القصة القصيرة

جدي

بقلوب منكسرة ، كنا نتلقى التعازي الحارة بعد أن شيعوا جثمانها ، مشهد جنائزي رهيب أججه ترتيل جماعي لسورة يس.
انسل جدي مخترقا الحشد الذاهل ، صعد السلالم بخفة الشباب ، و من سطح المنزل أطل ، ارتفعت الأصوات المبحوحة تولول متضرعة أن يحجم عن فكرة الانتحار.
لم يتزحزح من مكانه ، رفع الراية عاليا ، لوح بها يمينا و شمالا ، و هتف :
” أيها الناس .. يا عباد الله .. ” .
انتبهوا كلهم ملتاعين ، تابع نداءه :
” لست معتوها حتى أقتل نفسي ، اطمئنوا ، أزيحوا من أدمغتكم الفاسدة ظنونكم السيئة ، اليوم ولدت من جديد ، ما أسعدني ! لقد نلت استقلالي ، بعد خمسين عاما من القهر تحت نير العجوز الفانية تحررت ، أ ليس من حقي أن أحتفل و أبتهج ؟ ” .
بعد انصرام أيام على موت جدتي ، وجدته منزويا في ركن معتم ، على غير عادته ، شاحب الوجه متغضن الجبين ، هالني أمره فدنوت منه ، لثمت رأسه ، لم يعرني أدنى اهتمام ، و بصوت سقيم بادرني قائلا :
– إن ما عكر مزاجي و أفقدني صوابي هو هذه المغرورة التي لم أظفر منها بغير الصد و الحرمان ، و لم تزدد فتنة و بهجة إلا بعد أن هرمت و قصم الدهر ظهري .
تحطمت صورته في ذهني إلى شظايا متناثرة و اجتاحتني وساوس سوداء :
” غير معقول ، هل اتخذ جدي خليلة و هو المشهود له بالورع و الصلاح ؟
كيف نقض عهدا قطعه على نفسه أن لا يتزوج امرأة أخرى بعد وفاة المرحومة جدتي إكراما لها ؟ ” .
قلت متصنعا السذاجة :
– وقاك الله السوء و الأذى ، من تعني يا جدي ؟
أجابني بعصبية شديدة : سحقا لها .. الظالمة اللعينة !
استفسرت حائرا :
-أخبرني يا جدي الحنون من تكون ؟
رنا ببصره بعيدا دون أن ينظر إلي ، و انخرط في نشيج متقطع ، و بصوت ينضح حسرة و أسى باغتني :
” أف .. أف .. لحياتكم الدنيا الفانية . عش ما عشت فلن تحصد إلا الهباء ، تبا لها من غادرة لعوب ، أنا منها بريء ، بريء أنا منها ” .
كان طعم ذلك المساء مرا لاذعا . لأول مرة أحسست بالأسى و الضياع . انسحبت بعد أن واسيته و دعوت له .
في الغد ، التقينا في غرفة الجلوس ، كنا حاضرين جميعا ماعدا جدي ، تصافحت أعيننا و نحن نتفقد تفاصيل المكان . خيم الوجوم على الوجوه ، تملكتنا الحيرة ، لم يجرؤ أي منا أن يستفسر . لم يطل انتظارنا إذ نعى إلينا جارنا وفاته مرتجفا:
” نفض الرجل يديه منها إلى غير رجعة “

السابق
صدمة
التالي
على وجل

اترك تعليقاً