القصة القصيرة

أثر الفراشة

انتهكت الوقار الذي غشي المجلس ، و تكلمت دون استئذان :
– سيدي ، حدثنا عن النائم يكون ميتا و حين يستيقظ تدب الحياة في أوصاله. مسد شيخنا لحيته ، و أزاح طاقيته الرمادية ، و هرش فروة رأسه حتى كاد يدميها ، أغمض عينيه مدة حسبتها دهرا ، ثم فتحهما جاحظتين ، ابتسم ، أومأ إلي بيده قائلا :
– لبيك بني ، كلأك الله بعنايته و علمك ما لم تكن تعلم ، إننا عندما نغرق في سباتنا يذوب الدماغ في الجمجمة ويصير سائلا لزجا ، و تغادر الروح أجسامنا ، تحلق حيثما شاءت ، حرة طليقة ، بلا قيود و لا حدود .
نظرت إلى من حولي لعلي أجد من يؤازرني و يصدق ما قاله مولانا ، كانوا كلهم منشغلين بأذكارهم و أورادهم ، أصابعهم تمرر حبات السبحات في حركة دائبة لا تفتر ، في تناغم تام مع حركة الشفتين ، متلفعين في أثوابهم البيضاء الناصعة .
تملكتهم حالة ذوبان إشراقية انقطعوا فيها عن واقعهم وانصهروا في الفيض العلوي ليتخلصوا من أوحال الرذيلة .
غلبني النوم و الإعياء ، فوجدتني في حقل شاسع مليء بالأشجار و الأعشاب و الزهور يخترقه واد مياهه فضية رقراقة ، الطيور تزقزق في كل الأرجاء ، و النسيم العليل ينعش الجسد. وقفت مبهورا بجمال الطبيعة .
لمحت فراشة ذات جناحين شفافين ، ركضت خلفها محاولا الإمساك بها ، عندما فشلت في المهمة ، استلقيت على ظهري أتملى زرقة السماء ، رفرفت الفراشة فوقي و هي تسخر مني :
– ألا تعرفني أيها المغفل ، أنا روحك ، أنا روحك ، ها .. ها ..
ثم حلقت بعيدا بعيدا ، و اختفت ، فتشت عنها في كل الأرجاء ، فلم أظفر بها .
وكزني أبي بمرفقه ، و فتحت عيني على الشيخ و هو يمسد لحيته و يحك رأسه مطبق الجفنين .
في تلك الأثناء دبت حركة عجيبة في الزاوية ، كانوا مثل من صحا من سكر أو خرج من كهف ، أحضرت الموائد الطافحة بما لذ و طاب من المأكولات و المشروبات .
اختلطت الأدخنة : بخور، مسك ، روائح البهارات اللاذعة ، روائح الأجساد العطنة .
اشتعلت الرغبات ، تحولت الهمهمات – تدريجيا – إلى أصوات عالية و قهقهات ، تكالب الرجال و الصبيان على القصاع و انقضوا على اللحم و الخبز يلتهمون ، متحررين من القيود ، متحللين من كل المواضعات .
لعقوا أصابعهم ، ثم هبوا واقفين منتفضين ، اهتزت أجسامهم المتصببة عرقا على إيقاع :
حي .. حي .. الله حي .. الله حي ..

السابق
قفزة المملوك
التالي
تقاليد

اترك تعليقاً