القصة القصيرة

جمر وأمر

عاد الى البيت مرهقا , فعمله في المنجرة يحتاج الى جهد واتقان ووقت طويل وصبر ،علاقته مع الزبائن طيبة ،عنوانه الثقة والأمانة.
عشرون سنة مرّت وفي كلّ صباح يتأبّط زوادته ويحمل صندوق العدّة، يمرّ مصطحبا عامله المساعد ، وبلهفة يفتح المذياع ليترنّم على صوت فيروز وينتقل لأخبار الصباح ،يؤدي عمله اليومي ، يكرّس وقته من أجل عائلته المكوّنة من أربعة أنفار وزوجته الشّهيرة في الحارة بلسانها السّليط ، لا تفوتها غائبة ولا يتملّص من بين يديها خبر.
تبدأ “فوز” يومها بصف فناجين القهوة والحساب ، فهي بصّارة القرية وطالعة البخت، ابنتها “فاتن”التي برز صدرها وتكوّر ،وطال شعرها وبانت مفاتنها ،تكره لعبة أمّها وتتمنى لو تخدم في البيوت ولا تسمع صراخها كلّ صباح ، فقد حرمتها من اكمال تعليمها العالي كي تساعدها بأعمال البيت وتقوم بخدمة الوافدات من قليلات الحظ من نساء القرية،تنهض فتحضّر القهوة وتغسل الصحون والفناجين والأباريق وتهيّىء الجو المريح لهنّ.
ذاع خبر أمّها “فوز” بفكّ السّحر والتبصير ،حتى أطلق عليها لقب أميرة البخت ” فوز البصّارة”،زوجها سعيد لم يذق طعم السّعادة يوما،يتناول العشاء يستحم يناول فوز ما تيسّر من مصروف يوميّ للبيت والأولاد ويدخل غرفته لينام، كلمتها الأولى والأخيرة ، هدّدته مرارا بترك البيت والطلاق منه ان تدخّل في شغلها وتربية أولادها فهي الاّمرة الناهية التي تحسن معاشرة الناس بلسانها الأفعوانيّ ،وبجسدها الممتلىء وقامتها الضخمة ،تأثيرها يبدو واضحا حتى أصبحت نساء القرية تطعنها وتؤمن بها وبأفكارها الجهنميّة .
فاتن التي حلمت بمستقبل باهر ، لم يبصر فتنتها أيّ شاب من شباب القرية ،فقد أصبحت في سن الزواج ولم يتقدّم لخطبتها أحد، من النادر أن تسير في الشارع المؤدي الى البقّال أو القهوجي أو الخبّاز في الحارة ، وان خرجت تعود مهرولة خوفا من عقاب أمّها وتوبيخها .
أغلقت ” فاتن” باب الغرفة واقتربت من أبيها علّها تجد ضالتها لديه…
_ لو سمحت يا أبي أريد أن أتحدّث معك
_نعم يا فاتن ،،تكلمي أنا مرهق جدا
_وأنا أكثر ارهاقا، أريد أن أكمل دراستي وأعرف مستقبلي ،مللت البيت
_ أنا لا أحلّ ولا أربط ، أطلبي من أمّك أولا بالسماح لك
_ يا أبي لا يمكن أن نستمر على هذه الحال ، تكلمت معها عن الموضوع ورفضت ، أصبحت سيرتها على كلّ لسان
تأفّف الأب والنّعاس يداعب جفنيه..
_ هل أطلّقها بعد هذا العمر ، أين أذهب بأخوتك الصغار ما الحل؟
_لا أدري يجب أن تجد حلّا مناسبا
تململ رجل البيت الذي ما بيده حيلة كي يتخلّص من ضغط ابنته عليه وخوفا من لسان الساحرة المتربّصة له في الغرفة المجاورة
_حسنا دعيني أنام سأنهض مع بزوغ، غدا نتحدّث
تكرّر الموقف عدة مرات وفاتن تعيش وتجهض الحلم يوما بعد يوم ويتسلّل اليأس الى نفسها ، تنظر في المراّة وتنزل دمعة ساخنة تبلّل خدها المصفرّ.
ذات صباح رنّ جرس الهاتف ، ردّت أمّها من الغرفة المجاورة حين كانت فاتن تعدّ القهوة والأباريق وتغسل الأطباق كعادتها ، انخفض صوتها فجأة حتى أصبح همسا ، حبّ الاستطلاع دفعها للتنصّت من وراء الباب ، أمّها بصوتها العالي الغاضب تتأوّه وتتدلّع وتلاطف وتهمس …
_ يا الله ، مع من تتكلّم سبحان مغيّر الأحوال، يبدو أن في الأمر سرّا
طال الحديث ولفّ البيت بفاتن لم تصدّق ما سمعته ، لم تعد تقوى على الوقوف ، اتكأت على المنضدة وصوت أمّها كالفحيح ، تمالكت أعصابها كي لا تسقط ويغمى عليها
_ من يا ترى هذا الرّجل الذي تحدثت معه ، ألا يكفيها قراءة الفنجان وتعاطي الدّجل والسّحر واستغلال البشر ، تريد بيعي ؟ أمّي تقوم بصفقة مع رجل غنيّ لتبيعني ، لا أعرفه ولم ألتق به من قبل ، وصلت بها الأنانيّة الى هذا الحدّ ، تريد التخلّص مني مقابل فيلا وسيارة ونقود ، هكذا كرامة الانسان رخيصة وقلب الأمّ من حجر ، من أيّ طينة مجبولة هذه المخلوقة السّوقية ، لا يهمها الاّ المال ،، رباه ترفّق بي ..
