في أقسى الـمَــرافئ… احْتشد خلق من كلّ الأعمار في رواق الاستعجالات.. بضعة كراسي مهترئة لا تكفي حتّى العاجزين عن الوقوف… المكان يبعث على الشّعور بالوحشة رغم الزّحمة… مُمتدّ كالنّفق لا صوتَ يدقُّ المسامع فيه غير الصّراخ، و الأنين… عيون أرهقها التّرقّب… الأسارير منقبضة… للبكاء لُغات بعدد الوجوه… تتخَلَل الأرجاء رائحة امتزجتْ برائحة الموت؛ تثير الغثيان، و الدّوار… ذووا المآزر البيضاء في عَجل، لا ينازعهم المقام أحد.. بعض القلوب تتبعهم ، تتوسّلهم، و تشتكي إليهم؛ يَرون زرَّ الحياة و الموت بين أيديهم.. للألم هنا جسد يُمسِك بيَدٍ السّوط و بالأخرى الصّولجان.. أرواح تـئنّ يعتصرها الوجع من خَوْف فَقْدِ حبيب قريب تربّصتْ به المنون، و أخرى طاعنة في الضّعف ، باذخة الاحتراق، عَلَتْ أصواتها.. ما أعظم الوهن في هذه اللّحظات!.. جلستْ بالقرب من زوجها ساعات كإسفنجة بالية امتصّت كلّ ما مرّ بها من طُعوم و قد وَضع مِرْفَقَيه على ركبتيه، و جمع كفّيه يسنِدُ بهما جبينه.. تحترق بلحظات الانتظار.. تغلبها عَبْرتها و ما لها على غلبتها مُستطاع… و للمكان معها ذكريات من عَلْقم.. احْمرّ أنفُها كمن به رشح، و مُقلتاها، تَعَبُ جفنيها يروي قصة لا يستوعب تفاصيلها إلاّ من تَجَرّعّ مِن صِــنْوِ كَأسِها… تحضُن نفسها، تُطأطئ رأسها حينا، و تُسنده على الجدار حِينا آخر… رأت نملة تخرج من صَدْع على الجدار من أثر زلزال بومرداس.
و هبّتْ نَــسائم عَــذْبة… حملتها الصّورة إلى حيث قالتْ: عجّل يا “يُونس”! ها هي النّملة الحمراء التي عضّتك بالأمس؛ هل أدوسها؟، فَرَدّ “يُونس”: لا يا حَسْنَة! قال لي أبي إنّ لها أولادا صغارا تُطعمهم… سافرتْ من دون حقيبة أو متاع عَبْرَ الـمَشهدِ إلى زمن كانت تقضي فيه سحابة يومها في اللّعب مع ابن عمّتها، و هم جيران قُرب تجَانَبَ بيتاهما… تُلازمه أكثر من أي طفل آخر؛ لا يكادان يفترقان، لا أثر للسَّنتين اللّتين يكبرها بهما في حجم التّوافق بينهما؛ متعة اللّعب مع بعضهما متعة لا تُدانيها مُتعة. يونُسُ زُكْمَة والديه و خاتمة مِسْك لِعرجون بنات… أمّا هي فالرّقم ثلاثة و لم يكن قد الْتحق بالدّفتر العائلي سوى خمسا من اخوتها.. يحميها بكلّ ما أوتِيت عضلاته الصَغيرة و عظامه الطّريّة من بأس، و إن غُلِبَ فيستعين بحجر من بعيد.. يتقاسمان ما يحصلان عليه من حلوى… يَحِزُّ في نفسها أن تَسْتمتعَ بطعام دون مشاركة ابن عمّتها… تُطالبُ والدتها بنصيبه من طَيّب الأطباق و الفاكهة، و بالمثْل يفعل هو، و غالبا ما يأخذ فِدْرَةً من القِدر خلسة و يعطيها إيّاها مسرورا غير عابئ بتوبيخ اعتاده من والدته. لَزمَتْ البيت، لا تبرحُه إلاّ لَـمَما إذ الْتحقَ بالمدرسة.. تُلازم العَتبة، تستقبل بوجهها طُولَ الزّقاق تنتظره حتّى إذا لمحتْه مُقبلا تَـهُبّ إليه، تسأله دون ملل: متى يُـمكنُني مرافقتك إلى المدرسة؟ إلى أن رافقته و أطفالا أُخَر. يَحْمل عنها محفظتها، يتصدّى عنها لشغب المزعجين و المتنمّرين من الأطفال.. يُسْرعان إلى زاوية من السّاحة يقتسمان لـُمْــجتيهما، و القلب منهما أبيض لا يعرف غير الوردي لونا؛ قليل ممّن حولهما يعرفون أنّهما ليسا أخوين.
