القصة القصيرة

تجاعيد وجه الماء

أفزعتني أفواههم المعدنية لهذا الحد من الرعب والخوف ؟ ألهمتني كل هذه السرعة في التفكير واتخاذ القرار ؟ أقفز غير مبال ٍ بما سيتكسر من عظامي كلاعب ساحة وميدان بارع ؟ طاقه كبيره كامنة في جسمي النحيل , أو روحي لا ادري في أي مكان .. لكنها كبيرة جدا تفجرت وفعلت فعلها العجيب بلحظه واحدة .. ليتها تستمر ..
_ كنت على الجسر لحظة انتشارهم ! كيف صرت أختبئ تحته بنفس اللحظة ؟
طالما حاولت المدينة أن تخبئني في جيبها العتيق هذا .. مازالت رئتي مملوءة بأنواع الأصداف وذرات الرمل الصغيرة .. ربما هنالك كائنات صغيره تسكن معدتي , تتغذي على ما يدخل فيها من طعام .. جعلتني نحيفا ً طوال حياتي ..
لم تفلح في أن تخبئني هذه المرة أيضا ً.. مع كل ما مخبوء في جيبها .. جيب يحتوي على الثمين والتافه , بنفس الدرجة من الحرص .. صرة عجائز ..
_ يمكنني التكهن ..
كنت المرافق الأول لجدتي .. هوايتي المفضلة , النبش والعبث في تلك الصرائر , بقدر ما تتيحه غفلتها .. أبدأ طقسي الطفولي العابث .. أشد العصابة السوداء .. أكتحل على طريقتهن (بالمرود) .. ماضغا ً أثناء ذلك (العلك المر) ..
_ ما كنت أتصور أن جميع الغرقى مخبئين فيه .. ظننتهم ذهبوا لمكان آخر ..
وجوههم وأجسادهم صفراء شاحبة .. ضحكاتهم حزينة خافتة .. ورود بلاستيكيه , لا لون ولا رائحة لها .. يسبحون .. يلعبون .. مع سعالي قادمة من ذاكرة خوف مزعوم , يستمد حياته من أساطير ساذجة .. زرعه الكبار في نفوس الصغار بكل بلاهة ..
_ تعال ..
أحاول الهرب بكل ما يمنحني الخوف والهلع من قوة .. لا استطيع !! أركض بقدمي حالم .. لا يستطيعون الوصول إلي , برغم قربهم مني .. يفصل بيننا حاجز لا أراه .. لا نستطيع تجاوزه ..
أقلدهن باستعمال (النشوق) , وأفر بعد انتباههن إلي .. تاركا ً أغراضهن العزيزة عليهن تملأ المكان .. أشرفت إحداهن على الجنون ..
_ لا تصطحبي معك هذا الجني بعد الآن ..
خبئت من أغراضها خرقه بيضاء , كأنها قد مسح بها جرح صغير قديم .. أعدتها إليها بعد توسلات جدتي .. عقدت صفقة معها , بادلتها بحفنه من الكشمش .. عرفت في ما بعد أن هذه الخرقة تعني لها الشيء الكثير ..
يتوقفون عن اللعب للتفرج .. يأتي رجال شعث بهيئة ثوار مهزومين .. يستخرجون أسلحتهم الصدئة .. يفككونها , ينظفونها , يعيدون تركيبها .. يقصون على الغرقى أثناء ذلك , بطولات لا أجزم أنها غير مزعومة .. قادم إليهم من مستقبل زالت فيه أقنعة شعارات ثاروا من أجلها .. من أنتصر منهم مارس مع من ثار عليه , ما مارسه معه السابقون ..
يتشاجرون , مع سياسيين ومثقفين سابقين .. يأتون متأبطين كتبا ً وجرائد باليه .. يتجادلون بما قراؤه .. جدال عقيم فارغ .. يستعرض فيه كل واحد منهم عضلاته الثقافية ومصطلحاته الغير مفهومه …
_ ليتني أسمعهم أخبارنا ..
من اضطروني لدخول هذا الجيب يعتقدون أن أصوات الأفواه المعدنية _ التي لا تميز بين الغراب والحمامة _ عالية .. لا يستطيعون التعبير إلا من خلالها .. سيعلمون بعد فوات ألأوان ..
