القصة القصيرة

الصقيع

كنت حريصاً ، منذ قدمت إلى فرنسا على متابعة نشرتيّ الأخبار والطقس، كل ليلة،
فنشرة الأخبار تساعدني على متابعة ما يجري في العالم ، في حين تحدد لي النشرة الجوية نوع الملابس الواجب ارتداؤها في اليوم التالي ، كلبس المعطف أو حمل مظلة أو القفاز وهكذا ،وخاصة في فصليّ الشتاء والخريف حيث تنخفض درجات الحرارة ، غالباً إلى ما دون الصفر.
يحدد الطقس نوع الملابس وكذلك الطعام .. فيزداد تناول الدهن والسكريات ، ويحدد أيضا نمط السلوك كالاقتصاد في الحركة والتنقل والسهر.
كنت أتأهب ذات صباح شتوي للذهاب إلى معهد اللغة ، وقفت بالردهة الكئيبة بالطابق الخامس بانتظار قدوم المصعد وما أن وصل خرجت منه إحدى جاراتي والتي تقطن في نفس الطابق ، تحمل بيدها نصف رغيف من الخبز .. أفسحت لها الطريق وألقيت عليها تحية الصباح … ترددت بيدها نصف رغيف من الخبز .. أفسحت لها الطريق وألقيت عليها تحية الصباح … ترددت برهة قبل أن تجيبني بنفس التحية مستخدمة لفظ سيد.
ما إن خرجت من البناية حتى لفحتني النسمات الباردة القادمة من شمال القارة الأوربية. أحكمت إغلاق ياقة المعطف حول عنقي وارتديت القفاز .. إلا أن البرودة بدأت تتسرب إلى من خلال الحذاء .. أسرعت الخطى لبعث الدفء ولتقليل فترة ملامستي للأرض الباردة والمغطاة بالجليد الخفيف الشفاف ، محاذرا في نفس الوقت مغبة الانزلاق ، فنعل حذائي لم يكن مخددا بشكل كاف للسير على الجليد .
في الواحدة ظهرا قفلت عائدا إلى شقتي لأتناول وجبة الغداء كما هي الفرنسيين . وأثناء مسيري إلى شقتي ، عبر الردهة ، رأيت جارتي التي حييتها صباحاً ، بادرتني بالتحية وسألتني بأدب جم إن كان لدي وقت كي أزورها لتناول الشاي .
طلبت منها أن تكرر لي ما قالت خشية أن أكون قد أسأت الفهم لا سيما وأنا حديث عهد بلغتهم .
رددت ببطء : أنا أدعوكم لتناول الشاي ، هذا المساء ، إن شئتم .
وفي الحقيقة كانت دعوتها هذه مفاجئة كبيرة لي ، فليس من المعتاد أن يدعوك أحدهم وإلى بيته دون سابق معرفة ، خاصة نحن ذوي السحنة الشرقية ، اللهم إلا إذا كانت ثقته بك عالية .
أجبتها بعبارات تعني الموافقة .
سألتني عن الوقت المناسب لي .
فكرت قليلاً ورأيت أن الخامسة تبدو مناسبة لي : بُعيد انتهائي من الدراسة المسائية وأبكر من وقت تناول وجبة العشاء .
قلت : الخامسة ؟
أجابت : اتفقنا .. شقتي مجاورة لكم .. إلى الخامسة إذن .. طاب يومكم .
تركتني هذه المرأة الخمسينية متسمراً أمام باب شقتي ، ورائحة عطرها يملأ الردهة ذات الأرضية الخشبية العطنة .
في طريق عودتي من المعهد احترت : ماذا أحمل معي ؟ وأخيراً استقر رأي على الزهور ، فعرجت على أحد المحلات وزادت حيرتي أكثر .. ماذا أختار ؟ فلكل زهرة معنى ، ولكل لون مغزى ، ولكنني فضلت أخيرا أن أحمل لها أصيصا من نباتات الظل ، فهي حيادية تماما ولا تحتمل أي تأويل .
في الخامسة وأمام باب شقتها ، فكرت : كيف تدعوني إلى منزلها رغم أننا لم نتبادل الألقاب ؟ ضغطت على الجرس لمرة واحدة ، فتحت الباب واستقبلني بابتسامة مرحة مرتدية ثوباً بنفسجيا ذا طراز تقليدي .
ــ أهلاً … تفضل .
شكرتها وناولتها أصيص نبات الظل المغلف بورق ( السلوفان ) .. بدا الامتنان على وجهها ، شكرتني مراراً حتى شعرت بالارتباك أمام مشاعرها حيال هذه النبتة الصغيرة .
قالت : أشكرك .. أشكرك كثيراً .. يا الله ما أجملها وما أرقها .. وطلبت مني الدخول مبدية أسفها على وقوفي لحظات نتيجة انشغالها بالنبتة التي جلبتها معي .
ناولتها معطفي وتوجهت نحو غرفة الضيوف وجلست على مقعد جلدي مفرد .
نزعت الورق المغلف برقة وحذر جراح . وضعت الأصيص على أحد أرفف المكتبة وسط صورتين ضوئيتين أحداهما لامرأة شابة بين أحضانها طفل مكتنز وأخرى لكهل عابس بشارب كث وغليون معقوف .
