القصة القصيرة

العَابرون

ردّدتُ في نفسي بسَخط: ألا تبّاً لتكنولوجيا تُعرّينا و تفشي أسرارنا!… بئسا لأناس التكنولوجيا أكبر من مقاسات أقدامهم، يَـمْضون بها فيتعثّرون بقُبحهم، فيتعفّرون، و يتبعثرون…
الأشجار يمينا تعدو إلى الخلف عدوا. شمس نيسان تلاعبها؛ تظهر بينها تارة و تختفي أخرى. حقول القمح الخضراء يسارا تحرّكُ سنابلها نسائمٌ على نغم الرّبيع تراقصها. من بعدها تنتصب هامة جبال الأطلس التّليّ شامخة. السّائق على كرسيّه المتهالك رتيب الأطيط، تُهدهدُه تموّجات الطّريق المتعرّجة. يعقدُ حاجبيه، و يثبّتُ نحو الأمام عينيه و يداه الغليظتان على المِقود في حركة آليّة تتخلّلها نظرة مُسترقة على المرآة الجانبيّة تزيد الملل مللا دون أن يغفل عن أن يمسح بكفّه على صلعته السّاطعة بين الحين و الآخر لترتيب أفكاره. خلفه أشيبٌ مُكوّم على المقعد يستعين على وهن عينيه بنظّارات سميكة كقعر زجاجة، ناحل الجسد، يابس الوجه، بارز الأنف و الجبهة، متهدّل الكتفين، مُبتَذَل اللّباس، يعقدُ ذراعيه، يسعُل بين الفينة و الأخرى دون أن يـَحيد بناظره عن قفّة من دُوم بين قدميه تَسَتَّرَتْ بمنديل ذي مربّعات يخشى مَيَلانَـها، و ظاهرٌ أنّه يجترّ ذكرى مؤلمة من تنهيدة طويلة حارّة يُرسلُها كفاصل اسْـتِـئْـنافيّ، يُبْدي انزعاجا من صوت تجشّؤ آتٍ من خلفه مَتبوع بحَمْدلة لِـعجوز قعدتْ وراءه، و يُتمتِم بالاستغفار كلّما تعالى بكاء متقطّع يزداد حدّة لصبيّ في المؤخّرة تَأبّتْ عليه أمّه ثديها. بجانبه شابّ من سفراء الحُسن ببدلة رمادية تلتمع بانعكاس أشعّة الشّمس عليها مِن تحتها قميص ناعم اللّون، مفتوح الزّرّين العلويين يكشف عن نحره و أعلى صدره. على فخذيه انتصبَتْ حقيبة جلديّة سوداء، انخرط في حديث عذب مع ذاته، غارقٌ خارجَ دائرة الإدراك. يسند على الحقيبة مرفقه لسَنْد رأسه المتدلّي إلى اليمين قليلا، و يده على خدّه على نفسه يَـحْنو. ضَمَّ ساقيه، و انحرف بكامل جسده ناحية النّافذة، و نأى بجانبه عن العجوز. عيناه مالت يُمنَة، و ارتفعت إلى الأعلى قليلا. صّبٌّ من ابتسامة تُــــزْهِــرُ على وجهه فيُـشِعّ، و يتدفّق النّعمان إلى جفنيه فيثقلهما كأنّ غَلَبهما نعاسٌ، و يروي شفتيه فَـتَـنْـتَـبِـجا.
و أنا على ديدني دائمة الوفاء للمقعد الأوّل الذي يلي الباب مباشرة بقرب النّافذة. وضعت نظّارتي الشّمسيّة، سحبت النّافذة قليلا، و رحتُ أستمتع بالرّيح تصفق وجهي، و تلهو بأطراف خماري، أحبّ رفرفَتها، و أمارس طقسا مُقيما حبّه في نفسي منذ الصّبا؛ أخرجُ ذراعي من النّافذة، و أفردها للرّيح تداعبها، تدافعُ كفّي، و أدافعها فتفرج بين أصابعي؛ أستعذبها حين تزداد سرعتها، و استمتع بالمناظر عبر واجهة الحافلة؛ لوحة حيّة الألوان، متجدّدة التّفاصيل بعد أن أغلقتُ كتابا تعرّقَت كفيّ و هي تحمله أثارَ الحزن في نفسي و الحنين إلى صديقة حميمة قديمة انقطع عنّي منها الخبر، و رغم سعيي الحثيث لاستعادة التّواصل بيننا ما توصّلت إلى شيء، حثّني مضمونه على نشر مطلبي في الجريدة.
