القصة القصيرة جدا

عزيمة فتاة

تدفن حبها تعصره حتى يقطر دما.. تشيح بوجها كلما تصادف ونظر إليها، ترمقه نظرات العشق بطرف عينها حتى لايراها ويسبر جوفها وفؤادها الملتهب.
إنه شاب وسيم يسلب ود كل فتاه، أنيق في ملبسه يمتلك قدًاً رشيقا وقواماً ممشوقاً، وأنا فتاة جميلة ولكن بسيطة أعمل ممرضة لأنفق على أسرتي، وهو ميسور الحال يعمل في بنك، نسكن متجاورين ونتقابل صدفة.. ليس صدفة أنا أتعمد الخروج إلى عملي وقت خروجه ، دائما أبحث عن وسيلة لأشاهده وأنظر اليه وأشيح بوجهي كلما نظر إلي.. وأرمقه بطرف عيني.. لا أريد علاقة حب تؤدي إلى زواج.. أسرتي تحتاجني أبي المقعد وأمي الطاعنة في السن، وأخوتي كلٌّ مع أسرته بالكاد يكفي حاجته.
داهمتها هذه الأفكار وهي تقف في ردهة بيتها تراقبه يسير في الشارع وتتحسر على شبابها وجمالها تنظر الشمس وهي تجنح إلى الغروب قشعريرة البرد تسري في جسدها والنسمة الرطبة تداعب وجنتيها.
دوى انفجار قوي هز بيتها والبيوت المجاورة، ارتعدت مفاصلها وصرخت.. ألسنة لهب ودخان كثيف يتصاعد من بيت سقط متهاويا أمام عينيها مجاورا لبيته.. صرخت بصوت مرتفع، سقط الشاب الأنيق على الأرض، بملابس نومها ركضت إلى الشارع حاولت مساعدته، سقط فاقداً الوعي لا دماء تنزف من جسده، ارتاحت قليلا ربما الصدمة من شدة الأنفجار .. هرعت سيارات الإسعاف والمطافيء إلى المكان تنقل المصابين بالجملة والسيطرة على النيران المشتعلة، بخبرتها كممرضة ركبت مع الممرضين وانطلقت إلى المستشفى.. بذل الأطباء جهدهم، إنه غير مصاب بأي جرح مغمى عليه، بعد العلاج استفاق من غيبوبته، حاولت مع الأطباء والممرضين إيقافه فلم يستطع رجلاه لاتقوى على حمله.
مرت أيام والمحاولات تبذل لمعرفة سبب شلل رجليه، بعد كل الفحوصات وصور الأشعة تبين وجود شظية صغيرة جدا بحجم رأس دبوس اخترقت عموده الفقري واستقرت في نخاعه الشوكي أدت إلى الشلل.
أجمع الأطباء على حاجته إلى عملية جراحية خطيرة جدا فوق طاقة المستشفى.. مرت أسابيع وهي تمرضه في المشفى وتبذل أقصى جهدها للعمل على راحته مما أدهش العاملين ووالدايه، فهما يعرفانها جيداً، ويمدحان دائما دماثة خلقها، لم يكتشفا السر المدفون في قلبها، سر حبها المكتوم … ثمنا وقفتها إلى جانب ولدهما.
بعد شهر أو يزيد قرر الأطباء إرساله للعلاج بالخارج، إلى إحدى البلاد الأوروبية، بعد إبداء والده عدم استطاعته مرافقته بحجة أعماله وأسرته المكونة من أطفال صغار اقترحت إدارة المستشفى مرافقة أحد الممرضين.. وقفت شامخة مرفوعة الهامة واثقة بنفسها وقالت أنا المرافقة له.. لم تلفت لدهشة العاملين بالمستشفى فقال أحدهم: والدك المقعد ووالدتك المسنة.. أجابت بلا تردد يتولى إخوتي رعايتهم حتى أعود.. وقف والده مندهشا حائراً ماذا يفعل، اقترب منها وقال: كلام الناس والأهل وأخوتك ماذا سيقولون؟ أجابت بخجل ممزوج بالعزيمة القوية.. إذا لم يكن لديك مانع نتزوج ونعقد قراننا قبل السفر.. زادت دهشة الأب من جرأتها وقوة بأسها وعزيمتها.. شعر بنشوة في صدره وراحة ولكنه أجاب كيف ذلك يا ابنتي ولا ندري، سيعود إلى صحته ويقف على رجليه أم لا، ولا نعلم مدى رجولته.. أجابت بلا تردد وإصرار لا يهم.
عادت به من الخارج مقعدا على كرسي متحرك، في المستشقى لم يجرؤ الأطباء على إجراء العملية إلا بموافقة أهله لأن نسبة النجاح لا تتجاوز 1% وإذا فشلت، أما الوفاة أو الشلل التام.. رفضت الاتصال بعائلته فهي عائلته زوجته وحبيبته، رفضت إجراء العملية وعادت به.. استقرت معه في بيت أهله تقوم على خدمته ورعايته، بإصرارها وعزيمتها القوية أعادته إلى عمله في البنك .. شعرت بسعادة غامرة وهي ترى الفرحة تقفز من عينيه بعد أول يوم عمل، شعرت بأن الحياة عادت إليه وهو يشرح لها كيف استقبله زملاءه وهيئوا له مكتب مناسب..
اشترى والده سيارة تتناسب مع حالته وقدمها هدية بمناسبة عودته إلى عمله، أصر هو ووالده على عودتها لمزاولة عملها في المستشفى بعد انقطاعها فترة أجازات طويلة لملازمته والسهر على راحته… لأول مرة شعر برجولته.. ولأول مرة منذ زواجهما يعيشان حياة زوجية كاملة.. أشرقت شمس الحب والسعادة في حياتهما.. نسي إعاقته وطلب منها أن تذهب يوميا لخدمة والديها، نظمت حياتها بين العمل وزوجها ووالديها.
غمرت السعادة قلوب الجميع، رفرفت الفرحة على زوجها ووالديه، امتلأ الحي بالفرحة.. دفنت الأحزان، تناسوا القصف المتواصل والحصار، عندما زفت لهم خبر حملها في الشهر الثالث، قنبلة من العيار الثقيل فجرتها أقوى من قنابل العدو.. ستصبح أما من حبيبها، وسيصبح أبا رغم الجراح والشلل.

السابق
دجاجة يحيى
التالي
عندما يتوقف الزمن …

اترك تعليقاً