أوّلُ الرِّيــح… سرعان ما هبَتْ ريح لم يشتهيها مَرْكبهما؛ رحلَتْ عائلته إلى بيت جديد بعيدٍ عن بيت خاله. اكتَسَحتْ أيامهما وحشة، و فقد اللّعب عند نفسيهما نكهته… تكفّل الزّمن بتلوين ما كان بينهما بلون النّسيان و ما انْـمَحى.. يأخذان من اللّقاء جُرعات بِقَدَرٍ أيّامَ الأعياد، و المناسبات. أحبّتْ “حَسْنَة” أشغال البيت لكثْرة ما اضطرّتْ للقيام بها، فأمّها تَحْبَلُ عاما و تُرْضِعُ آخرَ، و لم تحظ الكّراريس بنصيب كبير مِن قلبها… حين حَصَّلَتْ ما يُمَكّنُها من قراءة سليمة، و إدراك عموم المعنى، غادرتْ المدرسة، و عكفتْ على تعلُّم ما مِن شأنه أن يزيدها جمالا و يُعزّز ملفّها بمزايا إضافيّة.. تَرقرق وجهها، أشرقتْ ابتسامتها، تمشّقَ قَدُّها، عَرض وركاها مع ضيق خصرها.. تعلّمت الخياطة فمهرتْ فيها، و التّطريز فأبدعتْ فيه، و الحياكة فأتقنتها، و تجمّع لديها ممّا شابهها من الحِرف ما فاق عدد أصابع يدها، فكثُر خُطّابها و ما ملأ عين أبيها غير ابن صديق عزيز له… اتّفقت العائلتان على معظم الأمر… هاجتْ رواسب في فؤادها و تحرّكتْ عواطف كانت تجْهلها من نفسها، و لم تحرّك ساكنا؛ أعظم ما كان منها أن تُعلن رفضها لوسادتها إذا وضعت خدّها عليها بذرف دمعها عليها، و تدعو بحدوث أمر يَـحول دون زواجها الـمُرتّب ذاك… هي مفعول به مجرور بالأبوّة نيابة عن رِفْعّة الشّرْع لا محلّ له من الحَوْل و التّصرّف… ما أظهرت غير الصّمت، و الرّضا.. بلغ الخَبر مَسْمع ابن عمّتها ثارت ثائرته، و جنّ جنونه، و كان قد استلم وظيفته كمعلّم لتَوّه. طلب من زوج أكبر أخَواته، و توسّل إلى أمّه إقناع والده بالتدخّل لإبطال تلك الزّيجة التي لن يسمح لها أبدا أن تتمّ؛ مهما كلّفه الأمر، و أن “حَسْنة” حُلُمه الذي لن يتنازل عنه.. طلب منهم أن يضربوا بالأعراف عرض الحائط و ليس يخفى عنهم جميعا قُبح و شناعة الفعل… حين باءت المحاولات بالفشل، و أصرّ خالُه مـُخَـيّـرا الموتَ على عدم التراجع؛ حاولت أخواته عبثا إغراءه بأخريات… هيهات!… لازم “يونس” الفراش محموما يهذي باسمها… هجر الشّراب و الطّعام أسبوعا إلا جرعات من ماء أخذها مُرغما.. تَوَلَت نِسوة إذاعة النّبأ مِن “مقْبرة البلديّة” إلى حمّام ” لالاّ ياسمينة” حتّى بلغ مسامع عائلة الخاطب فَفضّوا ما كان بين العائلتين من اتّفاق إشفاقا عليه … تماثل “يونس” للشّفاء و سكَتَ عنه الغضب… تعجّل بها و لا يصدّق أنّه بها ظفّرَ.
