القصة السلسة

اسماعيل الغضنفر – حكايات من الغربة (5)

– إسماعيل .. بقولك اسكت .. اسكت بأه خلاص ومتناأشنيش في الموضوع ده تاني .. أنا قلت لا يعنى لا .. انت ايه مبتفهمش .. ساعة وأنا افهم فيك .. لا يعنى لا .. خلاص خلص الكلام .. يالا بينا نروح .. مش هشترى حاجة النهاردة خلاص .. نفسى اتسدت ..
قالت كل هذه الجمل في سرعة البرق .. بصوت عالي جدا .. أقرب للصراخ منه للكلام .. مع أن ذلك قليلا مايحدث في المركز التجاري الفخم وسط الرياض ..
سمعها زوارالمكان .. بدأوا ينظروا تجاهها .. تركوا جميعا ماكانوا فيه من شئون .. ووقفوا يشاهدوا المرأة وزوجها .. وكيف يتفاهما في أمور الحياة .. حوار فكري رائع جدا .. وتوالت النظرات والهمهمات .. حتى ممن لايعرفوا عربيه ..
أسير أنا وزميلأي في العمل في ردهة المركز الطويلة جدا .. نكاد نكون سمعنا كل ما دار بينهم ..
كان حوارا من طرف واحد .. لانسمع فيه ألا همس من أسماعيل .. وصراخ من زوجته وهي تسير مسرعة .. تحمل بعض الأكياس وبها مشترياتهم .. وهو يدفع عربة الطفل المحملة بباقي الاغراض .. وببطء شديد وصوت خفيض يتحدث .. وهي منطلقة في المشي والرد كأنما تزمجر ..
يصمت إسماعيل وتلتفت اليه .. لتوجه له سيل آخر من الكلمات القاسية .. يبتلعها في هدوء غريب .. يصمت تماما ويضع وجهه في الأرض .. كأنما يسلم أمره لله .
انحرفا بسرعة ناحية أقرب باب للخروج .. يمرا من أمامنا زوجين شابين لم يتخطيا الثلاثين .. طفلهم رضيع لايزيد عن عامين .. هي ترتدي العباءة السوداء بدون وضع النقاب .. وكان ذلك غريبا جدا .. وجهها جميل جدا .. متوسطة الطول .. جميلة الجسم .. تبدو متأنقة جدا .. وعلامات الشباب تشي بقوة طاغية .. تسير بخطوات تعني شئ واحد فقط .. هي تعرف حجم قوتها وجمالها الأخاذ ..
وهو شاب طويل عريض .. مفتول العضلات .. وجهه ينم عن شباب متدفق .. ولاتلمع عيناه كمن في سنه
مهموم لايبتسم حتى لمداراة ما حدث ..
إبتسمنا بألم لحال الرجل .. أقصد الشاب وكانت لنا فيما حدث آراء متباينة جدا .. وكان القاسم المشترك للآراء هو سؤال واحد : ليه هو راضى بكدة ؟
قال صديقى يمكن عندهم مشكله داخليه جدا .. وضحك بخبث شديد
رددت عليه : والمشكله الداخلية دي تتناقش في المولات .. وأمام الناس كلها من كل الجنسيات كدة ؟
طيب أحسن يتفاهما عن طريق الامم المتحدة .. الحاجات اللى زي كدة تتناقش داخل غرفة النوم بعيد عن أي حد خالص .. الحكايات دي مش على المشاع كده ..
واردفت قائلا : ولو أن شكله راجل جامد وشبابه واضح .. وبعدين هما مخلفين عيل أهه ؟
رد صديقي وقال : الخلفة مش دليل على رضى الطرفين عن علاقتهم الخاصة جدا مع بعض .. يمكن مش متوافقين أو فيه عدم رضى من أحدهم عن العلاقة دي ؟ .
