الخاطرة الطويلة

آه يا سورية آه

آه يا بسْمة الأمْس، آه يا نكْبة اليوْم، آه يا دمْعة تلازمني …
انفجرتْ شمسُك في ضحى الربيع فانْفجرْنا، وتفجّرْنا، وانجرفْنا في الحريق دخّانا برْكانا غطّى الكوْن، وما حوْل الكوْن، وما فوْق الكوْن، وما تحْت الكوْن …
جاءتْك الأهْوال وحاصرك الأغْوال فإذا الأضْواء أنْذال والأنْباء إذْلال … يالهْف نفْسي، يالهْف نفْسي، يالهْف نفْسي …
أراك حين كنْت نشْوة الشام، وبيت العرب وغيْر العرب، ودار الأصْوات الآتية منْ تعالِي السماء …
أراك حين غنّى بَرَدَى للسلامة والسلْم والسلام، فعمّ السلام، وقالتِ الأرْض أنْتِ السلام، أنْت أنْتِ يا شامُ …
أراك في ظلال التين، وعطور الياسمين، وتغاريد العصافير بالحنين، وتعانُق السنين بالسنين …
أراك في جلالك الغسّاني والأموي والحمْداني والأيّوبي وأنت تقفين شامخة في قلْب الأمم والحضارات والثقافات واللغات كي تتفاعل بوُدّ ورُقيّ وأناقة ولا تتصادم بحقْد وانحطاط وحماقة …
أراك يا معْمورة الدّيار وسيّدة المعْمار وناسجة الحكايات والأخْبار ومبْدعة المنثورات والأشعار وأنْت منْ منْبر إلى منْبر ومنْ مسْرح إلى مسْرح ومنْ منتدى إلى منتدى ومن حلقة إلى حلقة وشبابك ينهل من المنهل العذْب في سرور وحبور وما يُسْتطاب ويحلولى من ألباب الأمور وفضائل العصور …
أرى دمشْق الفيْحاء … أرى حلَب الشهْباء … أرى مدن الجمال وقراه في الشواطئ والأرياف والصحراء … أراها كلها ترفع غصن زيتون ووردة بيضاء … أراها كلها وأسمعها كلها وهي تنادي بأصوات نزار قباني ومحيي الدين بن عربي ورمضان البوطي وحنّا مينه ونور الدين الأتاسي وسليمان العيسى وعبده عبود وماجدة حمود ومنى واصف ودريد اللحام وصباح فخري : نحن للحياة فضاء .. نحن للحياة فضاء .. ما كنّا ولن نكون ممن يعشقون الفناء ويعشقهم الفناء ..
آه يا سورية آه …
ضحّى بك الذين لا يحبون التضحيات، ولا يعيشون للمكرمات، ولا تنبض – في صفاءٍ – قلوبُهم كما يحدث عند المحبين والمحبّات …
ضحّى بك منتجو الجرائم ومحوّلو الانتصارات إلى هزائم وشذّاذ الآفاق من مطاردي الحمائم ومكدّسي الغنائم…
ضحّى بك أعداء السماء والمساء والسناء والسخاء والرخاء …
ضحّى بك الشمال لأنه يريدك مقتلا للجنوب، وضحّى بك الجنوب لأنه يريدك مقتلا للشمال، وضحى بك الشرْق لأنه يريدك مقتلا للغرْب، وضحّى بك الغرْب لأنه يريدك مقتلا للشرْق …
جاءتّك العصابات من كل حدْب وصوْب ونزلتْ فيك فنزل الموْت … كلّ شيء فيك أصبح لا شيء …
دُمّرتْ أشياء الحياة، وأسباب الحياة، وتجلّيات الحياة، والحياة نفسها، بطولها وعرضها وعمقها …
قُتِل الشيْخ والشيْخة … قُتِل الكهْل والكهْلة … قُتِل الفتى والفتاة … قُتِل الطفْل والطفْلة … قُتِل الصبيّ والصبيّة … قُتِل الإنسان الإنسان الإنسان … والقاتل لاهو إنسان ولا حيوان ولا شيطان … القاتل لهيب حرب دهماء أشعلتْها صراعات الأوثان وبخّرتْها بغازات الدّخان وأطرها رموز الجور والطغيان … القاتل وَرَدَتْ لعْنته في الزّبور والتوراة والإنجيل والفرقان … القاتل تمْقته الأنْهار والبحار والمحيطات والخلْجان … القاتل يشمئزّ من رائحته النخْل والفسْتق والخوخ والرمّان … القاتل سُمّ عنصريّ في ناب مسموم، وورم عضال تجفّ من دائه مياه الغيوم … القاتل من ذريّة قابيل الذي حوّل تاريخ الإخاء إلى تاريخ قاتل ومقتول كما هو ثابت ومعلوم …
آه يا سورية آه …
هلْ أبكيك ؟؟؟ …………. نعم ولا …
هلْ أرثيك ؟؟؟ …………. نعم ولا …
أبكيك وأرثيك لأن قلبي انفطر وروحي تشققت وسكنني ألم الوجود من جراء ما أصابك وأصاب العرب وأصاب المسلمين في كل مكان … أبكيك وأرثيك لأني أبكي وأرثي ذاتي وأهلي وقومي وأمتي … أبكيك وأرثيك لأني أبكي وأرثي ضعفي وضعفك وضعفنا أجمعين … لأننا هُزمنا … لأننا سُحقنا … لأننا مُحقنا …
وما يجعل الدمع لا يتوقف والنٌدبة لا تنتهي عند حد هو أننا نحن مَنْ خصّبْنا أرضية المأساة الملهاوية بما نتبادله بيننا من أحقاد غريبة وصراعات عجيبة وعداوات رهيبة صنعتها قبليتنا وطائفيتنا وحزبيتنا ومذهبيتنا وإقليميتنا ومجمل عصبياتنا التي حوّلتنا إلى لعبة سهلة ومريحة ومربحة في يد غيرنا…
ولا أبكيك ولا أرثيك … ولا أبكيك ولا أرثيك لأن الكتاب قال لي إن بعد العسر يسرا والتاريخ أخبرني أن الأزمة تلد الهمة وتجارب الشعوب والأمم علمتني أن إمكانات تجاوز الأضرار والأخطار ممكنة جدا إذا تمّ اكتشاف مصدرها وطاقتها وكيفية تحجيمها تدريجها إلى درجة التخلص منها بصورة نهائية …
لذا ؛ أمسح دمْعي الذي سيظل سائلا بحرقة صامتة مادام الجرح نازفا وأتوجه إليك أصالة عن نفسي، وباسم الأمير عبدالقادر الجزائري وشركائه في الانتماء والجهاد الذين توجهوا إليك بعدما ضاقتْ بهم السبل فاحتضنْتهم بأخوة ما فوقها أخوة، وباسم دم شهدائنا الأبرار وأحرارنا الأخيار الذين تعرفينهم ويعرفونك وتحبينهم ويحبونك كما سجلت مدوّنة التاريخ ذلك باعتزاز ، لأقول لك : –
– إننا معك في السراء والضراء …
– إننا معك ضد أعدائك الذين جاؤوا لإراقة دمائك وسلب وجودك …
– إننا معك في كل أطيافك موحدة ً متعايشةً متساندة في إعادة بناء ذاتها ومقاومة عدوّها التاريخي …
– إننا معك في الأمل بغد أفضل وأجمل وأرقى ثم العمل من أجل تحقيقه دون هوادة ولا يأس.

السابق
مستبد
التالي
اعـــتــــراض

اترك تعليقاً