أيّاما بعد الخطبة فارق أبوه الحياة، و هو يحضّر ملفّه للحجّ في حادث مرور و قد عاش على الماء أكثر ممّا عاش على البرّ؛ صيّادٌ البحرُ و الزّورق رفيقاه المخلصان لم يشهدا ساعته الأخيرة. لم يكن الفرق كبيرا بين غياب والده بين أمواج البحر، و غيابه ميّتا؛ لم يتريّث “يونس” إلاّ أياما قلائل بعد مرور أربعينيّة والده لإتمام الشّطر الأخير من حلمه.
في اللّيلة ما قبل ليلة الزّفاف؛ وضعتْ أمّ “حَسْنة” مولوديها الثّالث و الرّابع عشر خَديجين ابنَا سبع لم يكتملا بعدُ من فرط ما أرهقتْ نفسها به بشأن تجهيز العروس، و ترتيبات العرس و التّحضير له في ظرف قياسيّ .. الأمّ و الوليدان في المستشفى لتَلقّي العناية ، و البنت على كرسيّ الزّفّة… و تمّ الأمر!… قَضيا ليلتهما يتسامران حتّى الصّبح، وَتَلتْها ليال كثُر بيضاء بعدها يَتَذاكران ما كان بينهما من جميل زمنهما الأوّل… رقيقة، حنونة، ذكيّة، وَدود أغدق عليها من خُلقه، و طيبته، و عطفه بسخاء جَم.. يعشقها حدّ التّلبُّس.. ما مَرّتْ نهاية أسبوع إلاّ و شهدت على مُكثهما ساعتين من الزّمان أو ثلات بمكان من الأماكن الأكثر شاعريّة و جمالا في المدينة، و لا يخبران بسرّهما أحدا… قُرْبُـها شمسُ أيّام الرّبيع الأولى أشرقتْ بها حياته، عسل حَلّى قهوةَ صباحِه الـمُرّة، ، باقةُ وردٍ في بهو بيته، زجاجة مِسك تُرافقه، و أشياء أخرى بِطَعم السّكر و مَلْمس الحرير لم يُسمِعْها أبدا و لو مُزاحا كلمة “أحبّك”… لم يمنع تأخّر إنجابهما رَبْوَ حُبّهما… لكن بعد مُضِيّ أكثر مِن حَولين ولم تَزْدَن حِيطان البيت بصدى ضحكة طفل و بكائه؛ تعويذة تحمي الرّاحة و تعزّز السّعادة، و ترمي حَجرا في أفواه المتشدّقين و الفضوليّين، و تُبطِل التّأويلات و الإشاعات… نال القلق منهما نصيبا،؛ لم يكن تَوْقَهُ و تحرّقه إلى ممارسة أبوّته بأقَلَّ من توقها إلى عَيش أمومتها… انطلقا في رحلة طويلة شاقّة، و مُكلّفة انتهتْ بعمليّة جراحيّة لتعديل تشوّه خلقيّ على الأجهزة الـمَعنيّة لكِليْهما.
