مقالات

التناص والامتصاص

هو الإلهام يأتيك من اللا شعور فتمتح من تلك الترسبات المعرفية التي تراكمت في خزانك وترسخت على جدار ذاكرتك ، منذ وطأت أقدامك هذا الكوكب .فإن كنت ناقدا فالنقد بشكل أو بآخر يستفيد من العلوم الأخرى ويتعالق معها ،فينهل من هذا الخزان المعرفي الكبير، فالنص عندما يخرج للوجود ، يتناوله الناقد ليحفر على جسده لغة اللغة يشتم من مشيمته رائحة عشرات النصوص الضاربة في عمق تاريخ الأدب والمعارف الإنسانية ،ربما سبق لك أن سمعتها أو قرأتها وفي بعض الأحيان تكون نتيجة وحد ة التفكير الإنساني ،وتصبح هذه الرائحة أكثر وضوحا إذا ما وجدت إحالة أو إشارة على شكل رمز أسطوري أو تاريخي أو طبعي لهذه النصوص التي تكون لحمة نصك ، إما عن قصد أو عن غيره فالنص في علاقته بالنصوص الاخرى تتجلى في ازدحامه بالأصوات مرصوفا بطبقات من مكونات خطابية راسبة في صلب هذا النص حيث تتحقق تقنية التناص ! تقول جوليا كريستيفا [ النص جهاز نقل لساني يعيد توزيع نظام اللغة واضعا الحديث التواصلي ، ونقصد المعلومات المباشرة ، في علاقة مع ملفوظات مختلفة أو متزامنة] !
وإزالة الغموض عن هذه النصوص التي يتضمنها نصك وتفكيكها واستجلاء مستورها تبقى مسؤولية الناقد الذي يجب عليه أن يحسن الإبحار السندباني في ماوراء السطور للكشف عن أسرار اللغة باعتبارها كائنا حيا فاعلا و متفاعلا مؤثرا ومتأثرا ، هذا إذا كان يتقن فن الحفر على جسد لغة النص ، وممارسة فن الاستغوار في متاهات مكتبة الموتى قصد إحيائهم ليعيشوا بيننا ونعيش بينهم ويربط الماضي بالحاضر ويحكم ربط حلقات سلسلة الزمن والمكان !
وقد عبرت الناقدة المتميزة cristiva عن ذلك بأن النص هو امتصاص لكم هائل من النصوص الأخرى ، أوتحويل لها ، وقد يكون هذا [الامتصاص] على شكل تضمينات أو تناص أو إحالات و إشارات أو رموز تشير إلى ذلك التراكم الكمي المترسب من النصوص التي تختمر في ذاكرة المبدع عبر مختلف الأزمنة والعصور ، فيكون نصا / نسيجا منفتحا له تاريخ وليس وليد اللحظة وإن كانت قراءته لحظية ، تخضع لتغيرات مزاج القاريء ، و يشترط في الناقد لتنويره وتوضيحه والكشف عن خفي سره من خلال الربط بين النص وهذه النصوص الغائبة في طياته :
المعرفة الموسوعية والإلمام نسبيا بالثقافات والمعارف الإنسانية بمختلف أنواعها وعبر أزمنتها وأمكنتها ، وإلا فإن القراءة النقدية تبقى غير قادرة على استكناه روائع النص المقروء ، فاستجلاء اللامرئي في النص لا يستطيعه إلا قاريء مغامر يعشق الاختراق والعبور في متاهات هذه النصوص ، ولا إبحار في مناطق صمت الصمت ، بلا مجاذيف ولا مراكب !
