القصة القصيرة

حالة مرضية

نظرت إلى الطبيب بعين الاستجداء وهو جامد، وجهه متقلص قسماته لاتحي بشيء، ينظر إلى أوراقه ويصغي لسماعته ، وأنا أقف في حيرة، هل مرضي عضال؟..مسحت بيدي على أجزاءجسدي المنهك.. بالأمس كنت أتجول في الشوارع المكتظة، كنت في قمة السعادة والنشاط، شعرت ببعض الإرهاق، سقطت بلا وعي، وجدت جسدي ممدداً على فراش ثلجي أمام هذا الطبيب القاسي.. رن جوال الطبيب بلحن راقص.. ألو.. ابتسم ملء شدقيه.. وضع الموبايل في جيب ثوبه الأبيض وتجهم وجهه.. نظرت بعيون ثاقبة..أخيراً تحدث بعد أن كاد قلبي يتوقف من القلق..لاتقلق ياولدي ستبقى في المستشفى فترة من الزمن لاستكمال الفحوصات.
لم أتوقع للحظة أن الفترة ستطول، لم أتصل بأحد لأيام مرت، أطباء يروحون ويجيئون بفحوصي، بعضهم يزم شفتيه، وآخر يرفع حاجبيه ،أتقلب بين أيديهم بجسدي الغض، وفكري الشارد أبحث عن كلمة أو لفظة، تبث في قلبي بعضاً من راحة، ممرضات بلباسهن الأبيض، يتبادلن أدوارهن بشك ذراعي بوخزات، وأتألم لمنظر دمائي وهي تسري بين أيديهن، لم تسعفني ابتساماتهن العذبة، ولا بعض مسحات الجمال في وجوههن.
بعد مرور ثلاثة أيام من القلق والاضطراب والعقل المشوش، دلفتْ إلى الغرفة بلباسها الأبيض، أجملهن وأكثرهن بشاشة، بعد شك جسدي بحقنة آلمتني، قالت: غداً ستخضع لعملية جراحية.. ارتعش كياني، شعرت بشحوب وجهي، وسكن الخوف قلبي، خفت من السؤال، بعد هنيهة نظرتْ إلى وجهي، استشعرت قلقي، همست: لاتقلق، هي عملية استكشافية لمعرفة كنه الورم بجوار قلبك.
بالأمس خفق قلبي، رأيتها تسير مع والدتها تتهادى بقدها المياس، التقت عيناي بعينيها السوداوتين، سحرتني بسمتها، بهذه السرعة جلست متربعة بجوار قلبي، أم استقرت داخله؟ فتورم..نعم، ارتعش جسدي من نظرتها، هل أصدق الحب من أول نظرة رغم عدم إيماني به؟ لم أشعر بالطبيب القاسي القسمات وهو يلج الغرفة، استهجنت ابتسامته وهو يسأل:
-هل أنت متزوج؟
-لا
-ماذا تعمل؟
-أنا طالب جامعي
-أين والديك؟
-لم أرد إزعاجهما لأمر بسيط
اختفت بسمة الطبيب، وقدحت عيناه بعض الشرر وصرخ في وجهي
-من قال لك الأمر بسيط؟
ارتبكت وانكمش جسدي وشعرت بوجهي يتجعد ورعشة قوية هزتني
برعب، سألت:
-ماذا بي؟
-نحن نشتبه بورم خبيث، ويجب أن تخبر والديك على الأقل قبل إجراء العملية الجراحية.
-لاأدري كيف أخبرهما؟ فهما لايملكان هاتفاً، وأنا وحيدهما ونعيش من المنحة الجامعية التي أحصل عليها، كما أنهما هرمان ولايتحملان خبر مرضي.
عادت البسمة لوجه الطبيب وقال:
-لاعليك ، فقط أرجو أن ترتاح وتوقع على هذه الورقة حتى نقوم بإجراء العملية الجراحية، وإن شاء الله يكون الورم غير خبيث، فنجتثه ثم تعود لوالديك.
وقعت الورقة دون النظر لفحواها وأنا أسأل بتلعثم:
-ماذا إذا كان الورم خبيثاً..؟ هل ستنتهي حياتي هنا؟
-ابتسم الطبيب، بل قهقه واهتزت نظارته الطبية، بل كادت تسقط عن وجهه وهو يقول:
-قلت لك لاتقلق، ستخضع لعلاج، وإن شاء الله ستشفى في كل الحالات، وكما ترى مدى الاهتمام بك، ولم يطالبك أحد بمصاريف العلاج رغم أنك في أرقى المستشفيات الخاصة.
أعطى الورقة للممرضة الجميلة والمبتسمة دائما، وهمس: ضعيها في ملفه قبل أن يتركني في حالة قلق واضطراب، بدأت أشعر بوخزات في قلبي وآلام في كل انحاء جسدي ،تذكرت سهري ليلة سقوطي مغشياً، لم يغفُ لي جفن وأنا أستعد لآخر أيام فحص السنة الثالثة من دراسة الاقتصاد الذي أعشقه، لم أدرِ كيف سقطت بعد خروجي من قاعة الامتحانات، ولم أعلم من نقلني لهذا المستشفى لأعيش حالة القلق والاضطراب، ويسري المرض في أعضاء جسدي .
مرت ليلة سوداء في حياتي قبل العميلة، أفكر في والديَّ المسنين، وقلقهما لغيابي وماذا حدث لهما،وكيف السبيل لرؤيتهما قبل العملية وأنا محجوز داخل غرفة ممدداً على سرير، هل أهرب ولا أجري العملية؟ ماذا لو كان مرضي خبيثاً، هل أخبرهما؟ أم أخفي عليهما؟ ولو هربت، ماذا أقول لهما، نهضت وخرجت من باب الغرفة وقبل أن أخطو خطوة واحدة إلى الممر، هاج المستشفى وركضت الممرضات والممرضون بهلع نحوي، وضرخ أحدهم:أنت ممنوع من الحركة، وبسرعة البرق كنت محمولاً بين عدة أيدي، ووُضع حسدي المهلهل على السرير، ورافقني في الغرفة لأول مرة، ممرض ضخم الجثة، حتى حُملت على سرير متحرك إلى غرفة العمليات، وجسدي يتنفض رعباً وفزعاً، وعينايَ الزائغتان تتفحصان الوجوه الكثيرة المكفهرة بلا أي مشاعر، لحظات ولم أعِ شيئاً، لاأدري الوقت الذي غرق فيه عقلي في أعماق بحار البنج.
فقت، عاد عقلي إلى تفكيره الضائج، ألم في جسدي، خراطيم تتدلى من جسدي وأخرى تتدلى في أنفي، فتحت عيني بصعوبة، الطبيب القاسي يقف مبتسماً وبجواره الممرضة الحسناء وقال:
الحمد لله تمت العملية بنجاح ولم يكن ورماً، بل كيساً دهنياً يضغط على القلب وقد تم استئصاله، ثم أردف مجرد أيام قليلة وتعود إلى بيتك.
شعرت براحة نفسية ولكن ما أدهشني أن جرح العملية، أشعر به في خاصرتي، مما أثار استهجاني ،ودب الشك في قلبي وكدت أفقد صوابي .
بعد ثلاثة أيام أخرى وقد أزيلت كل الخراطيم من جسدي ووقف الطبيب القاسي الوجه بابتسامة، وقد اختفت قساوة وجهه وهو يقول: ألف حمداً لله على سلامتك وهو يمد يده بظرف كبير أصفر وآخر صغير أبيض، فتحت الصغير وجدت به أوراقاً نقدية ،استهجنت ذلك، فتحت الظرف الأصفر به ورقة مقوية ومؤطرة ببرواز أنيق، صعقت وأنا أقرأ كلمات الشكر من إدارة المستشفى، ومن الوزير لتبرعي بكليتي لإنقاذ حياته.

السابق
مسرح
التالي
حبيب

اترك تعليقاً