صعدتْ تلك المرأة، و شاركتني المقعد على يساري بزيّها النّمريّ البربريّ الصّارخ، أشفقتُ عليها و قد طلَتْ وجهها بطبقات من المساحيق لتواري حفرا من أثر عنفوان الشّباب عليه، تختصر كتابا منبوذا. سدّتْ عليَّ شهيّتي للقراءة و شوّشتْ عليَّ أفكاري، و عكّرت صفو هدوئي و هي تُـجري المكالمة تلوى الأخرى كأنّ بها صَمَمٌ مذ وطئتْ قدمها الحافلة. أوّل الأمر قعدت و هي تنهي مكالمة باشرتها في المحطّة، و احتلّ الفائض عن مقعدها نصيبا وافرا من مقعدي، و سرعان ما راحت تشكّل رقما آخر فيما راحت أصابعها تلهو بخرزات ملوّنة تدلّتْ من حقيبتها الزّرقاء الفاقعة. ـ ألو أمّي! فحصني الطّبيب و قال أنّ حالتي جيّدة، و يمكنني الاستغناء عن الدّواء، و ضرب لي موعدا آخر، و ربّما لن يفحصني هو في المرّة المقبلة بل طبيب آخر ينوب عنه لأنّه سيحضر دورة تكوينيّة في ألمانيا لتحصيل ما جدّ في اختصاصه…
هل عاد أخي جمال؟…
هل أحضر لي قارورة الماء من “زلفانة “كما طلبت منه؟…
هل جاءت أختي ” زهرة” كما وعدتْ؟…
هل أتتْ رفقة ابنتيها أم بمفردها؟…
يا للخسارة اشتقتُ إليهما كثيرا…
متى استيقظتْ تلك العقرب زوجة حكيم؟…
لا شأن لك لا بالغَسل و لا بالكنس! الْـزَمي غرفتك، أو اذهبي إلى السّوق، فإن لم تشتر فتنزّهي!…
ربّما بعد ساعة و نصف أو أكثر بقليل سأصل… سلام.
ما إن أغلقت الخطّ راحت تشكل رقما آخر، ـ ألو! كيف حالك طاطا “كريمة” و ناس “المديّة” جميعا؟… كيف حال عمّي؟…
هل باع السّيّارة أم ليس بعد؟…
كيف هما “الحسن” و “الحسين”؟ هل مازالا يتلازمان في الحركات و السّكنات؟…
إلى أين وصلت ترتيبات العرس؟…
بلّغي منّي السّلام لـِ ” دليلة” و قولي لها لا تقلقي، كلّ شيئ سيكون على ما يرام، و في موعده… سلام.
