حوار

حوار مع القاصة الناقدة الأدبية زينب البوادي

الكاتبة زينب البوادي

زوجي يساعدني في دراستي؛ ولا موطن لي كالصحراء
قرأتُ لابن هدوقة؛ وتعجبني إبداعات الرافعي والعقاد
الكتابة ترنيمتي الحلوة في الحياة؛ والنقد تاج على رأس النص

هادئة كالورقة؛ باسمة كالدّواة؛ باسقة كالنّخلة؛ وجهها صبوح؛ مدادها طموح؛ عجنتها الصّحراء برمالها الذّهبيّة؛ طيّبة كمذاق عرجون يترنّح شامخًا؛ صدرها رحب للنّقّاد؛ ونقدها حبر للمبدعين… تجمع الكتابة والنّقد في آنٍ؛ في حروفها أحاسيس دافئة؛ تكتب القصّة بروح شاعريّة؛ ناقدة شارقة بارقة؛ في قصصها نكهة مميّزة ذات لمسات ساحرة؛ حقيقة هي قاصّة جادّة وناقدة واعدة يفخر بها الأدب ويُزهر. وهي على ذلك أقدر؛ لأنّها تملك أدوات الكتابة الأدبيّة؛ باهر قلمها؛ ماهر أسلوبها؛ هي إحدى بنات وادي سوف المبدعات؛ الّتي أجادت فأبهرتْ: “سألوا الأرض عن أسعد لحظاتها؛ فقالت: حين أحتضن الشّهيد”، وهي صاحبة “أريد لونًا آخر للحبّ” لَـمَّا قالت: “بلادي ترتدي الأحمر كلّ يوم مرغمة… حتّى الهدايا النّفيسة الّتي نقدّمها لها؛ نلفّها بالأبيض؛ فتأبى ألّا تتلوّن به؛ فتقبلها عابسة؛ تلتفتُ وتخبرني إنْ يكنِ اللّون رمزًا للحبّ؛ فكلّ ما فيّ ينـزف حبًّا”.
كتبتْ أكثر من مئة قصّة؛ تحمل جينات ناقدة من طراز عالٍ؛ تُجيد النّقد الأدبيّ بمهارة… عظيمة هي مثل عظيمات التّاريخ؛ تُحسن المقاومة؛ الصّبر يسكنها؛ الصّمود سلاحها؛ هي نخلة مثمرة تأتي أكلها كلّ حين… لَـمَّا حاورتها تذكّرتُ كاتبات استخدمن أسماء مستعارة مثل عائشة عبد الرّحمان “بنت الشّاطئ”؛ و ملك حفني ناصف “باحثة البادية” وماري بنت إلياس “مي زيادة”؛ وغيرهنّ… عبْر صحيفة الجديد اليوميّ؛ أُرحّب اليوم بالقاصّة النّاقدة الأدبيّة زينب البوادي.

– أُريد نبذة عن نفسك؛ وما قصّة اللّقب الأدبيّ “زينب البوادي”؛ ومن أطلقه عليك؟
– اسمي الحقيقيّ حوّاء حنكة، جزائريّة، ولدتُ بتاريخ 8 مايو 1980 بمدينة الرّبّاح بولاية وادي سوف… حاصلة على شهادة “اللّيسانس” فرع تاريخ؛ وشهادة مربٍّ رئيس خاصّ بتنشيط الشّباب، توظّفتُ في إطار “عقود ما قبل التّشغيل”؛ وحاليًا مُربّية رئيسة في دار الشّباب محمّد بوضياف بدائرة الرّبّاح… متزوّجة؛ لي أربعة أولاد؛ ابن وثلاث بنات “يسرى؛ والخنساء؛ وبلقيس؛ ومحمّد الصّادق”، ساعدني شريك حياتي في دراستي الجامعيّة وأنا زوجته؛ وشجّعني على الدّخول في مسابقات “الماجستير”؛ يعرف جيّدًا قيمة العِلم والأدب؛ وقد اجتهدنا في مشروع “كتابة مذكّرات التّخرّج” لطلّاب الجامعة بوادي سوف لمدّة ثلاث سنوات؛ نعيش استقرارًا أُسريًّا… أمّا عنِ اللّقب الأدبي “زينب البوادي”؛ زينب هو اسم والدتي المتوفّاة منذ عشرين عامًا؛ وهي ملهمتي في كلّ ما أكتب؛ وقد نالت حصّة كبيرة من قصصي؛ كنتُ أستخدم حسابًا باسم مستعار “دلال المغربيّ”؛ إلّا أنّ الأديب التّونسيّ توفيق الصّغير؛ بعد ما عرف قدراتي ومهاراتي في الكتابة؛ أشار عليّ باختيار اسم مميّز؛ وبما أنّي من منطقة شبيهة بالبادية؛ ربط اسم البادية باسم أُمّي؛ وقال لي: اسمك الأدبيّ “زينب البوادي”؛ وأنشأ لي حسابًا إلكترونيًّا.

