القصة القصيرة

أطلال

أمي التي أتت مع أبي إلى المدينة، لم تغادرها القرية، ظلت تحلم ببناء بيت حجري هناك، في أرض ورثتها عن أبيها، تسمى قلب الطير. نسبة لدالية من عنب غريب أحمر لحباته شكل كقلب عصفور صغير، تعرش على شجرة بلوط باسقة قديمة قدم أجدادي.
ذات مغيب قصم ظهر الشجرة العجوز وأحدث صوت وقوعها دوياً أفزع سكان القرية الوادعة، وأحزنهم كفراق عزيز.
كانت دالية العنب سبيل للقروين والعابرين يأكلون منها ويروون ظمأهم وهم يحتطبون في الأحراش المحيطة.
سرى الخبر كالهشيم، أن عينيٌ مسرَّة الغجرية، أصابتها في مقتل، وحرقت جوفها.
تلك التي كانت تطوف القرية تشحذ الخبز والزيت والخضار، وقد عرجت كعادتها إلى قلب الطير وأكلت من عنبها الحلو حتى ارتوت، وراحت تتسلق شجرة البلوط كقردة، وتملأ حجرها بالعناقيد الجميلة، حين ضبطتها جدتي وأنبتها على طمعها، وطالبتها أن تتوقف: (هي سبيل لتأكلي منه لا لتسرقيه وتأخذيه إلى قومك).
تمتمت مسرة بنزق وتوعدت أنها لن ترمي لها الودع أبداً، وعادت إلى مخيم الغجر، في أطراف القرية، حيث اعتادوا المقام كل صيف، يأتون مع حميرهم المزينة بالشراشيب، وينصبون خيامهم، وينشرون ألعابهم، ليبدو المخيم، وكأنه مهرج ملون في سيرك.
يقيمون كل مساء حفلة للقرويين تغني فيها عنود الصبية الفاتنة أغاني الغجر وترقص بدلال، بينما الأسمر، يلعب بالخناجر، ويصوب ناظريه نحو شروق جميلة القرية وابنة المختار الوحيدة.
هرب الغجر ذلك اليوم وتركوا كثيراً من متاعهم وقنافذ اصطادوها لم يأكلوها بعد.. عندما علموا بفرار شروق والأسمر العاشقين، أخافهم بطش المختار الغاضب وأولاده، ومنذ ذلك الوقت لم يعد الغجر ولا حفلاتهم ولا سحر مسرّة وشغبها وودعها، كما اختفت شروق والأسمر، وتجاهل الجميع الحديث عنهما علناً، وتتبرأت القرية من شروق كحشرة.
تحقق حلم أمي وبنى لها أبي بيتها الحجري في الأرض العالية حيث تعشش ذكرياتها، كما كانت تعشش دجاجة الحجل الجبلي في أجمة الآس فوق بيوضها ووجدتها أمي، فجفلت أنثى الحجل وهربت تاركة عشها المليء ببيض لم تنسَ أمي وأخوتها طعمه وهو مقلي بزبدة طازجة، كان عشاء فاخراً لايتكرر.
لم يكن ثمة إطلالة لبيت في القرية تقارن باطلالة بيتنا فوق الهضبة العالية، ولم يبق منفرداً وقتاً طويلاً، إذ زحف البناء إلى الأراضي المحاذية ولكنه بقي واسطة العقد ومنزل الزوار وملاذ اللاجئين من أقارب جدتي الهاربين من الحرب اللبنانية في اواخر السبعينيات.
كان البيت مكتظاً بصبايا لايشبهن صبايا القرية يلبسن تنانير الجينز القصيرة والقمصان الكاشفة أتين من بيروت مع أمهم فردوس قريبة جدتي.
فردوس التي كانت تغدق العطايا وتحمل من بيروت كل مرة أطايب وخبزاً كالحلم من فرن تملكه هناك، وتتحدث وبناتها الفرنسية بطلاقة. كانت تزوجت من عاصم، العامل لديها، وسلمته كل شيء، ذات صدفة، ضبطته يخونها مع احداهن، فطردته، و باعت الفرن، ومشغل الخياطة هناك مقابل ملايين كثيرة بالعملة اللبنانية، التي هوت من عل،ٍ لتغدو الملايين قروشاً.
لم تتحمل فردوس الصدمة وانهارت قبل أن تفارق الحياة.
في زوايا البيت أصوات من كانوا هنا ورحلوا.
عادت أصوات غريبة، لأقارب فروا من مناطق النزاع الساخنة، في حرب قذرة، مازالوا يبكون من هول ماشهدوا، ويسمعون أنات المذبوحين بسواطير الحقد والجهل.
الطريق الوعرة إلى البيت، لم تمنع رواده من أن يقصدوه، و يحتموا
بجدرانه.
تتعاقب االأجيال..
كبرت أشجار الجوز، التي غرستها أمي، وأغرقتنا بخيرها، توزعه يداها بيننا بالعدل…
ماتت أشجار التفاح التي غزتها ديدان لئيمة..
بقيت حجارة البيت المنقوشة بمطرقة ويدين بمهارة فنان، صامدة، تحدج الطريق الوعرة، التي سمحت للمخربين بكل قباحة الوحوش، ليعبروها ويدنسوا البيت، باحثين في حجراته، عن سكان غادروه، وتركوه يعيش شتاءات باردة ويئن.

السابق
تواطؤ
التالي
هوى

اترك تعليقاً