و فاجأتهما ريــحٌ عاصِــف… ما أعظم فرحته بها حين رزقا بنتاً كوجه القمر استقبلتْ الحياة بصرخة قويّة بعد ثلاثة مواليد ضِعاف ماتوا فور الولادة… كلّ زوجين بعد الإنجاب لابدّ لهما من شيء يختلفان حوله عَدَاهما؛ متناغمين حدّ الالتحام؛ روح واحدة تفرّقت بين جسدين.. ما إن أتقنتْ بِكْرُهما النُّطق حتّى رزقا بأخرى نسخة عن أمّها.. لم يمض العامان و رزقا بولد .. بينما هم في غمرة الفرح في اليوم السّابع، يوم الاحتفال بالمولود الجديد؛ سقطتْ البنت البِكر أرضا و هي ترتعش و تتخبّط مُتيبِّسَة لا يَظهر من عينيها غير بياضهما، ثمّ خرجتْ رغوة من زاويتي فِيها، بقَتْ على تلك الحال زمنا قصيرا ثمّ هدأتْ مُستعيدةً وَعيها كأن لم يَعْرَض لها شيء، تلك هي أوّل مرّة تُصاب فيها بنوبة صرع ثمّ توالت النّوبات، لكنّها خَفَّتْ بعد الْتزامها بدواء تأخذه يوميا و بجرعات محدّدة.. عندما بلغت سَنتها السّادسة انتبهتْ والدتها أن البنتَ تتصرّف كضعيف البصر.. كم كان وجعهما كبيرا عندما أكّد لهما الطبيب ذلك، و أنّ بصرها سيستمرّ في التّناقص إلى فقدِه تماما، و تلك حالة مرضيّة نادرة من ثمار زواج الأقارب، و ليس مؤكّدا أن يصاب به الأولاد جميعهم، و أنّ المصاب سيفارق الحياة في سنّ مُبَكّرة لن تتجاوز آخر مرحلةِ الشَّباب بسبب اضطرابات في الأجهزة الحيويّة، و هذا ما قاله لهما طبيب آخر عَرضَا عليه حالة ابنتهما يرجوان خطأ الطبيب الأول… لم يُـجْد تغيير الطّبيب تلو الآخر في تغيير تشخيص الحالة بل أكّدها؛ اجتماع التهاب الشّبكيّة الصِباغي، و الصّرع الوراثي، و خلل في المناعة.. تَمنَيا لو لم يزورا الطّبيب قَط، و بقيا على جهلهما.. ، ، قَرَعَتْهما قارعة الدّهر فلوّنت سماءهما بالرّماديّ و توالدَ حُزن، دَقّ عُنقَ أفراحهما… تَغَلغل الاضطراب إلى أيّامهما الهادئة… ليلهما بارد كنهارهما و ما عادا ينتظران طلوع الشّمس كطفل يتحرّق شوقا لشمس صباح يوم العيد بقلب لم يعرف الهَمّ طريقا إلى قلبه بَعْد… يرفع القليل من معنوياتهما رجاءٌ بسلامة البنت الثّانية و الولد، و يَـخفضهما إلى اليأس خوْفٌ… هاجسُهما و مَصّبّ تفكيرهما؛ كيف إلى شفاء ابنتهما السّبيل؟ كيف للمرض أن يوجد و ليس له دواء مع هذا التّقدّم الهائل و غزو التكنولوجيا لجميع مناحي الحياة؟… و توالتْ الأيّام بين الخوف و الرّجاء حتّى فتكَتْ نوبات الصّرع بسلامة البنت الثّانية… انكفأتْ حَسْنَة على رعاية بنتيها المريضتين و صبيّ في كامل حاجته إليها؛ أنفقتْ عليهم من صحّتها و راحتها بلا شفقة… و حَبلتْ مرّة أخرى بعد عَقد من الزّمن، فوضعتْ بنتا ثالثة… أصبح في عُهدتها بنتين ضريرتين يمكن لنوبة الصّرع مباغتتهما في أيّ لحظة، فليستْ النّوبة تراعي خطورة المكان و لا تحترم أوقات الخصوصيّة، و طفل تقتضي المرحلة العمريّة التي يمر بها قربها منه، و رضيعة أضافت إلى جدول توقيتها اكتظاظا، و تحتلّ المرْتبة الأولى في سلّم الأولويات و صَعَّدتْ سطوة الألم، و صبّتْ على العيش مرارة أخرى.. حلّ خريف العمر سريعا و مضى الربيع عجولا.. لم تتساءل حينا هل هي سعيدة، و لا يهمّها التّساؤل، همُّها منح السّعادة لمن حولها و توفير أسبابها لهم تُشبهها شمعة في الدّمع، و الاحتراق.