ولعل هذه النصوص الغائبة في نصك هي التي تعطيه القوة وتمده بأسباب الاستمرارية ، وتدفع به نحو تحقيق التميز ، وتنحو به منحى العالمية وترفعه إلى مراتب الآثار الانسانية الخالدة ، وتجعل مشارط النقاد يسيل لعابها لتشريحه و لوضع الأصبع على موضع الألم منه ، فتتحقق نشوة القراءة الكاشفة والمستكشفة كما تتحقق لذة النص ، لأن القاريء/ الناقد يكون قد وعى أن خطابه النقدي تجاوز بشكل أو بآخر الرؤية العقلانية للنص ، فيحيد عن تكريس المعاني التي تعمل على انغلاقه وتنفي عنه صفة الانفتاح والتعدد والاختلاف في القراءات تبعا لاختلاف التصورات والمواقف والخلفيات الثقافية التي تمد هذا النص أو ذاك بالحياة وتطبعه بطابع الإبداع الحقيقي !
وقد أنكر بعض ( الأصدقاء / النقاد ) عن النص مروره من مراحل تكوين الجنين ، وما هو إلا جنين يتكون في الذاكرة ، ومنها يولد ويخرج إلى الوجود ، فيجتاح المدى : سقوطا، فتكوينا ، فمخاضا ، فميلادا بعدما تصقله التجربة الإبداعية للمبدع ، ليخرج في أبهى مظاهره كالرحيق تستطيبه النحلة ، وكإيقاع الموسيقى يطرب السامع !
أقول إن ميلاد النص ، يتمخض عن اللا وعي واللاشعور ، وماكينة التخزين ، لا يمكنها الاشتغال إذا حوصرت بالمنطق العقلي، وقد ذهب العرب في اعتقادهم :
أن أشعر الشعراء العرب أمثال النابغة الذبياني وامريء القيس وعنترة بن شداد وغيرهم كثير، كانت أشعارهم توحي لهم من شعراء الجن وربات الشعر ، الذين كانوا يسكنون وادي عبقر ، لذلك سموا الملهم عبقريا نسبة إلى وادي عبقر ربما في اعتقادهم أن ما يأتون به لا يكون في متناول كل شاعر ، فيقتنعون بعمل الخوارق وتأثيرها على ذاكرة الشاعر ،وقد صنفتهم الروايات : كل شاعر كان له مثيله من الجن يملي عليه الشعر إلهاما ،وإن كان الإلهام منبعه اللاشعور !
إن الخزان المعرفي الإنساني بحر لا تحده شطآن ،شريطة العمل على تطعيمه بكل ما هو جميل من الفكر والمعرفة الإنسانية والاغتراق من كل رائع في اللغة من مجاز واستعارة وتشبيه وتركيب حسن يأخذ بالألباب ، وقد يتم إحياء هذه النصوص الغائبة والعالقة بجدار الذاكرة عن طريق مجموعة من التوظيفات الفنية التي تكون عن قصد أو غير قصد ، كالتناص و التداعي أو توارد الأفكار وإن أنكربعض النقاد العرب الاستفادة من هذا المخزون المعرفي فاعتبروا ذلك من العيوب لأنهم بوبوه في مجال السرقات الأدبية ، وقد فطن منهم البعض الآخر إلى أهمية هذا التخزين وتزويد الذاكرة بالمادة( الخام) التي سيصنع منها المبدع الجواهر والدرر ، ونلاحظ ذلك في قصة أبي نواس مع خلف الذي اشترط عليه الحفظ والنسيان قبل الشروع في نظم الشعر ،وأعتقد أن نجاح المبدع والناقد متوقف على الموازنة بين الكتابة والقراءة والنهل من منابع الثقافة الإنسانية العابرة للزمان والمكان والمحطمة للحدود الجغرافية بين الأمم والشعوب !