تفقّدتْ رصيدها، ثمّ راحت تشكّل رقما آخر؛ ـ ألو! فاطمة مساء النّور! كيف حالك؟… كلّفتني طاطا “كريمة” بدعوتك إلى حفل زفاف ابنة عمّي” دليلة” يوم…
هل تعلمين أنّ خطيبها فُضلتي؟ رفضته أنا، و قبِـلتْ به هي؛ ذلك المتسلّط الذي قطع صلتها بمن حولها عدا عائلتها، و فرض عليها حظر التّواصل و التّجوّل…
كيف حال عروسكم، هل تكيّفت مع عاداتكم؟…
هل من بشرى لمولود جديد في الطّريق؟…
لا أصدّق أنّها وضعت مولودها، و لم يمض غير ستّة أشهر!…
بل أنا متأكّدة! ستّة أشهر إلاّ يومين…
بعد الخوض في حديث طويل عريض بالسّكّين و المنشار عن امرأة ادّعتْ صداقتها و ودّها و هي أبعد ما تكون إن هي إلاّ عدوّ لدود لها، إسهابا و إطنابا سردتْ تفاصيل متشعّبة عن سرقة هذه الأخيرة لملفّات إداريّة و تَكَـتُّمِها عليها اخلاصا لحبّها لها، و متى ما تزعزعتْ مُستملحة أو مُستعذبة، أو معترضة حديث مُـحَدّثتها حشرتني إلى النّافذة و حصرتني أكثر، فأفكّر في اختطاف هاتفها و ضربه أرضا، و أتخيّل مدى سعادتي برؤية شظاياه تتطاير، ما أشبهني بقدر الضغط حين لا أجدا إلى ذلك سبيلا، بداخلي بركان و ظاهري تامُّ الرّضا، إلاّ زحزحة مِنّي و نحنحة دونما طائل لا تكاد تشعر بهما. أستجير بالنّافذة، أمدُّ عبرها ذراعي ، أُدْني من فتحتها وجهي المحموم غيظا، فتكتمُ رفرفتها ثرثرتَها الجوفاء قليلا. لا أنا إلى كتابي عدتُ و لا بالمناظر استمتعتُ. صوتها مَطارقٌ تقرع مَسمعي و تنخرُ هدوئي، و تستفزُّ صبري، فأسمع لأذنيّ صفيراَ، و أرغب في كتم أنفاس هذا الشّيء الذي لا يتوقّف عن الضّجيج.
توقّف صوت الرّضيع في المؤخّرة؛ لا بدّ أنّ البكاء أرهقه، و ما عدتُ أسمع من الأشيب سعالا، و لا من خلفه تجشّؤا…
تسلّل إلى رأسي صداع و لم أنتبه له إلاّ حين وجدتني أمسكُ بجبيني بكلتا يداي، و أضغط على صَدْغيّ. فَـــركْتُ جبيني علّه يخفُّ. مَددتُ عنقي صوبَ ذلك الشّاب الحاضر الغائب؛ ما انفكّ خارج دائرة الإدراك. و غبطتُ ذلك العجوز بجانبه للسّلام المطلق بينهما. ألقيت ببصري تلقاء من يعبرون المسافات معي…
ـ هذه وجوه ربّما لن أراها مجدّدا أبد الدّهر…
ـ ما أسعدهم!…
الكلّ على مقعده ينعم بالهدوء و الرّاحة، و منهم من يغطّ في النّوم فاغرا فاه.
عيناي مغمضتان، صُداعي يزداد حِدّة، حرارتي في ارتفاع، و ليس بي أدنى رغبة لأيّ شيء إلاّ الإفلات من هذا الوضع، و كلّ المقاعد مشغولة بالمحظوظين. سمعتها تحلف: و رأس أبي العزيز عبد الرحمن بن عيسى الذي يفترش خدّه التّراب، و الذي من بعده ما رأيت عزّا، و لو لم تكوني من نفسي بالعزّة بمكان لما وثقت بك، فأنتِ الشّخص الوحيد الذي أطلعتهُ على هذا السّر!… ردّدتُ في نفسي بسَخط: ألا تبّاً لتكنولوجيا تُعرّينا و تفشي أسرارنا!… بئسا لأناس التكنولوجيا أكبر من مقاسات أقدامهم، يَـمْضون بها فيتعثّرون بقُبحهم، فيتعفّرون، و يتبعثرون… فتّشتْ هاتفها زمنا، طقطقتْ أزراره، و راحت تشكّل رقما آخر. تساءلتُ بألم في غير فضول: على مَن الدّور الآن يا ترى؟ ـ ألو! مُسيُو “عثمان”! الآنسة منصوري معك… حاولتُ الاتّصال بـ “سميرة” دونما إجابة… أخبِـرها أنّني سأتغيّب غدا أيضا؛ لم يأتِ الطّبيب اليوم، و قل لها أن تمضيَ جدول الحضور مكاني، و تكتم غيابي، و إذا أتى ذلك الذي تطاول عليَّ في الحديث يريد وثائقه التي من المفترض أن يمضيها رئيس المصلحة، فلــــتُريِّـــثْـــــهُ إلى موعد آخَـر آخِـرَ الأسبوع القادم.