و تَلَتْـــها ريــح حَــاصِب… اضطرّتْ “حَسْنَة” ذات صيف إلى حضور حفل أقامه أقرباء مُقرّبون لها و لم تفعل منذ زمن أفَلَ.. شعرت البنت الكبرى بالعطش فطلبت من أمّها ماء، سمعتها شابّةٌ جالسة بالقرب منها، فتوسّلتها أن تسمح لها باصطحاب ابنتها إلى المطبخ حيث الماء البارد.. قادَتْ الشّابَّةُ الشّابّةَ إلى المطبخ و ناولتها كأس ماء بارد، ثمّ التفتت تُسلّم على امرأة تعرفها و تتبادلان السّؤال عن الأهل و الأحوال.. وقع القدح من يدها.. تخشّبتْ، و أصابتها رعشة عنيفة كَبَّتْها على وجهها في قدر كبيرة تفور للحساء… أخذاها في الهزيع الأوَل من اللّيل إلى مصلحة الاستعجالات.. كلّما صرختْ، و وَحوحتْ صَرختْ روحاهما، و وَحْوَحتا.. تتلوّى فيعتصرهما الوجع.. الألم ألمان ألم بألمها و آخر لعجزهما عن التّخفيف عنها.. استلمتها منهما الأيادي البيضاء و انصرفا إلى احتراق مُتصاعد.. عانت أيّاما في الإنعاش ثمّ هلكتْ مُتأثّرة بحروقها.. استلموها جُـثّة مُسجّاة شيّعت من المسجد إلى مَثواها الأخير.. رغم هَول القارعة و ثِقل ما حلّ بهما من البلاء فقد خَفّ عنهما القليل مما كان عليهما من حِـمل.
و طَالَتْ العاصِفــة السَّــاريَة… أعلنت “حَسْنة” الإقامة الجبريّة التي حكمتْ بها حال أولادها عليها في بيتها، و لم تعد تبرحه أبدا، يقصدها من اشتاق إليها خاصّة بعد أن فقدت البنت الثّالثة بصرها.. ذات شتاء قَسى برده أصيبتْ البنت الثّانية بزكام لازمها أياّما قبل أن تزور الطّبيب، تناولت الدواء لأسبوع دون تحسّنِ حالها بل ظلّت في تراجع مستمرّ و هزلت بشكل حادّ.. زارتْ طبيبا آخر وصف لها مجموعة أخرى من الدّواء، في اليوم الثّالث من مُباشرة تناول الدّواء أصابها سعال حادّ… بصقتْ دما كثيرا ممزوجا بالبلغم… هرعوا بها إلى قسم الاستعجالات .. شخّص الأطباء حالتها بمرحلة متقدّمة من مرض السّل، إلى تسمّم دوائيّ.. لفظتْ أنفاسها الأخيرة بعد أسبوعين من الإقامة في جناح الإنعاش، و ما سمحوا لهما باستعادة جثمانها إلاّ بعد إجراءات معقّدة بسبب تشريح الجثّة، و التّحقيق بشأن سبب الوفاة.. استلماها مسجّاة لم يسمح لهما الموت بتقبيلها؛ “ممنوعٌ فتحُ كفنها”، و وُوريّت التُّراب يوم بلغتْ العشرين من عمرها… و بذلك المصاب الجلل خفّ حملهما أكثر بمرارة أكبر… عزاؤهما سلامة ابنهما.