أن تبدع في مجال من المجالات يفرض عليك أن تملأ هذا الخزان بمعارف السابقين و أن تمتح من علومهم وأشعارهم وآدابهم وتنسى ما أخذت، فالنسيان يعني اختمار ما اذخرته من هذا المخزون المعرفي المتنوع ولا يعني هذا إنكار ما يتميز به العصر الحديث من معارف قيمة ، وثقافات واسعة فقط خلط كل هذا القديم والحديث وصهره في الذاكرة يساعد على التميز في المجال الإبداعي وهذا لا يقتصر على المبدع دون الناقد ، فكلاهما مجبر على هذا الغوص في مكتبات الموتى والاستغوار في متاهات أسرار الكتابة ، فالنقد أيضا جزء لا يتجزء من العملية الإبداعية إن لم نقل عصب حياتها ، باعتباره إبداعا من الدرجة الثانية أو لغة على لغة أو خطابا على خطاب ،أيضا لأن النقد يتعالق مع مختلف المعارف والعلوم قديمها وحديثها !
فإعلان ميلاد إبداع جديد ،بأسلوب جديد وبإلهام جديد ، لا يأتي أبدا من فراغ ومن ذاكرة عقيم ،فامتصاص نصك لنصوص غيرك حاصل لا محالة شئت أم أبيت ولا يمكنك أن تعلن القطيعة عن ماضيك ، لكن شريطة ألا نفهم قول نتشه فهما خاطئا [ لا تميل نفسي إلا إلى ما كتبه الإنسان بقطرات دمه ، أكتب بدمك ، فتعلم حينئد أن الدم روح وليس بالسهل أن يفهم الإنسان دما غريبا ، إني أبغض كل قاريء كسول لأن من يقرأ لا يخدم القراءة بشيء ] والقراءة تختلف طبعا تبعا لما سبق ذكره من مقومات شخصية القاريء ، وقدراته على التوظيف السليم ، الذي لا يوحي لنا بنسخة مكررة لا بصمة جديدة فيها ، ولا إبداع فيها ،وهنا أركز على قراءة (المبدع / المؤلف) ، و(المبدع / الناقد )!
والكشف عن هذه النصوص الغائبة في نصك ، هي التي تقوي الذائقة النقدية ، وتصقل مجسات الناقد ، وتمنحه القدرة على التحليل والتأويل والتفسير ووضع الرموز المواضع التي تستحقها في النص ، أي أن يتحول إلى مهندس يهندس بناء النص المقروء من جديد ، فيرفعه درجات وإلا فإنه سيدمر فيه الجمال والجلال ويتلف القاريء بين خربشاته فيغيب أسرار النص المقروء وخباياه ، هذا يدعو إلى ضرورة شعور الناقد بالمسؤولية الفنية والتاريخية على عاتقه ، وقراءة النصوص نقديا تدعو الناقد الى الابحار في العلوم والآداب والتفكير الإنساني بصفة عامة لخدمة هذه القنبلة ( النص ) المتخمة بالمعارف حد الانفجار !
فالقراءة النقدية ليست بأي حال من الأحوال تصيد أ نواع السرقات في النصوص الشعرية واعتبارها من العيوب ، فهذه أنانية تمنع الإقرار بشاعرية الآخر أو البحث عن مواطن الضعف والرداءة والقبح لأن التركيز على هذه العيوب والمثالب قد يضيع مواطن الجمال والحسن في النص المقروء ،فيحل الإقبار محل الإحياء !
فالنقاد والمبدعون الغربيون كانوا يتباهون بتناصص نصوصهم مع غيرهم لأن ذلك في نظرهم مكمن قوة لا مكمن ضعف، وهذا أيضا دليل على سعة العلم والمعرفة التي يفتخر بها كل باحث عنها سواء كان ناقدا أو مبدعا ،(فاليوت )مثلا كان يفتخر بالمتح من نصوص شعراء الرمزية الفرنسية ،وهذا المتح يكون دائما إلهاما غير مقيد بقيود الوعي والشعور ،وأعتقد أن التكامل بين الإبداع والنقد ، خلاق لنصوص ،تدون في سجل التفكير الإنساني بماء الذهب ، فالمعلقات لولا روعتها وتفردها لما علقت وبماء الذهب كتبت !

السابق
لقاء
التالي
ميقات

اترك تعليقاً