الخاطرة الطويلة

الشاعر الحزين

تتحداه ساعة الحائط ..دقاتها تتزامن ودقات قلبه ..تنذره بشيء ما…الحروف الشاردة تتطاير تنثر الارتباك والدهشة …تتمرد تمردا مخيفا …أو مجنونا
المطر يحنو على الأرض..لكن الأرض تئن من تزاحم الموتى
طابور الموت طويل…الأكفان تلبس على عجل ..تلك أرواح تعلو
هناك على البعد غاب الأمل..احتجب وراء دخان سميك كثيف…الأثرياء من البشر أحدثوا تغيرات مهولة في كوكب الأرض
ضاع منه ذاك الوشاح الملون ..لم يبق في جعبته سوى حروف مطرزة بالحزن
حتى الشتاء ضل الطريق. الربيع يعقبه بخجل شديد
العصافير التي أجلت الرحيل تظهر من جديد…لم يسعفها الوقت لبناء أعشاشها
الزمن يهرول …
فوق مكتبه تنام قصيدته الأخيرة ..سماها الأخيرة ..بجانبها تتكدس الفاتورات…الديون تتراكم عليه ..الفاقة قد حطت أوزارها في عالمه ..والحاجة تشعره بالذل والمسكنة . سبب نقمته المفاجئة أنهم استغفلوه …نعم يحس نفسه مخدوعا
أفنى حياته كلها في الانتظار ..انتظار شيئا ما
كتبه أيضا تتراكم فوق الرف الأعلى..من هذا الذي يهتم بنظم الشعر أو قراءته الآن وقد اختار الناس لأنفسهم سبيلا آخر ووجهة أخرى…القوافي الرنانة لم تعد تهم أحدا في زمن الإغراءات والألوان البراقة .
وحده يجوب دروب قصائده الطويلة …حروفه بين نبض وهطول ويأس واسترجاع. تكسرت أوتار كمانه فلم يعد يسمع له إلا أنينا ونحيبا…الكلام صار عقيما..غير مجد..لذلك يؤثر الكتمان على البوح بالوجع ويلج عوالم الصمت .
للصمت جذور تمتد منذ الأزل .
وحده يتحسس طريقه في عالم الشجن والحزن…الزمن نفسه يتوجع ..يكاد ينهار ,يختنق في عالم صار الزيف فيه صدقا والبغي عدلا والكذب ذكاء ..
الشعراء تاهوا كلهم …الأشعار تتسم بالسواد والموت والقنابل. للأشعار رائحة الموت …
عصفور متناه في الصغر يختلس النظر من زجاج النافذة..يعجب من جرأته ..يلمس جسمه الصغير بأطراف أصابعه ..لا يخاف ولا يبتعد..يفتح النافذة بهدوء يتوقف عن الحركة برهة ثم يفاجئنه بأن يطير في أرجاء الغرفة..
لا تغادر ..ترتعش شفتا الشاعر الحزين بينما يرفرف العصفور بجناحيه الضئيلتين..هي الحياة يا صغيري دائرة مفرغة كالتي ترسمها وأنت تطير..حلم سنستيقظ منه يوما ما ..ونتحسر أننا فقدناه إلى الأبد وأننا خرجنا من إطاره الجميل لا نعرف لطريقنا وجهة معينة بل يعذبنا التردد والعجز فنكتشف أننا ظللنا قابعين في نفس النقطة سنين ..على شفا جدار قديم تصفحنا أياما وليال ولت هاربة من تزاحم الهزائم والانكسارات .
يرمقه المحلق الصغير ثم يحط على كتاب من الكتب المكدسة قرب السرير..
يبتسم الشاعر ..يخاطبه ثانية :
احترس أن تهجم عليك الأفكار من تلك الأوراق ..إنها عصارة فكر من مروا بدروب الحياة المختلفة لا رصيد لهم سوى هذا الحبر الذي كتبت به كلمات تزاحمت بين طيات هذه الصفحات..إنهم أناس مضوا ولم يشهد على مرورهم أحد سوى هذه الأسفار ..إيه أيها العصفور الجميل التراب يصير ترابا وتحتوينا أمنا الأرض ..

فلا قصورا شيدوا ولا مالا تركوا..أترى الدنيا ضحكت لهم وأبدت لهم محاسنها أم أنها ضنت عليهم فاكتفوا بفتاتها ؟
ارحل أيها العصفور الصغير..ارحل إلى الفضاء الرحب استمتع بحريتك التي يفتقدها الكثير من بني البشر الآن .

السابق
غانية
التالي
مَعْبَد العِشق

اترك تعليقاً