قالت جملة لم أتبين مفرداتها وبادرت بإنجليزية واضحة : هذه صورة زوجي .. ابتلعه المحيط في رحلة صيد لم يعد منها أبداً .. وتلك ابنتي الوحيدة وطفلها .
أدارت لي ظهرها وتوجهت نحو المطبخ .
تأملت ” الصالون ” .. بدت على الفور الأناقة ظاهرة .. الستائر المخملية والسجاد السميك .. والسقف المزين بنقوش آسيوية حيث تتدلى ثريا كبيرة نوعاً ما .. المقاعد جلدية ووسائد صغيرة بألوان قوس قزح .. ولوحتان مقلدتان لـ ” بيكاسو ” وتتناثر نباتات الظل والزهور الملونة كذيل الطاووس .. تحتل المكتبة جداراً بأكمله وتحتوي على أرفف بها كتب مجلدة تجليداً فاخراً .. يتوسطها جهاز تلفزيون بجانبه جهاز عتيق للاسطوانات .. وفي الركن مكتب فوقه جهاز حاسوب إلى جانبه مجسم ذهبي اللون للأهرامات وتمثال صغير لبومة شاخصة .. كان ” الصالون ” يجمع بين وقار الكلاسيكية وحيوية الحضارة المعاصرة .
عادت تدفع أمامها منضدة متحركة .
قلت بإطراء : هذا ” الصالون ” ينمّ عن ذوق رفيع .
انتشرت حمرة خفيفة على وجنتيها ، وقالت : في الواقع أعيش الآن وحيدة .. ولا أحب اقتناء القطط أو الكلاب مثلما يفعل أغلب العجائز .
سألتها : هل تسكن ابنتك هنا .. أعني في هذه المدينة .
سكبت الماء المغلي في قدحي الذي تدلى منه خيط كيس الشاي وسألتني : كم قطعة سكر ؟ قلت : واحدة من فضلك .
ناولتني كوب الشاي وصحن صغير يحتوي على قطعتين من فطيرة التفاح الشهيرة هنا .
قالت : إنني أجيد صنع هذه الفطيرة .. ابنتي تسكن في ( نانت ) .. تعمل بمصلحة البريد .. إننا نتبادل الرسائل القصيرة من حين لآخر .. وعبر الانترنت .. زارتني لآخر مرة في شهر مايو الماضي .. أي منذ تسعة أشهر تقريبا .. بعثت لي رسالة في عيد رأس السنة تتمنى لي عاماً سعيداً .
لم أعثر على كلمة أقولها فتشاغلت بتناول فطيرة التفاح .. وسألتها إن كان بإمكاني تدخين لفافة تبغ .. قالت : بكل سرور ..
وأردفت بالإنجليزية : تصرف وكأنك في بيتك .
سألتها وبالانجليزية أيضا : أرى أنك تتحدثين الإنجليزية بطلاقة .
قالت : نعم .. لقد كنت مدرّسة للغة الإنجليزية في المرحلة الثانوية.. كما إنني أجيد الإيطالية أيضا ، فقد عشت عدة سنوات في روما .. وقليلاً من الألمانية .. وأنت ماذا تفعل ؟
أجبتها : حالياً أدرس اللغة الفرنسية وبعدها سأسعى لنيل شهادة الماجستير . قالت : أتعرف إنني حتى الآن ما زلت ارتكب بعض الأخطاء في اللغة الفرنسية وخاصة حين أكتب بها .. الفرنسية جميلة ولكنها صعبة لمن لم يتعلمها منذ الصغر .. لذلك أشفق عليك ومهمتك ليست هينة .
قلت : معك كل الحق .. ولكن هذا اختياري .
ابتسمت وقالت : أحي فيك هذه الروح .. أتمنى لك من قلبي النجاح .. وأرجوك لا تتردد بطلب مساعدتي .
فرغت من تناول الشاي فاستأذنت بالمغادرة .
قالت : بالطبع ، أنني أقدر بأن وقتك ثمين ، وأنا كما ترى أبعــثـر وقتي بيــن ( التلفزيون ) و ( الانترنت ) .
عند باب الشقة ناولتني معطفي وكررت شكرها لهديتي وقالت : سأتولاها بالرعاية .. فهذه النبتة تحتاج إلى كمية محددة من الضوء كل يوم ، وإلى كمية صغيرة من الماء كل ثلاثة أيام وإلا ستموت .
وقبل أن تغلق باب شقتها قالت : أتعلم أنني منذ سكنت هنا من أربعة أعوام لم أسمع كلمة نهارك طيب من قاطني هذه البناية .. كما إنني لا أفض إنفاق بقية عمري مع القطط والكلاب .. أرجوك زرني كلما سمح وقتك .
أومأت برأسي علامة الموافقة .
اتخذت طريقي إلى شقـتــي وتـنــاهـــت إلى مــســامعي السيمفونية الخامسة لـ ( بتهوفن) تنطلق من شقة مضيفتي ، التي لم أتبادل معها الألقاب .

السابق
في آخر الممر
التالي
خيبة

اترك تعليقاً