القصة القصيرة جدا

تاريخ في الحبل السري

ساقه الفضول نحو الرفوف في أعلى الردهة، تلاشى الضوء فجأة، أشعل القنديل، وقعت عيناه الشاخصتان على لفائف من ورق وهو يتعرق متلهفًا، نفض الغبار، يتفحص أوراقًا مشوشة ورثها عن أبيه… لَفَتَتهُ كلماتٌ خُطَّتْ بِالحبر الأحمر:- “الأمية التي سمعت لقول ربها (أفلا تعقلون) قد آمنت؛ أنجبت مَنْ مُهِرَتْ بحروفهم ألبسة الغرب.” ذَكَّرَتْهُ الأمية بأمتنا، واستفهم خياله مزدحما: -“أأخالها اعتمدت كثيرا على ذاكرتها الحاسوبية؟! بل أظن عقلها مؤهلا لفهم رسالات السماء أكثر من عقولٍ طالما تلاعبت بإرثِ فكرِها؛ تلاشى الحبر، بُعثِرَ الورق… أليس السؤال عن معنى العقل أمرًا سخيفًا في زمانها؟! لعمري إنه أبسط ما عَرَفَتْهُ؛ بعد حين سادت على أخواتها، بعقولها بسطت الأرض غابات وأثمرتْ فروعُها الأقلامَ”. هذا ما تَذَكَّرَهُ عن أبيه.

فجأة هبَّت الريح، تطايرت الأوراق من يديه، خَبَا النُّور و حَلَّ الظلام مرة أخرى؛ اِجتَرَّتْ مُخَيِّلَتُهُ الحروف؛ غدت ذاكرتُهُ كُتُبًا مُنِعتْ من النشر، أغمض عينيه، كأنَّه يتلاشى رويدًا في غيابة الجُب… وبعد سنين، ودَّع إخوةَ يوسف لمَّا استدبر القضبان… عَلِق برأسه تعبيرُ أحلامِ أخِيهِم عندما فَصَّلَ السِّمَان من العجاف؛ صاح بأعلى صوته: – “لم يُدَرِّسْهُ يعقوب في أرقى الجامعات بل نصَّبه العزيز وزيرًا على خزائن الأرض”. اِحمَرَّ وجه كبيرهم عندما علم بأمره، ركله بقدمه نحو نفق دودي ولما فتح عينيه دارت الكهرباء المفصولة عن بيتهم منذ البارحة، عَملت أجهزة البيت من تلقائها… حملقت عيناه على الشاشة المتدلية، بَثَّتْ حلقة من “برنامج افهم عقلك”…

كانوا ثلة من المفكرين لم يتَّفقوا أبدًا على مفهومٍ للعقل!.

السابق
فراق
التالي
مواطن

اترك تعليقاً