القصة القصيرة

البخيت والشيخ والتومة بت حاج الأمين

جلس عبدالفضيل الرجل الخمسيني، وسط خيمته المصنوعة من القش، وسعف النخيل، الذي يغطيه خليط من الأتربة، ومياه الأمطار، التي أحالتْ لونها إلى لون الطين الداكن، بفعل السنوات الطوال التي مرّت عليها وهي منصوبة على طرف القرية الغربي. كان عبدالفضيل متربعًا على سجادته المصنوعة من السعف التي يعرفها أهل القرية بــ (التبروقة) ممسكًا بسبحته المصنوعة من ثمرة (اللالوب) مداعبًا بأطراف أنامله لحيته البيضاء، جاء إلى القرية قبل عشرين عامًا.. قال عن نفسه:
“إنه شيخ تقي ورع يفهم في أمور الجان، وله المقدرة على مداواة كل عاقر”
كان حضوره عند الغروب وعرف هذا الوقت عند أهل القرية بــمواعيد شيخنا.
فكانوا يقولون:
“وقت جاء شيخنا”
لم يصدق البخيت وقتذاك عندما سمع قوله “مداواة كل عاقر” فأوى إلى فراشه مبكرًا، فلم يغمض له جفن طوال تلك الليلة، كان كل مايتمناه ولدًا أو بنتًا تحمل اسمه من بعده. نظر إلى زوجته وقال محدثًا نفسه:
_ الآن قد جاء الفرج.
ظل يتقلب في فراشه يحاول أن ينام، لكنه لم يعرف للنوم طريق وفي صبيحة اليوم التالي مسح على عينيه وجرجر نعليه واسرع لمقابلة الشيخ عبدالفضيل. رغم الصباح الباكر وجده مع مجموعة من الأطفال وسط الزراعة المطرية، حافية أقدامهم، رثة ثيابهم. زجرهم البخيت عنه وكانوا كلما اقتربوا زجرهم وانحنى مقبلًا يد الشيخ عبدالفضيل وهو يقول:
_أنا من شُفتك قلت عليك الشيخ الفيه البركة لأهل القرية.. ثم يلتفت إلى الأطفال قائلًا:
_ يلا العبوا بعيد جاتكم الـ…
قال له الشيخ عبدالفضيل:
_كل عقدة وليها حلّ إلا إنت اسمك منو يا المبروك؟
_ اسمي البخيت، اسمي البخيت، أنا مشكلتي ياشيخنا عاوز لي ولد!
_ كل شيء في وقته يا البخيت، إلا هسه أنا عاوز أعمل لي خيمة هنا
_ إلا الأرض دي ياشيخنا حقتْ التومة بت حاج الأمين
_ إنت يا البخيت ماعاوز حلّ لمشكلتك؟
_عاوز ياشيخنا
_ خلاص هسه امش كلم الناس قول ليهم بركات الشيخ حلّت في أرض التومة، وبعدين تعال نحل ليك مشكلتك.
انطلق البخيت فرحًا، ومعه الأطفال من خلفه يرددون:
بركات الشيخ في أرض التومة بت حاج الأمين، بركات الشيخ في أرض التومة.
طاف بالقرية ودار بشوارعها والأطفال فرحين بهذا الطواف، وترديدهم معه “بركات الشيخ في أرض التومة”.
لم يمض وقت طويل حتى تبادل أهل القرية الخبر.. المرأة الوحيدة التي أحزنها مجئ الشيخ إلى القرية هي التومة بت حاج الأمين التي لم يلتفت إليها أحد.. اسرعوا في جمع فروع الأشجار اليابسة، والقش، وسعف النخيل، لتشييد خيمة الشيخ.. وفي وقت الغروب تفرّق الجمع ورجعوا إلى منازلهم.