المرأة يا صاحبي لاتتعصب إلا على نوعين من الأزواج .. الأول اللي تحس أنه أقل منها .. والثاني اللي ميقدرش يديها كل اللي تحتاجه . الراجل الضعيف من أي ناحية أمام المرأة القوية يجراله أكتر من كده .
وإبتدرنا صديقنا الآخر قائلا يا عم إحنا مالنا ومال الخصوصيات دي ..
وقال الآخر بسخرية شديدة : ممكن تكون مدرسة .. صوتهم عالي طوال النهار .. تزعيق في الطلبه وخدت على كده .. هههههه
رديت أنا بفلسفة .. لو هي مدرسة ممكن تكره الكلام والزعيق كمان ..
رد صاحبي وهوه يضحك : كل المدرسات كدة وأكتر كمان .. وبعدين دي باين عليها هي اللي بتصرف على البيت .. متحكمة فيه
رددت بضكة عالية : كرهتوني في المدرسات .. ربنا ما يوقعني في مدرسة وأتجوزها .. وضحكنا جميعا
وكانت حكاية السهرة بعدما عدنا إلى البيت ..
طيب والراجل ده تسميه إيه ؟ واستقرت الأسماء عند لقب غريب أطلقته أنا عليه .. إسماعيل الغضنفر
أخذنا الضحك حتى دمعت عيوننا .. وانفض سامر الليلة .. ومرت أيامنا جميعا ..
………………………..
قفزت هذه الحكاية بحذافيرها إلى رأسي .. وأنا أشاهد إسماعيل أمامي .. هو تماما بكل تقاسيمه التي أتذكرها جيدا .. لم أنس شكله حتى بعد مرور خمسة عشر عاما على هذه الحادثة .
قدم لي نفسه :
– إسماعيل عبد الله حسان .. أطلت النظر في وجهه .. نظر لي بإستغراب شديد
– هل تقابلنا من قبل ؟ سألنى وهو يداري نظرة الإستغراب على وجهه
نحيت عينى عنه وقلت له ..
– لاأبدا تشابه في الشكل .. أهلا وسهلا أي خدمه ..
– أنا مسئول علاقات العملاء الجديد بشركة .. ودي أول زيارة لعميل من يوم ما جيت .. أنتم طبعا أحد كبار عملائنا .. ولأني جديد في الشركة نصحوني بزيارتكم أولا .
جلست وطلبت قهوه سادة لنا نحن الإثنين .. وبدأت أتحدث معه في أمور العمل ..
والحقيقة لم أكن اتحدث معه .. إنما كنت أبحث عن إجابة للسؤال القديم .. تفسير لما حدث .. أكيد هناك تفسير له .. ولكن من يجرؤ على المناقشة لأمور شخصية تخص شخص آخر تماما .. هذا لايهمك ..
قلت لنفسي ذلك أكثر من مرة .. ولكن الفضول سيقتلني ..
وقررت أن أعرف ما أريد .. وإستجمعت كل لباقتي كي أستعلم منه عما أريد معرفته ..
أعود للرجل .. نظرت إليه .. مازال شابا حتى بعد مرور هذه السنين .. إكتسب بعض الشعر الأبيض في رأسه .. نقص بعض الوزن .. ولكن عيناه تلمعان بطريقة مختلفة عما رأيته من قبل ..
إستمرت هذه الأفكار فترة وجيزة قبل أن أرحب به حينما حضرت القهوة ..
– إتفضل يا أستاذ اسماعيل .. القهوة هتبرد .. تحت أمرك في أي شئ ..
– شكرا على القهوة .. الحقيقة فيه بعض التوضيحات على حسابنا معاكو ..
وأخذ في توضيح أمور تخص تعاملات شركتينا .. إستمر النقاش بيننا لفترة طويلة .. نفسه طويل في النقاش .. يدخل من نقطة لأخرى بسلاسة وإقناع .. فاهم لشغله جدا ومفاوض جيد وبائع رائع .. إستطاع اقناعي و اتفقنا على حل لأغلب النقاط المعلقة ..