و تجلّت أمام عيني كتابا مفتوحا، و زكمَ نفسي نَتَن ما أدركتُ من خَلف حديثها، و لا شكّ ما خفي أعظم!… عرفت تاريخ ميلادها إذْ اتّصلت بها شبكة الهاتف لتوثيق شريحتها، لونها المفضّل حين اتّصلت بالخيَّاطة، خارطة عائلتها، مرضها، و علمتُ مَيلها إلى قصار القامة الصُّــلْع و هي تصف لـمُحَدّثتها شخصيةً من مسلسل تركي و تتّجه بوجهها جهة السّائق و تخضعُ بالقول. ما شدّني و أثار اهتمامي ممّا بلغ مسمعي منها اسم “مَنْصوري”، و سعدتُ جداً إذ ظننتني رُدَّتْ عليَّ ضالّتي. اسم راسخ في أغوار ذاكرتي، متربّع على عرش أحلى الذّكريات . تأمّلت ملامحها؛ فما وجدتها غريبة عنّي، استقرأتُ سحنتها. فكّرتُ طويلا، وعميقاً. توقّفتِ الحافلة عند آخر محطّاتها، و ما زلت مستغرقة في ربط و تركيب أطراف حديثها… ـ لا يمكن للصّدفة أن تكون بهذه القوّة، و هذا التوافق! إن هذا إلاّ قَدرا و بركة لهذا اليوم، و عزاء لي فيما لقيتُ فيه مِن وصبٍ و نَصب… ثمّ وجدتني أهرع خلفها حتّى أنّي اصطدمتُ بذلك الحاضر الغائب صاحب البدلة الرمادية و قد عاد: آنسة منصوري! يا آنسة منصوري!
ثم قلتُ و أنا أمسك بصدغيّ بيدي، و إحدى عيناي مغمضة، و الأخرى نصف مفتوحة تكاد الشَّقيقة تهلكني: منذ سنتين و أنا أسعى لاستعادة الاتصال بصديقة لي من أيّام الجامعة من جديد دون جدوى انقطعت عنّي أخبارها فجاة، ” دليلة منصوري” من ولاية “المديّة” درسنا معا في “جامعة الجزائر”، عمرها في مثل عمرنا، لها أخوين توأم “الحسن” و “الحسين”، جدّها “عيسى”و أمّها “كريمة”، و لها عمّ وحيد ” عبد الرّحمن” تعرّض لحادث مرور رفقة ابنته هلَك إثره و نجت هي بجسد مكسور العظام! أكيد أنت ابنة عمّها ” عبد الرّحمن” رحمه الله.
زمّتْ شفتيها، قطّبَتْ حاجبيها، حدَجَتْـني ببصرها، بحلقتْ بوجهي، تفحّصتْ هندامي، ثمّ رفعتْ أحد حاجبيها، حكّتْ أنفها، و نظرتْ بعيدا عنّي قائلة: عائلة “مَنْصوري” كبيرة جدّاً!
اصطنعتْ ابتسامة ماكرة، أدارت لي ظهرها، و مع انصرافها اقترب منّي الشّاب الذي اصطدمت به و يبدو عليه أنّه كان متابعا لحديثي معها و قال: ما حاجتك إلى عائلة منصوري في المديّة؟
أخبرته بما أريد فأخرج بطاقة زيارة و قال: هذه بطاقة أرقام هواتف و عنوان لصديقي الحميم خطيب “دليلة”ابنة عمّ جارتي هذه التي كنت تحدّثينها، اتصلي به و سَـيَصلك بصديقتك فهو من أروع الذين عرفتهم!. .

السابق
سارق
التالي
مع الفصول الأربعة

اترك تعليقاً