فجأة علا صوت أمّها وهي ترحّب بضيوفها وتنادي على فاتن لتقديم القهوة ، دخلت وبانت الخيبة على وجهها ، ارتجفت يداها وضعت الصينية وهمّت بالخروج ، التفتت اليها امرأة تنتظر دورها ، رمقتها بنظرات غريبة ، تلبس جلبابا طويلا يكنس الأرض ، وتغطي شعرها بمنديل حريري ، اقتربت منها وبصوت مائع اختلط بفقاقيع العلكة وهي تتشدّق
_ ما شاء الله أنت فاتن ، اسم على مسمّى ،كل النّساء يتحدثن عن جمالك
صمتت فاتن وهزّت برأسها شاكرة، لم تلبث تدخل المطبخ واذ بالمرأة تلحق بها
_ يا صبيّة هذا الجمال يستحقه رجل يعرف قيمته ويعيشك في النّعيم
_ يا خالة ، أنا لا أريد الزواج بل سأكمل دراستي
قهقهت ذات الجلباب
_ وماذا ستستفيدين ؟ سمعت أنّ صاحب الفيلا الكبيرة في القرية السيّد سليم بيك يريدك زوجة له
نظرت الى عينيها غير مصدّقة
_ من قال هذا ؟
_ جاراتي ، لا شيء يبقى سرّا و” السّت فوز” وعدتنا بالحلوانه ، صحيح السيّد سليم أكبر منك سنّا لكن كلّ أم تتمناه لابنتها
_أنا لا يهمني لا المال ولا القصور بل مستقبلي الأهم
_ هل من المعقول ترفضين العزّ والجاه والنغنغة ؟
_أرجوك اتركيني بحالي لا أعرف هذا الشخص ولا أريده دعيني أكمل أعمال البيت …
دخلت الى غرفتها وقلبها يكاد يتوقّف ، ستائر الغرفة تحوّلت الى سوداء ، كلّ ما حولها حزن قاتم .. وجمر ملتهب يلسع أطراف قدميها
_ يا ويلي ماذا سأفعل ؟
احتفظت فاتن بالسّر وأقسمت أن لا تبوح لوالدها بما حصل ،،ستتخذ قرارها بنفسها أتتها فكرة ويجب تنفيذها قبل أن تأتي أمّها بالرجل ..
لم تنم ليلتها ، عيناها تحملقان بسقف الغرفة تقترب من أخوتها الصغارتقبّلهم قبل النوم ، تطفىء النور ويخيّم السّكون .
ما أن بزغ أول خيط من خيوط الفجر تسلّلت فاتن على رؤوس أصابعها حاملة حقيبة ملابسها ،حابسة أنفاسها ،، تفتح الباب وتخرج بهدوء .
تلقّفها الشّارع الصّامت الاّ من قطة مرتجفة تبحث عن بقايا فضلات بين القاذورات المرميّة على الرصيف ،أسرعت قبل أن تراها أمّها ،وصلت دير راهبات القرية قرعت الباب وانفجرت بأعلى صوتها باكية
_ انقذوني أرجوكم هل عندكم لي مأوى؟
استقبلتها الأخت ” دنيئيلا” وهي تحتضنها وتتناول من يدها الحقيبة
_ما بك ، تعالي لا تخافي من يدخل الدير هو بأمان، اجلسي وحدّثيني
هي المرة الأولى التي تشعر بأمان دون صراخ ولا شتيمة ولا تمتد اليها يد أمّها لتجرّها من شعرها إن أخفقت أو تردّدت بتنفيذ مهامها.
بعد بوح وتفريغ شحنات مخزونة بداخلها ، قرّرت راهبات الدّير التّوجّه لبيت الأم لإصلاح الموقف والتدخّل قبل تأزّم الوضع.
الأخت ” دنئيلا” معروفة في القرية بحسن معاملتها وحبّها للناس وبحكمتها وذكائها ، أخذت على عاتقها حلّ المسألة بإقناع الأم بأن تكمل فاتن دراستها وتتخلّى فوز عن عمل الشعوذة وقراءة الفنجان لأن هذا ينافي الدين ولا يرضى عنه الرّب ولا الإنسانيّة.
ذاع خبر هروب فاتن من بيت أهلها وبكاها والدها بصمت وأقسمت أمّها أن تعاقبها أمام أهل القرية ، حاولت الأخت “دنيئيلا”بشتى الطرق إقناع الأم الكفّ عن السّحر والشعوذة ومنح فاتن فرصة لبناء مستقبلها بعيدا عن الجو المريب المشحون بالضغط النّفسي والذي سيؤدي بها الى الهلاك!
لم تهدأ ” فوز” بل قررت أن تعيد ابنتها من الدير بالقوة وأن لا تسكت ، إجتمعت راهبات الدير وأخذن على عاتقهنّ مسؤولية احتضان فاتن ومساعدتها لاستكمال دراستها العليا .
عاشت في الدير ، المكان الهادىء الذي سكنها وعشّش في قلبها وفكرها ،ولم تنس اخوتها ووالدها الذي كان يقابلها سرّا ليطمئن عليها .
مرّ الوقت كلمح البصر ،، حملت فاتن حبّ الرّب في قلبها ، شيء ما من بعيد دعاها إليه ،، صوت ناداها ، نور اخترقها وأضاء في فؤادها شعلة من الرّحمة والمحبة ، فلبّت الأمر ونسيت الجمر، نسيم عليل داعب وجنتيها وهي تقف وراء النافذة المطلة على حديقة الدير تستنشق الهواء النظيف ، تمدّ ذراعيها الى الأعالي وبعينين مرفوعتين نحو السّماء تهمس بصوت خافت كترتيل صلاة:
_ الشّكر لك يا رب على هذه النّعمة .

السابق
دين
التالي
صفقة

اترك تعليقاً