تَـمدّدَ الحُلُم على حافّةِ العُمر صريعَ السّنون… للـمَرَّةِ الفَيْصَل بين اليأس والأملِ يغادران العيادة يـَجرّان ثِقل جسديهما الطاعنين في الوفاء، ثابِتِـي الأقدام على أعْلى درجات الإخلاص… و قد ضاقتْ عليهما الدّنيا بما رحُبتْ، و انطفأت جِذْوة في الصّدر قد ازدهرت، يُـكابران ألمهما، تَصفَعُهما حَسْرة، يتآكلهما نَـدَم… و إلى العين تسلّلتْ طقوس الحزن تبغي الـمُكْثَ، توقّفا و باب العيادة خلفهما كما العُمر البائس الـمُـنفلتِ منهما، أمسكَ بيدها و الْـتَـفتَ إليها ببطء شديد، و عيناه ترتجفُان… ثمّ غَـشِيَـهما سكون رهيب إذ احتضنتْ رَجْفَـتَـهُما عيناها… تَلاطَمَتْ عبارات الأسف و الاعتذار تخالج صدره، تسرّبَتْ مِن بين جفنيه و لا قدرة له على البوح بها و لا على كِتمانها… بادلته نَـظرات كما المرآة كانتْ؛ بكل صدقٍ، و منتهى التّفاصيل انعكسَ عليه الشِّقُّ الآخر من قصيدة حُــزنٍ كتبتها أنامل القدر انسلّتْ منهما إليهما… سَلَـكا أطول طريق إلى البيت، بأثقل الخطى، و الشّمس تسكب آخر ألوانها في جسد السّماء… هَبّ إلى ما حَوى بيتهما من مزهريّات، و ألقى بأزهارها خارجا، ارتمى على الأريكة… تَـنَـهّد و قال يمسح ببصره الزّوايا: أنتِ الآن خاوية على أزهارك كبَـيْـتنا!… و ستظلّين رغم غياب الأزهار جميلة!… فيما كانتْ زوجُهُ تنظر إليه في صمتٍ، و تتأمّله… جميلُ ملامح الرّوح منذ صِباه، مَيَّــال إلى الانعزال، خجول… و بين الجمال و البشاعة قائمة خِلقَـتُـه، لازمه حظّ شبه منعدم من العمل بأجرة، إلى أن بلغ عَقدَه الرّابع و نَــيْف، رُزِق بعمل مُستقرّ، فاقْـتَـرحتْ عليه والدته اختطاب ابنة خالته و فارقُ العمر بينهما بضع سنين… مضى صامتا، و لم يُعقِّـبْ… لحقتْ به، دخلتْ عليه غرفته و هو يتهيّأ للنّوم: أرجو أن لا ترفضها هي الأخرى و تَـجْعَل مِن مَزيّة فيها عَـيْـبا كَدَيْدَنِك في الأمر، أو تتحجّج بـهزالة جيبك… فما تقول؟
ـ قال يتنهّد كَـيائس: أتَـظُـنّينها ستقبل بي؟
و ابنة خالته آخر العنقود، مُدلّلة أمّها، حسناء عسليّة الشّعر و العينين مربوعة القدّ، طويلة الجيد، ما ملأ عينها أيّ مِن خُطّابها على امتداد زهاء العقدين حتّى أشاع النّاس عنها الأقاويل… فاجأ الجميع قَبولها به. مُدّت الموائد، و أقيمتِ الزّفّة… و سرعان ما مرّت أيّام العسل، و الخجل الأولى… اجتمعَ إليها تحت شجرة التّوت العظيمة في ساحة الدّار و هي تُـمشّط شعرها، فاجأها من الخَلف، مدّ يديه بنعومة إليه، جَـمَعه، و قال: أحِبّ ضفيرتكِ… أتعلمين؟… يا قرّة العين! لم يكن خواء جَـيْـبِــي سببا حقيقيا لعزوفي عن الزّواج، و إنّما ما أُكنّه لكِ في صدري منذ فُـتُوَّتِـي، و لم أُبْدِه لأحد! و كنتُ حين تَـشهقُ لكِ أنفاسي، و يَـسْــتَـبِـدّ بيَ الأمر؛ تَـنْـسلُّ روحي مِنّي إليكِ، و أبِـيتُ أحْلُم بكِ طفلة صغيرة نَلعبُ “الغُمَـيْضَة”؛ أبحث عنك في كلّ مكان، و لا أعثر لكِ على أثر، و تَظهرينَ من وراء شجرة التّوت حين أيأس، فأخسر مرّة أخرى، و أعود أغْمِضُ مُستندا على ذات الشّجرة أعُـدُّ فيما تختبئين أنتِ وراءها… أستيقظ صباحا و قد عزمتُ على مُصارحتك…