_ أصوات الفروج أعلى منها ..
على الحدود عندما كنا نجمع الحطب للطهو .. حيث تتأخر الإمدادات والجوع والبرد لا ينتظران كثيرا .. وجدت في أحدى ديار البدو المهجورة , زناديه صغيره مصنوعة من الجلد فيها حجر بحجم وشكل أطلاقة بندقية .. عظم عصفور صغير مقوس غير متساوي النهايتين ..
يسهب النائب ضابط في تعداد استعمالات الحجر , والعظم .. مفعولهما السحري العجيب .. أضحك بداخلي .. قاسمان مشتركان في صرائر عجائز , تعيش حياة بؤس وحرمان .. ما كنت أرى ذلك التأثير السحري على حياتهن .. رغم إيمانهن المطلق بتلك القوى ..
يتحلق حول الغرقى خدج قادمين من رحم الخطيئة . أتوا إلى هنا , في السنين العجاف الطويلة , التي تلت سنين الموت الطاحنة الثمانية .. ملابس حزن سوداء .. تحكي حزن وحرمان أرامل وئدت أحلامها على سواتر حرب ضروس .. يتحلقون مستمتعين بالتحاف تلك الملابس السوداء .. فيها بقايا رائحة أمومة , حرموا من تذوق طعمها ..
_ مواكب شموع لم يكتمل ذوبانها .. تمر بين برهة وأخرى تطلب المراد ..
مبتلة بدموع متضرعة .. عند كل غروب لا ينتظر شروقا , أقل منه عتمة .. يبدو إن هذا ليس جيبا ً .. بل إحدى صرائر مدينتي العجوز .. لها صرائر أخرى .. بيوت , أسواق , مدافن ..
_ هي إحدى صرائر البلاد ؟
_ البلاد إحدى صرائر العالم ؟
_ متى يفل هذا العالم الهرم صرائره ؟ ويخلصنا من هذا العناء ……..
أنظر إليهم نظرة قادم من المستقبل لزمن مضى .. أرى مستقبل أشياء توقفوا في ماضيها .. أرى ما كانوا يعتقدونه غيبا .ً.
ينظرون إلي نظرة مشفق .. عرفوا حقيقة الأشياء قبلي ولم يعد يعنيهم ما أعرفه .. يحاولون إيصال ما يعرفون .. أحاول إيصال ما أعرفه إليهم ..
أرى تجاعيد وجه الماء .. ثابت وحيد .. لا يطرأ عليها تغيير .. سوى أشياء جديدة تخبئ فيها .. تحكي بصدق وعفوية الأطفال , ذاكرة المدينة وتاريخها الحقيقي .. كل طبقة من الطمي تحتفظ بأشياء تؤرخ الفترة التي ترسبت فيها .. قد تـُزيف المدونات والوثائق إن تحكمت بها السياسة وعوامل أخرى .. وقد تسقط أشياء من ذاكرة الناس المثقوبة ..
_ من يستطيع تغير ذاكرة النهر؟
لا يمكن تزييف حقائقه وأدلته الدامغة لكل ما يحكي من تاريخ .. انه منطقة اللاوعي في ذهن المدينة .. الصرة الأهم لديها .. لا تفصح عن سبب تخبئتها لأشياء بعينها دون أخرى .. حتى الأشياء التافه التي تخبئها العجائز , لا أظن إنها خبأتها عبثا .. كما تحتفظ ذاكرتي بالكثير من الأمور المشابه لأمر أجهله .. جيب لا يمتلئ .. طبقات من الطمي تترسب كل يوم ..
_ ماذا ستقول تجاعيد وجه الماء للمعمدين القادمين ؟ ماذا يجدون في صرائرنا ؟
يمكنني التكهن ؟ يجدون غرقى يبحثون بلا جدوى عن رؤؤسهم التي بيعت في مكان آخر .. أغمضت اغماضتها الأخيرة قبل أن ترى لمعان السكين .. غارقات مدهوشات . يختبئن خجلا ً خلف جدائل المدينة المقطوعة .. يبحثن عن خرقة بيضاء كأنها قد مسح بها جرح صغير ..
_ لا أدري ؟
_ أكاد الجزم أنهم لن يجدوا خدج قادمين من رحم الخطيئة ….

السابق
لهفة
التالي
ضحية

اترك تعليقاً