القصة القصيرة جدا

الضياع

يتأخر كثيرا وأحيانا يتغيب ثم يحضر وقدلفّ رجليه بخرقة بالية متصنعا العرج والالم واثور في وجهه وقبل أن أزجره ،بخفة يسحب من محفظته بيضا ويفتر غضبي(انهم لا يربون الدجاج انه يسرق البيض )يردد التلاميذ وسط زوبعة من الصخب الطفولي، ويطأطيء رأسه يزم شفتيه وتتقلص عضلات وجهه كأنه على وشك البكاء لكنه لا يفعل..تدور عيناه كفأر مرعوب..ويتطوع اكثر من تلميذ للشهادة أنهم رأوه يطوف بدراجته وأنه شوهد ينصب الفخاخ للحمام قرب الغدير، ويقسم انه مريض وجرحه ينزف وأن التلاميذ يفترون عليه لأنه يمنعهم من ركوب دراجته وأفك الضمادة عن رجله وهو يتأوه ولا أَجِد إلا ندوبا قديمة ً،ويدّعي ان جرحه برأ واندمل ويتوسل بعيون دامعة ويعدني انه لن يتغيب وأخلي سبيله وهو يمرق بين الصفوف فيغمزبعينه فينفجر الفصل ضاحكا.
يتسلق الشجرة اليتيمة في وسط المدرسة مثل ثعبان يقطف ثمارها الغير الناضجة ويقذف بها التلميذات وهو يقلد ثغاء الغنم و مواء االقطط ،ويختلس أدوات زملائه وأضبطه متلبسا ويدفع التهمة أنه مظلوم، وكانت أمه تأتي صباحا وهو يمسك بتلابيب جِلْبابها مثل حمل وديع لكن ملامح وجهه المراوغة تفضحه وتشتكي ان التلاميذ يضربون ابنها تبكي وأنها غريبة والكل يكرهه ولو كان ابوه موجودا ما تجرأ عليه أحد.
طباخة المدرسة أكدت لي ان ليس له الا هذه الام المعلولة سكن مرض الربو صدرها..جاءت به حاملا ،أواهاأهل الدوار عندما وضعت المحجوب بقيت هناك لا يعرف له أب ..هناك من قال انها خافت الفضيحة ومن قال انه سجين في بلاد بعيدة ومن يقول انه هاجر إلى بلاد وراء البحركلام الناس كثير والعلم لله.
كان المحجوب ضئيل الحجم قليل الطول بملابس أكبر منه يدس رأسه في قبعة كالحة اللون..لكن ماكان يستوقفني دائما عيناه المخادعات ،كنت أتعمد أن أنفرد به و
أسأله دوما، لماذا انت مشاغب يبتسم بمكر وينأى عني يرفع رجليه إلى أعلى ويدبّ على يديه مثل عقرب وكان التلاميذ يقلدونه فلا يستطيعون.
لكن وأنا أسأله أين أبوك ؟انطلق السّؤال مثل العيارأصابه في مقتل خرجت الكلمات من فمه بطيئة ومتكسرة اب ..اب ..ي …!انتفض وسهمت نظراته..كان عاجزاعن فعل اَي شيءكما لو فقد الاحساس عمن حوله.
جاء ذاك الْيَوْمَ باكرا بدون محفظته لايبدو عليه اثر الشقاوة ،تطفو على وجهه ابتسامة عريضة وعيناه تضحكان، لم يكن وحيداكان يمسك برجل حتى كاد يحضنه هذاأبي ..أبي.. ظللت شاردا أرنو اليه..لكن صوته عاد يشرخ ذاكرتي، هذا أبي إنه أبي..يقينا أحسست ان المحجوب الصغير تبدل كثيرا وأنه لن يعود ربما وجد الشيء الذي كان ضائعا منه.

السابق
مَجْهُولٌ
التالي
قراءة في نص “الضياع”

اترك تعليقاً