له أمر السفر وتبعاته.. أخبرني أيضا أن لقاءنا هذا كان الهدف منه أن يعرفني على شيراز لأساعدها إن هي احتاجت لشيء خلال فترة غيابه.. قال أنه يثق بي وأنه سيترك لها رقم هاتفي للضرورة.
ترك لي معلومات الاتصال به هناك وطلب مني أن أدون له بريدي الالكتروني وحسابي على الفيسبوك.. أخذت ورقة ودونت له المعلومات لكني في آخر الورقة كتبت: ” اقرأ هذا الكتاب.. لماذا أسلمت؟ لصاحبه روجيه جارودي”..
عانقته وغادرت تاركا إياه رفقة شيراز لتوديعها..
لم يكن لي لأنتظر اتصال شيراز بي، كنت ملزما بالمبادرة.. وطبعا لم يكن أمر الوصول إليها صعبا.. ولجت على لائحة أصدقاء جاد بالفيسبوك وحصلت على حسابها.. لم أرسل لها دعوة صداقة ولا كتبت لها شيئا.. أجلت الأمر إلى أن أتأكد من أمر سفر جاد واستقراره هناك بأمريكا.. انتظرت لأسبوعين.. ثم وجدتني أقف عند باب كلية الطب والصيدلة في انتظار أن أصادف شيراز فلا أنا أخبرتها بقدومي ولا أنا متيقن من تواجدها بالكلية وقتها.. وقفت عند الطرف الآخر من الشارع وقررت أن أنتظر لنصف ساعة.. تركت الأمر للحظ الذي لم يسعفني في يوم.. لكنه قرر أخيرا أن يسعفني.. انتظرت لدقائق فقط قبل أن تلوح لي شيراز بين الأجساد المزدحمة عند باب الكلية، كان لباسها الأسود الفضفاض بارزا وسط التنانير القصيرة وبناطيل الجينز الضيقة.. تأنيت قليلا إلى أن ينجلي الجمع وخطوت في اتجاه الشارع حيث الكلية محاولا أن أجعل من تواجدي هناك مجرد صدفة، خاصة وأن الشارع يجانب حيا سكنيا مكتظا بالمقاهي والمحلات التجارية…
– هل ستصدقني إن أخبرتك أني كنت أنوي الاتصال بك اليوم..؟
– القدر يجيد صنع الصدف عزيزتي شيراز..
– بحق هو كذلك.. هل أستطيع أن أستغلك في ساعتين من يومك..؟
– سأكون سعيدا أن تستغلني أنثى كأنت..
– أحتاجك في ترجمة فقرتين من كتاب إن أمكنك، ولك الكثير من الشكر..
– من أجل جاد سأفعل ذلك.. وربما من أجلك أيضا..
الغريب أنها قالت أنه لا يجيب على رسائلها ولا هو يتصل بها، كان أيضا لا يجيب على رسائلي الالكترونية.. لم نتوقف عند ذلك كثيرا، توجهنا لأقرب مقهى بالمكان، ترجمت الفقرتين بسرعة دون للأخطاء التي أكون قد ارتكبتها فقد كنت حريصا على أن أوفر بعض الوقت لمحادثتها..
– إذن ماذا تفعلين غير الدراسة؟
– أرقص الزومبا كل صباح قبل أن أحضر للكلية..
– جميل.. أحب الرقصة تلك..
– وأنت ماذا تفعل غير الكلية؟
– أكتب الكثير من العبث..
تحدثنا لساعة إضافية دون أن ندرك ذلك، لم نتحدث قط عن جاد.. كان يمكنني أن ألعب ورقة إلحاده وأنهي ما بينهما لأجعل من نفسي بديلا.. لكني لم أستطع أن أكون بذاك الخبث.. قلت محدثا نفسي أن علاقتهما ستنتهي على أي حال بمجرد ما يخبرها بأمر إلحاده فلا بأس أن أنتظر.. لكن ذلك لم يكن يعني ألا أحاول الانتصار عليه بشرف..
كثرت فقرات شيراز التي تريد الترجمة، وكثرت مصادفاتي أمام الكلية.. امتد ذلك لأربعة أشهر.. ثم وجدنا أنفسنا نلتقي بمواعيد متفق عليها.. كان أولها بمقهى clock..
– أتعرفين أن اسمك يعني بياض الحليب..؟
– وهل تعلم أني تعلقت بك؟
لم يصدمني جوابها، كنت أتوقع قولها ذلك في أية لحظة.. وحتى إن لم تقله كنت سأبادر لقوله.. لقاءاتنا الكثيرة صنعت رابطا بيننا، صرت أعرفها عن عمق وصارت تعرفني عن عمق..
– خطيبة صديقي أنت شيراز..
– ليس بشكل رسمي.. مجرد اتفاق شفهي..
قالت ذلك بتلذذ.. فما كان علي إلى أن أبسط يدي اليمنى لأمسك يدها اليسرى.. وهمست:
– واضح أني أحببتك أيتها المغفلة.. ولكن أرجوك لا تخبري جاد بشيء.. فقط لننتظر سيمر كل شيء بخير..
همست بذلك وأنا متيقن من أن حقيقة إلحاد جاد هي ما ستجعل كل شيء بخير بيننا..
إلا أن القدر اختار مصيرا مختلفا لنا نحن الثلاثة لحظة وصلتني رسالة الكترونية تأخرت لخمسة أشهر، كانت رسالة قاسية:
– السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أنا جاد.. جزأك الله خيرا على الكتاب.. لقد أنقذني من الظلمة وأهداني النور..

السابق
قدر
التالي
خلود

تعليق واحد

أضف تعليقا ←

اترك تعليقاً