القصة القصيرة

تقاطع

نظرت مليا إلى المرآة، ثمة شعيرات بيضاء بدأت تغزو ناصيتي كأنها ندف من الثلج الناعم، تلحظ شرودي فتقطع علي حبل أفكاري بلمسة حانية من كفيها. تضمني من الخلف فأشعر بالدفء يسري في أوصالي.
– لازلت شابا حبيبي.
تبتسم لي فتشرق أركان روحي، تطبع على خدي قبلة.
– السائق في انتظارك.
يترجل العم رضى فاتحا الباب، يلقي التحية، ثم لا تلبث تنطلق السيارة عبر الطريق المعتادة. من نافذتي أطلع إلى الشارع حيث الوجوه الواجمة التي أصادفها هنا كل صباح، وجوه تكاد تخلو من أي تعابير إنسانية، الناس في هذا الحي الراقي لا يبتسمون إلا نادرا، لا يثرثرون، لا يتكلمون حتى، كأن بهم الخرس، أو لكأنهم يخفون أسرارا من الخطورة بمكان، بحيث يخشون أن تفضحها ألسنتهم إن هم أطلقوا لها العنان.
نقترب من وسط المدينة، يزداد الطريق ازدحاما، و ترتفع أصوات منبهات السيارات. تتوتر الأعصاب و تخرج الأيادي ملوحة و متوعدة، فتنطق الأفواه بما تيسر من السباب و الكلام النابي.
أغلق زجاج النافذة فتعود لنفسي سكينتها، و أنكمش على ذاتي لعلي أسترجع دفئا بددته برودة الصباح. أنظر إلى ساعتي، مازال هناك المزيد من الوقت قبل موعد اجتماع مجلس الإدارة.
في غمرة الاختناق المروري يبدأ أطفال في عمر الزهور فتيانا و فتيات بمسح زجاج السيارات، بنظرة طفولية بريئة مشفوعة بابتسامة جميلة يتقدم نحونا أحدهم، هو ذات الطفل الذي يفعلها كل يوم، يرش السائل المنظف و يمسحه بخفة و حركات سريعة لا تكاد تلحظها العين. حتى إذا انتهى من عمله يتمتم لي بكلمات غير مفهومة، فإذا فتحت النافذة لأنقده أجره اختفى كأن الأرض ابتلعته. هذه المرة لم أتركه يذهب هكذا كالمعتاد، خرجت أركض خلفه و قد بدا لي و كأنه دخل الزقاق المقابل، تتبعته دون جدوى فعدت أدراجي.
في ذات الملتقى الطرقي جلست القرفصاء صحبة رفاقي، نتحين الفرصة للظفر ببعض النقود لقاء تنظيف زجاج السيارات، نقتسمها فيما بيننا مساء. الرجل ذو السيارة الفارهة يشبه أبي كثيرا، أنتظر مروره كل يوم، أمسح سيارته دون مقابل، يكفيني أن أراه هنا. قد لا يهتم لأمري كما أهتم، فلربما له من الأطفال الوسيمين ما يشغله عن الاكتراث لطفل متشرد يمسح زجاج سيارته.
حين حاول اللحاق بي يوما، انتابني خوف شديد فاختبأت حلف عمود كهربائي، كنت أراقبه و هو يلج الزقاق الضيق قبل أن يعود أدراجه تاركا محفظة نقوده و قد سقطت منه على الأرض، حاولت اللحاق به لكن السيارة كانت أسرع مني.
بعد أن أغلقت الهاتف عدت للنظر مرة أخرى عبر النافذة، كان الصبي يلاحق السيارة، صارخا بأعلى صوته و ملوحا لي بيده، رجوت العم رضى أن يتوقف، لكنه اكتفى بتخفيض السرعة.
فتحت باب السيارة و نظرت إلى عيني الصبي، و شعره المغبر، و نعليه البلاستيكيين الذين أعرفهما جيدا، مددت له يدي، يداه كانتا باردتين عليهما آثار جروح لم تندمل بعد، خداه متورمان من آثار صفعات “الغوريلا” زعيم ماسحي الزجاج، هكذا كنا نسميه نظرا لقسوته المفرطة. مددت له يدي و مد لي يده، و سحبته بهدوء، بهدوء معيدا إياه إلى أعماق الذاكرة.

السابق
احمرار
التالي
شارلو

اترك تعليقاً