ـ سكتتْ هُنَيهة ثمّ استدْرَكتْ بصوتٍ رخيم شِـبْه مُعاتبٍ: و ما منعكَ مِن طلب يدي كلّ تلك السنين؟
ـ نظرَ يمينا و شمالا و طَرْفُه مُـتَسارع الارتداد، أطرقَ، فيما راحتْ أصابعه تَتَشابك، و تعْتصِر بعضها، ابتلع ريقهُ، و قال: عانَدَني، و شاقَّني خوفي… خشيتُ… كنتُ أخشى، و متأكّدا أحيانا أنّك ستردّيني و قد رَدَدْتِ وُسَـماء، و أغنياء، و غيرهم مِـمّن لا يُردّ، أصغرهم شأنا أفضل منّي، و كلّما ردَدْتِ أحدهم أقْـصَـيْـتِ حُلمي الشّهي العصيّ خريفا آخر… كنتُ أتتبّع حركاتك، و سكناتك، أراقبكِ و أنتِ تجتمعين إلى صويحباتكِ… ذات لحظة جنون اعترتني من لحظات جنون كثيرة؛ اجْـتاحتني رغبة عظيمة لمعرفة ما تتبادلين من حديث، و صديقتك الحميمة كلّ عَشيّة تحت شجرة التّوت، فاستبقتكما إليها، و رابطتُ على أغصانها ساعةً أتَـرقّـبُ، أُحاذِر… تَنصّتُّ عليكما… سمعتُـها تقول لك: “أتمنّـى حين أكبر أن أتزوّج ابن معلّمتي!”، و لـمّا حان دَورُ بوْحك أحْجمتِ، فقالتْ: “أظنّكِ تتمنينَ ابن خالتك”… اضطربتُ، ارتعشتُ، خفقَ قلبي أقصاه، و كدْتُ أنزلق من على الغصن… فَصِحْتِ فيها مُـحْمرّة الوجه و نَطقْتِ بحروف تمنيتُ لو تنشقُّ الأرض و تبتلعني على أن أسمعها، و قلتِ بصريح الحَرف:”حاشـَــــــــا! أن أتزوّجَ أنــَـــا مِن ذلك الشّيئ”… مِن حينها و أنا أحملُ همّي في صدري، و كلماتك تَـغُـصُّ حلقي، حفرتْ في نفسي أخاديد للألم، تُـمزّقني، ألقتْ ِبِـي في دهاليز الوحدة، و العتمة، و لاأحد يشعر بِـي… حين يشدّني شوقٌ إليك و رغبةٌ، يغالبني شكّ، و تقهرني ريبة؛ لا أنا استطعتُ إجهاض جَـنينكِ الآخِذ في النّموّ في الحشى، و لا أنا جرُؤتُ على البَوْح لكِ به…
رفعتْ يدها إلى خَدّها تمسح دمعة مُـتَمرّدة لم ترضَ بالـحَــبْـس في الـمِـحْجر انسابتْ واشيَةً، و هي تستديرُ إليه بكُلّها، أمسكتْ بكلتا يديه، قَــبّلتهما بِـحُرقة، قَــبّلتْ جبينه بِعُمق، و قالتْ بصوت أجَشّ: لك العُــتبَـى!… رفقا بقُليب من زجاج!… و هذه فاكهتكَ نضجتْ لوقتها يا صاحب البستان! كُنْتَ و لم تَزلْ… كنتُ انتظرك منذُ قديــم الوُجْــدِ، و لكَ عنْد نَـفْسي الزُّلفى، عاهَدَتْ يميني يساري بعدمِ الزّواج بسواك و إن زَحفَ الشّيب إلى الحواجب…
و توالتْ بضعة شهور بعد الزّواج كما الحُلُم العذب… شعرتْ بين الحين و الآخر بالتّعب و سخونة تنتابها من أخمص قدمها إلى أعلى رأسها… اسْتَبْشرا، و قد تسلّل إليهما الشّوق إلى ضحكة طفل رنّانة تزدان بها الحياة، فقصدا الطّبيب للمُصادقة على شكّهما، و الدّليل منها قائم بين يديها منذ أربعة قروءٍ ناصعة الصّفاءِ… أكّدَ لهما الطّبيب تلو الآخر، و أنّــها على دَيْـــدَن قِــلَّــة من النّساء عَبَرتْ سِـنَّ الأمل و عَــجِـل إليها سنّ اليأس مُبكّـــرا، و فاتها قطار الأطفال .