في صباح يوم جميل و قد هدأت النّفوس و رضيتْ جلستْ حَسْنَة في غرفة البنات تُرتّب ما بقي لها من أغراض بنتيها الرّاحلتين، دخل عليها ابنها، فاحتضنته و أمسكتْ بذراعه… مرّرت سبّابتها على عِرق بارز فيها و قالت: هذا دَمُك يجري في عِرقك، نصفه لي و نصفه الآخر لأبيك يَدُسّ لكَ ما أظْهَره لنا، أوصيك أن تتخيّر له البعيدة الغريبة السّليمة!… إن اعْتَرَضَتْك العَوارض عُدْ أدراجك و لا تُعارض!.
بنتٌ وحيدة لا تبصر إلاّ ضوء خافتا جدا، و ظلالا متداخلة للأجسام، التّهاون في أخذ دوائها يعني الوقوف على شفير الخطر، و مراهق يحتاج صُحبة والديه يجتاز مُنعطفا حرجا من عمره يتزاحمون على تجاعيد قلب ينبض ألما، و نفسٌ مُتَهلْهِلةكلّما اخترقها الموتُ ماتتْ دون الموت كَمدا… لا يستطيعان مَنع نفسيهما من تخيّل مصير ابنتهما، فتحوّلَ سعيُهما يحُثّهما التقدّم الباهر في مجال البحث العلمي، يـَحـْدوهما أمل بإيـجاد علاج لحالة ابنتهما… قَرّرا بيعَ البيتِ، هو كلَ ما يملكان من المتاع، و السّفر بابنتهما إلى أوروبا طلبا للعلاج، فعرضاهُ للبيع.. مَرّت الأيّام سريعا و فقدتْ ابنتهما كامل بصرها، تقاربتْ نوبات الصّرع و اشتدّت رغم الالتزام بالجرعات المحدّدة في أوقاتها، ما جعل “حَسْنة” إمّا أن تنام بجوار ابنتها لمراقبتها ليلا، أو أن تأخذها لتنام معها في غرفة نومها.. ذات ليلة حارّة لِذاتِ اليوم الذي اتفقا فيه مع رجل ثريّ قَبِل شراء البيت منهما بمبلغ كبير، و دَفْعهِ جملة واحدة، و قد أغراه مَوقعُه على بُعد عشرات الأمتار من شاطئ البحر؛ أوَتْ حَسْنَة إلى فراشها و شيء من الفرح قد تسرّب إلى صدرها و هي تحلم بشفاء ابنتها بَـعْد العلاج خارج الوطن. جافى النُّعاس عين الأمّ… انتابها فجأة خوف شديد، و ضيق في الصّدر فأخذت تستعيذ بالله و تستعين بما تحفظه من القرآن والأدعية المأثورة… حين أوشك الصّبح على البزوغ أخذتْ البنت تتفصّد عرقا، باردة الجسد، شاحبة الوجه لا أثر لقطرة دم فيه، ثمّ أصابتها نوبة هي الأعنف من نوعها.. لم تستعد البنت وعيها بعدها، فأخذاها على مَتن دخّان الحُلم الأخير إلى قسم الاستعجالات.. أدخلوها غرفة الإنعاش… و الْتزم والداها بِركن من رواق الاستعجالات بين حُشود من الخلق من كلّ الأعمار جمَعَ البلاء بينهم في ذات المكان و الزّمان.. جلسا لساعات على جمر الانتظار ينتظران عودة وعْيها.. بعد يوم و ليلة عادا بها إلى البيت ليباشرا تحضير وداعَ فلذةٍ أخرى من كبدهما، و توديع بسمة خَبَتْ. زال عنهما الحِمل و لم تبقى سوى مرارة طعمه تدحرجها الأيّام، و يجدّدُ نارًا تأبّتْ جذوتها عليهما الخبْوَ أن يَـقعَ بَصرٌهما على وَجه طفلة.