القصة القصيرة جدا

أنت أنا

لم يتجاوز صفحة من الكتاب حتى بدأ الوجع المنعش يسري في كل جسده ، يحس
بحزن كبيرو لكنه لذيذ و ممتع و هو يتلقى أفكار الكاتب عبر موجات حروف
رعشاتها كرشقات خنجر بين الأصابع على أرض مبتلة، يقترب الكاتب من جرح
قارئه أكثر ليبوح له و ينزع الضمادة الملتصقة به ببطء لا يخلو من تنكيل ، هو
ألم يشبه ألم استلال إنسان من آخر، إنه ألم الاستنساخ ، يصل الأمر إلى تقشير
طبقة دماغ المخ ليبلغ اللب ، ويطّلع على البخار حين تتشكل فيه الأفكار و تتقطر
من على سطح الجمجمة ..هاهو الكاتب يوظف عبارات كان القارئ ينوي التلفظ
بها ، بل ربما تلفظ بها فعلا و لكن على غير ذلك الترتيب، و لربما حلم بها و
كان يعزم أن يقيّدها ، و لكنها أفلتت منه لتذهب إلى غيره ..ترى هل عالم الأفكار
يغش منخرطيه ؟ أم هو خلل في الموزع ؟مهما كان فالأفكار أقدار ،بدأ يتمتم :
هذه عرائسي و عوالمي كيف سبقني إليها ؟ لو لم أقرأ هذا الكتاب كانت أتتني
طائعة مبتذلة..سبحان الله الكتاب يقرأني عوض أن أقرأه ..
ثم بلهجة مندهشة يتمتم :
إنه لا يكتفي بقراءتي ، هو يسلخني..
ما زال يتلقى الوخزات القاسية كصدمات كهربائية تنير ذبذباتها المضيئة زوايا
نفسه المجهولة، يسلم قياده للكتاب ليمتعه بجولة داخل متاهات لم يكن يعرفها من
قبل و إنما كانت تصله أصداؤها و برودتها و يحس بانتفاضة أسراب
خفافيشها.الآن يمسك بطرفي الكتاب و كأنه يتعلق بجناحيه ليعرج به إلى عوالم
كان يتوق إليها ، تنفتح دفتاه مثل يدي مبتهل تتوسل الاستجابة من الله..
لم يستطع إكمال القراءة ، لأنه خمّن النهاية، و تناول قلما ، شطّب على اسم
المؤلف، و كتب مكانه اسمه بكل صدق ، و عرج إلى صفحة الإهداء ، و شطب
ما هو مكتوب فيه ، و كتب عليه :
إلى من كتبني بمسمار على صخرة ملساء في دهايز السوماريين القدامى ،إلى من رسم على خريطة ألمي بإبر الصينيين فقرات الشوق و اللهفة..إليك يا أنت أنا
أهدي هذا الكتاب.

السابق
إبحار
التالي
قصتي الحقيقة

اترك تعليقاً