بعد أن انتهينا تقريبا من كل النقاط .. بدا إسماعيل كمتحدث لبق جدا .. بل وأخذ قرارات في العمل ضمن صلاحياته ..عنده صلاحيات الآن .. بل و يستطيع التصرف وبسرعة بديهة ..
طلبت قهوة مرة أخرى وجلسنا ندردش كمصريين في الغربة ..
إبتدرني بسؤال :
– إنت كنت بتبصلي كأنك تعرفني .. هوه إنت بتشبه عليا ولا إيه ؟
قلت له متخابثا :
– يخلق من الشبه أربعين والواحد ياما بيشوف وبيقابل .. وأحيانا نقابل ناس لأول مرة نحس أننا كنا نعرف بعض من زمان .. وضحكت نصف ضحكة .. غير مقنعة إجابتي .. حتى لي أنا ..
ودخلنا في حوار شخصي بحت .. حكى لي عن ظروفه في أول سفرله من خمسة عشر عاما .. وأنه كان مسافر مع زوجته مرافق لها .. وعمل في وظائف كثيرة لاتتفق مع مؤهلاته وطموحه .. وحكى عن معأناته في السفرية الأولى .. حتى عادوا ثانية إلى مصر ..وكذلك تعاقدة مع الشركة الجديدة .. ومنصبه فيها ومزايا العمل .. حتى وضعه المادى الجيد فيها ..
كنت أستمع له وأنا متأهب أن أسمع منه ما يفسر ما حدث ..وحركني فضولي للإقتراب من المطلوب ..
طيب وليه رجعتو مصر ؟ سألته راجيا أن يحدثني بما يروي ظمأي ..
– شغل مراتي رفض تجديد الإجازة أكثر من عشر سنوات .. إضطرينا للرجوع علشان كدة والعيال كمان بدأت تكبر .. ولابد من العودة لمصر .. وعلشان أنا مليت كمان .
سألته بلهفة شديدة :
– وهي مراتك بتشتغل مدرسة علشان كدة أصروا أنها ترجع ؟
رد علي بإستغراب شديد :
– إشمعنى مدرسة يعني ؟
قلت متلعثما :
– لأن هناك نقص في المدرسات .. وعلشان كدة كتير من قرايبي رجعوا تاني من السفر .
– لا مراتي مش مدرسة .. هي بتشتغل إخصائية تخاطب .
رددت عليه باستغراب :
– معقول .. وإستدركت مستطردا يعني إيه إخصائية تخاطب ..
وكأنما كان منتظرأ السؤال أجابني بإستفاضة عن عمل زوجته .. بل وأخذ يشرح لي عن كفائتها في العمل .. وذكرياتهم أثناء عمل زوجته .. وعن أحوالهم وما إنتهوا اليه ..
كنت أستمع إليه وأنا مركز فقط فيما ذكره عن عمل زوجته .. وماهي النظريات التي بنيتها عن المدرسات .. بل وإنحيازي ضد المدرسات .. وقراري العبيط بعدم الزواج من مدرسة ..
الغريب أن إسماعيل لم يذكر ولو كلمة واحدة عما حدث له .. تحس أنه مبسوط جدا .. ونسي الأمر تماما .. كأنما لايذكره أساسا .. ذكرياته كلها عن زوجته فقط .. كأنها هي محور حياته ..
وزاد إستغرابي بعد جملته الأخيرة ..
– إن شاء الله لما تيجي أسرتي نتعرف على أسرتك كمان .. ويكون بيننا عشرة وأيام حلوة إن شاء الله ..
رددت بشئ من التململ :
– إن شاء الله .. ربنا يجيبهم لك بالسلامه
وحياني وأنا أودعه على الباب قائلا :
– سعدت بمقابلتك ومعرفتك وإن شاء الله تكون فاتحة خير علينا ..
لم أجد ردا وحييته بإبتسامة باهتة جدا..
– مع ألف سلامه ..

السابق
النص القديم
التالي
استشهاد

اترك تعليقاً