القصة القصيرة

الغولة

فطومة بنت لا تشبه البنات في شيء .هيئتها أقرب إلى الكائنات الخرافية من هيئة البشر .
شعر غير مسرح أشعث خشن تنفخ فيه الريح فتزيد من ارتفاعه إلى أعلى و انتشاره في كل الاتجاهات .يختلط مع الصوف و الأتربة و كل أشكال الحشرات .
أسنانها كبيرة و غير منتظمة كما تراكمت عليها بقايا الطعام فاصفر لونها. ثيابها بالية متسخة ترفض تغييرها . ترتدي فوقها دائما معطفا بلاستيكيا سواء أن كان الطقس حارا أو باردا.
تخرج لأطفال الحي فيضحكون من هيئتها، ويرددون ” غولة! غولة ! قدمت الغولة”، عمدت أمها في كثير من المناسبات إلى إجبارها على تسريح شعرها و تغيير ملابسها. تمسكها بقوة و تضربها فتقع فطومة أرضا تحرك يديها و رجليها بسرعة كخروف يقاوم الذبح .تنقلب عيناها و يغمى عليها فتتركها الأم حزينة ملتاعة .صارت الأم على قناعة تامة بأن فطومة درويشة و ما إغماؤها المتكرر إلا علامة على اتصالها بأهل بسم الله و العالم الآخر..
تأتي الجدة في زيارة لمنزل ابنها فترمق فطومة شزرا قائلة:
– متى تسرح هذه الغولة شعرها و تحسن من هندامها ؟
– لا تقولي عنها غولة ! إنها محظية برعاية الله!
– ابنتك بلهاء ! محظية بالعفن و الوسخ ليس إلا ..يالحظ ابني السيء ! لا يكفي أنها بنت بل و مجنونة أيضا ..

لا تملك الأم سوى أن تطلق العنان لدموعها أمام تقريع حماتها .. انقضى اليوم الأغبر كما تسميه كنائن الجدة دلالة على زيارتها لبيوت أبنائها.. عاد الأب من عمله منهكا و مإن جلس على الأريكة حتى سأل زوجته:
– أين الغالية ؟
– تقصد الغولة ، أكيد تلعب بالتراب في الحديقة ..لقد نعتتها أمك بالغولة و الوسخة و سمعت منها اليوم ما يندى له الجبين.
ابتسم الزوج و قال هادئا :
– ابنتي ليست غولة أما عن كلام أمي فهي امرأة مسنة و لا تفكر مثلنا و مهما حدث تظل جدتها..
ارتاحت الأم لكلامه ووضعت العشاء على المائدة أمامه.
تقف فطومة في الباب و قد غطى التراب كل ثيابها .تحك شعرها. تهدأ عند وجود أبيها و تكف عن البصق و مضغ كل ما يعترضها من أجسام..
كلمها والدها متوددا :
– فطومة الغالية ستتناول العشاء مع أبيها !
جلست إلى المائدة و أكلت دون أن تحدث أي مشكلة.. توالت الأيام و السنون . كبرت فطومة و تضخم جسدها .برزت ملامح الأنوثة لديها لكنها لا تزال على حالها من الإهمال و القذارة . تلهو بين أطفال الحي فيرشقونها بالحجارة هاتفين غولة غولة !
أحد الأولاد جرح يد فطومة بقطعة زجاج .سال الدم .فزعت الفتاة و جعلت ترفس الأرض برجليها حتى أغمي عليها.

جاءت زوجة عمها للإطمئنان على حالتها .
قالت بنبرة حاسمة :
– يجب أن نحل هذه المشكلة .آن الأوان لتزويج فطومة ..
– و من سيرضى بزوجة قذرة و مجنونة يغمى عليها بين الفينة و الأخرى ؟
– الشيخ المبروك قادم إلى الحي ، سنستشيره في حالة فطومة ..إذا تمكن من فك ارتباطها بأهل بسم الله و عاد إليها عقلها ستتزوج خاصة و أن جسدها سليم و لا تحمل إعاقة عضوية.
– وفقنا الله في هذا الأمر .ربما يكون الشيخ مبروكا فعلا..
كان الشيخ حليق الشارب طويل اللحية .تحيط به الأعشاب التي لا يعرف اسمها و مجالات استعمالها .
يستقبل المريدين و الساعين للشفاء و الباحثين عن حياة أفضل .الجميع متفائلون و يتشبثون بأذناب الشيخ المبارك كأنه إله تكرم و نزل عن عرشه السماوي ليمد يد العون لعباده.
هز الشيخ رأسه قائلا :
– معافاة بإذن الله ! ستبلغون المقصود .
غمس عودا صغيرا في إناء به محلول أصفر فاقع و راح يرسم فوق ورقة سميكة رموزا غريبة و يكتب كلمات مبهمة. قال بعد أن طوى الورقة عدة مرات :
– تشرب ماءها على الريق لمدة ثلاثة أيام.
دست الأم في يده ورقة مالية من فئة خمسين دينار . تناولها دون أن ينظر إليها.
عادت المرأتان و على وجهيهما علامات الحبور. تمشي زوجة العم واثقة من نفسها كالمكلف بمهمة ديبلوماسية. وتبتسم الأم راضية عن الوضع آملة بزواج ابنتها .. دخلت الأم منزلها .فطومة تعجن التراب و الحشائش في الحديقة و توسخ ثيابها كما جرت العادة لديها. وضعت الأم الماء في إناء و نقعت ورقة الشيخ المبروك .تركتها و التهت بترتيب قاعة الجلوس. القطة تموء في البيت و قد استبد بها الجوع. لم تطعمها أم فطومة التي قضت وقتا طويلا خارج منزلها. شاهدت القطة الإناء .اقتربت منه و جعلت تلعق ذلك المنقوع الأصفر. و ماهي إلا دقائق حتى استلقت القطة على الأرض. فطومة تبلل التراب و تحاول أن تحفر أرض الحديقة .أرادت الاستعانة بملعقة. توجهت نحو المطبخ .وجدت القطة نائمة على الأرض .حملتها . حركتها كثيرا و لكنها كانت جثة باردة ..صرخت فطومة بأعلى صوتها فزعا وظلت تركل الأرض متخبطة حتى أغمي عليها ..

السابق
حكمة
التالي
قراءة في نص “خُزَعبِلات”

اترك تعليقاً