القصة القصيرة

جنازة البنت عزة الحزينة

اليوم ماتت البنت عزة ، واليوم دفناها.. واليوم جنازتها.
لا نعرف هل هي طفلة ؟ فنقول “شافعة “، أم فتاة ؟ فنقول ” الله يرحمها “، لا نعرف عمرها ، ربما تجاوزت العاشرة، لا ندري بقليل أو كثير.
سمراء نحيلة، نراها تستيقظ مبكراً، تفتح باب العشة بجوار باب بيتهم، تخرج منها العنزات الثلاث. تحلب منها لبن الصباح لإخوتها الثلاثة الصغار، الولدين والبنت وأبويها، العنزة السوداء تحتها جدي وعنزة، والبيضاء تحتها جديان، والعنزة البيضاء ببقع سوداء بطنها ممتليء، تضع لهم البرسيم وجردل الماء والخبز المبلول، بعد أن يأكلوا تتركهم يسرحون في الشوارع، يكملون طعامهم بجوار صناديق القمامة وباعة الخضار، تخرج الدجاج من القفص وتجمع البيض. نراها مسرعة إلى الدكان تشتري طلبات البيت، وتعود مسرعة، ونراها بجوار البيت تلعب مع البنات الحنجلليكة والستيتة ونط الحبل.
قال أبوها: أتكهربت…
فقلنا : الأسلاك العارية ومفاتيح النور التالفة والغسالات القديمة.
وجئنا بشهادة الوفاة وتصريح الدفن، لا شيء غريب، أحياناً يموت الصغار من الرعونة والأهمال، والحوادث كثيرة ومتكررة وعادية. وكان أبوها قد خرج إلى عمله في الصباح، وبعد خروجه جاء جارهم الشاب، وهو يشرب الشاي، أرسلتها أمها لتشتري مكرونة، وحين عادت لم يكن موجوداً.
قالت أمها: أنا حانام في الأوضة الجوانية.. لو إخواتك جاعوا ..حلة المكرونة في المطبخ.
لما جاع إخوتها، قدمت لهم المكرونة، فرفضوها، قالوا نريدها بالصلصة. وكانت أمها صنعتها على عجل، بعد أن سخن الزيت، أفرغت عليه المكرونة وحين أصفر لونها وضعت الماء والبهارات، وبعد أن شربت الماء، صارت جاهزة للأكل.
قال إخوتها: لانريدها هكذا، نريدها بالصلصة، فبحثت عن طماطم في البيت، ولم تجد، وطرقت الباب على أمها النائمة في الغرفة الجوانية، لكنها لم ترد، رغم أن البنت عزة سمعت صوت همسات، وصوت أمها تتحدث مع أحد، هل عاد أبوها وهي تلعب أمام البيت مع البنات؟، طرقت الباب ثانية، ولما غاب عنها الرد، ذهبت للجارات تستعير من إحداهن حبات طماطم.
سألتها الجارة التي أعطتها الطماطم عن أمها، فأخبرتها ، أنها نائمة، فسألتها إن كانت تعرف كيف تصنع الصلصة، فوصفت البنت عزة طريقة الصنع، فأضافت لها الجارة بعض النصائح حتى لا تجعلها خفيفة وحتى لا تحترق منها. قطعت الطماطم والبصل وفصوص ثوم، سخنت الزيت ووضعت البصل ثم الطماطم، وهي تقلب كل ذلك تغمرها السعادة، وإخوتها حولها ينتظرون بلهفة.
عندما وضعت لهم الأطباق، أكلوها بنهم وشهية، جعلت لها الصلصة نكهة رائعة. عندما استيقظت أمها روت لها ما فعلت، فأرسلتها تشتري طماطم كي ترد للجارة ما أخذته منها، ولما عادت البنت عزة رأت جارهم ، الذي كان يشرب الشاي عندهم في الصباح يهم بمغادرة البيت ، وأمها تودعه على الباب.
لما عاد أبوها، راحت الأم تروي له ما فعلت البنت، التي تريد أن تفضحهم، تتسول من الجيران، اليوم أخذت طماطم ، تشحت الأكل من الناس، ماذا يقولون عنا .. جياع، ليس عندنا أكل، لو اعتادت على هذا الطبع ، لن ترجع عنه، ولوبقي عندها مائة عام.
هكذا كانت تقول لزوجها، لم تكن تدري ماذا شاهدت البنت ، وماذا فهمت، خشيت أن تسبقها وتروي لأبيها. ربطها أبوها من يديها وساقيها في الغرفة الجوانية، وهي تقول من بين دموعها: حرمت يا با مش حأعمل كده تاني.
وأمها تقول : لسعة واحدة من الكهرباء.. تجعلها كلما فكرت أن تشحت من أحد تتذكر الألم… فلا تفعل.
وجاء أبوها بطرف السلك ، الموضوع طرفة الأخر في مصدر الكهرباء، ولمس به إصبعها، فقط أقل من الثانية، فخرجت صرختها الخافتة، وصارت البنت عزة جافة كخشبة .. باردة كلوح ثلج.

السابق
بيان
التالي
بساطة

اترك تعليقاً