البخيت يحدوه الأمل، بنت أو ولد يقولوا عليه ده ولد البخيت! غطى القرية ظلام كثيف وسكون مألوف لسكانها.. فتعالت أصوات حميرها وكلابها، فهذه الليلة كسابقتها لم يعرف البخيت فيها طعمًا للنوم، ظلّ ساهرًا حتى سماعه صياح ديك معروف لأهل القرية، إذا سمعه شاب من أهلها بعد مرور عشرون عامًا من زمان حضور الشيخ عبدالفضيل لأطلق عليه (ديك جمعية القرية). ذهب إليه البخيت وجده متربعًا على سجادته، ممسكًا بسبحته اللالوبية. انحنى البخيت مقبلًا يد الشيخ الذي أشار إليه بالجلوس.. جلس البخيت على الأرض في خضوع تام.
قال الشيخ:
_ إنت مشكلتك شنو؟
_ أنا ياشيخنا محتاج لي ولد!
ابتسم عبدالفضيل وقال مطمئنًا:
_ بسيطة دي مشكلة بسيطة
قال البخيت موضحًا:
_ أنا عرّست بت عمي قبل عَشر سنين
سأله الشيخ:
_ وبت عمك عيبها شنو؟
رد البخيت:
_ لا، لا العيب مني أنا، الحكيم قال مني أنا
قال الشيخ وهو يحاول إثبات ثقته وقدرته على العلاج:
_ كلو بسيط يا البخيت إلا زي حالتك دي بركات الشيخ مابتنفع في علاج الرجال!
عندما سمع البخيت منه هذا الكلام وقف منتفضًا كأن حية لدغته، وأمسك بعصاه الغليظة، ودموعه تملأ عينيه المحمرّتين. كان مشدوهًا من كلام الشيخ إليه وفقدانه للأمل، وعيناه مصوبتان نحو الشيخ لا تتحركان من عليه وعصاه بيمينه والعرق يتصبب على جبينه، بينما الشيخ يحاول تهدئته مجددًا رجع البخيت إلى الوراء مرتعشًا.
عاد إلى بيته وأشتد عليه ضيق صدره، فالجمته الحمى عن الكلام لثلاثة أيام متواليات لم يحادث فيها أحد من أهل القرية الذين حيّرهم ما أصابه من مرض، وزوجته جالسة بجواره تحاول فهم همهماته ومساعدته على إخراج الكلام من جوفه.. ولكن دون جدوى لقد أصبح البخيت أخرسًا و أصمًا غير قادر على الكلام والسمع هكذا بين عشية وضحاها.
بينما كان الشيخ داخل خيمته يحدث نفسه كأنما وجد فكرة تخرجه من مثل هذا المأزق في المستقبل، رمى سبحته على الأرض وراح في نوم عميق. في الصباح جلس كـعادته على تبروقته كأن شيئًا لم يحدث بالأمس. دخلت عليه (مريم الوداعية) انحنت فقبلت يديه كبقية الزوار وقالت:
_ دستور، دستور
كانت ترتدي ثوبًا أقرب إلى اللون الرمادي، وفي معصمها الأيمن سبحة خضراء ذات حبيبات صغيرة، وعلى صدرها تدلت قلادة حديدية قديمة، وتزين أصابعها خواتم كبيرة، زهيدة الثمن.
بادرها الشيخ قائلًا:
_ شوفي لي حظي ياوداعية
تمتمت وغمغمت وقالت:
_ لكن ده بجوز ياشيخنا؟ ما إنت شيخنا وسيد العارفين
فخاطبها بصوت أكثر جدية:
_ قلت ليك شوفي لي حظي
نظرت إليه بطرف عينيها وبدأت في حلّ عقدة منديل أصفر اللون وأخرجت ودعاتها ولجلجتها وقالت:
_ لكن ده بجوز يا شيخنا؟
ثم طرحتها أرضًا والشيخ عبدالفضيل مترقب لها نظرت إليه وجمعت ودعاتها ثم طرحتها مرة أخرى وقالت:
_ ده الأول وده الوسطاني وحاتك ياشيخنا الخير موجود والجود موفور والكرم منك معروف. فقهقه ضاحكاً ومنحها مبلغًا كبيرًا من المال، ليكون بمثابة عهد للتعاون بينهما فضحكتْ هي الأخرى بصوتها الغائر وجمعت ودعاتها وعصمتها في منديلها الأصفر. ثم سألها عن سبب زيارتها، لم تجد جوابًا إلا أنه فهم سرّ زيارتها وفهمتْ مايريده منها. وقفت على باب الخيمة وتلفتت يمنة ويسرة ثم أسرعت في مشيها نحو القرية، أثناء عودتها رأت البخيت وهو يطرق على باب التومة بت حاج الأمين. لحظات قليلة وكان يقف وسط حوش التومة التي وهن عظمها وتملكها الحزن الدفين، كان صدره يعلو أنينه مغمغمًا لها بكلمات غير مفهومة كأنه يريد أن يخبرها عن سبب خرسه أو كأنه يقول لها معتذرًا أنه ساهم في ضياع أرضها.. في هذه اللحظات كانت مريم الوداعية تقف على عتبة الباب، باب منزل (فطومة) ذات الخمسة والثلاثين عامًا، بقوامها الفارع، وجسمها البض. همسًا تحادثتا وتواعدتا على أن تذهبا ســرًّا عند وقت الغروب لمقابلة الشيخ، الذي كثر زواره ومريدي، عرف كيف يجمع المال منهم، كان يصف لهم كيلو من العسل ليشربوا منه على الريق، كانوا لفقرهم وغلاء سعره وبعد أماكن بيعه عنهم يقولون له: “اللبن مابنفع ياشيخنا؟”
البخيت يرقب زوجته وهي تعد له وجبة الإفطار إذا بها تمسك برأسها ويجتاحها شعور مفاجئ بالفتور مماجعلها غير قادرة على تمالك نفسها حتى أغمي عليها، وبدأ الجنين يتحرّك في أحشائها. ولم ينم البخيت ليلته تلك.. نصحه حكيم القرية بأن يقلها إلى المشفى العام، رغم معاناته التي يحسّها من وعورة الطريق الترابي، وهو داخل(بَص الركاب) في رحلته الإسبوعية مابين القرية والمدينة، إلا أنها كانت تمثل له متعته الخاصة، المتعة التي استمرت معه حتى بعد أن رُزق بـ (الصافي ودالبخيت) الذي شب عن الطوّر، كان طفلًا حاد الذكاء، متوقد الذهن، غير أن جسده كان يبدو أكبر حجمًا من أقرانه، الذين يلقبونه بـ (ود الأطرش) كان شديد الغضب عندما يتندرون عليه بقولهم: بأن أمه ظلت ترضعه لمدة قاربت الأربع سنوات ومن شدة حبها له كانت غير راغبة في فطامه.
أصبح الصافي من زينة فتيان القرية، التي تغيرت معالمها وملامح بيوتاتها الطينية وحوائطها القصيرة، لم يعد أهلها يسمعون صياح الديك كما اعتادوا! فصار الأطفال لايلتفون حول الشيخ عبدالفضيل، كانوا ينشغلون عنه بالعاب الكمبيوتر حينها قرر الرحيل إلى قرية أخرى، لايعرف أطفالها معنى الشبكة العنكبوتية واليوسي ماس.

————————————————————
التبروقة: تصنع من سعف النخيل وهي من الصناعات اليدوية، تستخدم للصلاة
مصطلح يوسي ماس U.c Mas: برنامج لتنمية المهارات يسمى “المفهوم العالمي لنظام الحساب الذهني” إنه برنامج تنمية عقل بأكمله و هو معد خصيصًا لإحتياجات الأطفال ما بين 4 و 12 عام. يهدف إلى إن الذكاء هو القدرة الإنسانية الأكثر قيمة، و يعد برنامج يوسى ماس أداة تدريبية فعالة غنية تساعد على إكتشاف و تنمية وزيادة ذكاء الأطفال منذ مرحلة مبكرة.

السابق
وهوى النرجس
التالي
غشيم

اترك تعليقاً