– حدّثينا عن بداياتك مع الكتابة؟
– بداياتي الأولى مع الكتابة؛ أثناء المرحلة الابتدائيّة؛ حين كان عمري اثنا عشر عامًا؛ كتبتُ نصًّا عنوانه “الـحُلم”؛ أمّا كقصّة ظاهرة المعالم؛ كتبتُ قصّة “مها”؛ حين كان عمري سبعة عشر عامًا؛ ثُـمّ اتّجهتُ نحو الخاطرة؛ فكتبتُ كثيرًا؛ وبعدها انتقلتُ إلى الشّعر؛ جمعتُ ما تجود به قريحتي في كرّاس؛ وصحّحها لي الأستاذ مراد زيد “الكاتب المسرحيّ الشّاعر” الّذي يُعدّ أوّل من اكتشف موهبتي في الكتابة؛ وشجّعني وحفّزني على الاستمرار في الإبداع؛ فنصحني باختيار جنس أدبيّ معيّن؛ إلّا أنّ ميولي بقيتْ شعريّة؛ ثُـمّ شاركتُ في منافسة أدبيّة نظّمتها إذاعة وادي سوف عام 1997 عبر حصّة “استراحة الجمعة” الّتي تعدّها باية رزّيق؛ حيث فُزتُ في مسابقة أحسن قصيدة؛ مشاركتي بعنوان “أُمِّي”… ومن محاسن المصادفة؛ أنّي اخترتُ تخصّص الأستاذ مراد زيد نفسه؛ وصِرتُ زميلته في العمل… أيضًا؛ الأستاذ توفيق الصّغير؛ ساهم في توجيهي عند ما أُعجب بإبداعي؛ وشملني برعايته؛ فغرس فيّ الثّقة؛ فهو مَن وجّهني إلى كتابة القصّة القصيرة؛ وبعدها إلى القصّة القصيرة جدًّا.

– لمن تقرأين؟
– قرأتُ كثيرًا لعبد الحميد بن هدوقة؛ ورشيد بوجدرة؛ وقرأتُ للطّاهر وطّار؛ وزهور ونيسي؛ وأحلام مستغانمي، وكنتُ معجبة جدًّا بكتابات يوسف إدريس؛ ومصطفى صادق الرّافعيّ؛ وعبّاس محمود العقّاد.

– يريد القارئ أن يعرف الجنس الأدبيّ الّذي تكتبين فيه بعمق؟
– أكتبُ القصّة القصيرة؛ ولي قصص عديدة؛ منها “ذكريات طفولة”، و”رسائل بين صديقتين”، كما أكتبُ القصّة القصيرة جدًّا؛ لي نصوص متنوّعة.

– هل يتابع إبداعاتك النّقاد بكتابات تحليليّة أو رسائل أو تعليقات؟
– لم يتابعني النّقّاد؛ لكنّي أخذتُ النّقد عن بعضهم مثل الأستاذ محمّد فراس الّذي تأثّرتُ به؛ فقد حلّلتُ نصوصًا لكُتّاب كبار في القصّة القصيرة جدًّا مثل قصّة “تقابل” للكاتب الفلسطينيّ عمر حمش؛ وقصّة “العبوديّة” لأحمد عبد السّلام؛ و “قدرات” للقاصّ عبد القادر عطيّة؛ و”تيه” للقاصّ أحمد سعد؛ و”ذكاء” للقاصّ سعيد أبو حجر؛ و”أبيض وأسود” للقاصّ أحمد زرد؛ و”حفنة من وطن” للقاصّ نزار ياسين؛ ولعفيفة أمّ الشّيماء؛ تركتْ قصّة دون عنوان؛ فاخترتُ لها “أيقونة القلب” عنوانًا؛ فأثنتْ عليّ النّاقدة الجزائريّة الدّكتورة هداية مرزق؛ واعتبرتْ ذلك نقدًا نموذجيًّا رائعًا… أعلام كثيرون شهدوا ببراعتي في التّحليل والنّقد، مثلًا عبر المواقع الإلكترونيّة أبدى مختصّون إعجابهم بكتاباتي؛ كلّ النّصوص الّتي تنشر للكُتّاب في صفحة “القصّة القصيرة تحت المجهر”؛ تمرّ عليّ كلّ يوم سبت لأنقدها؛ حاليًا أنا مسئولة عن الورشة النّقديّة في الصّفحة نفسها.
أرى أنّ النّصّ يظلّ ناقصًا؛ ولا يكتمل إلّا بتتويج نقديّ نزيه؛ فالنّقد تاج على رأس النّصّ، لأنّه يبرز نقاط القوّة والضّعف فيه؛ فيسعى النّاقد إلى فكّ شفرات النّصّ وإماطة اللّثام عن ستار النّصّ؛ فيزيل الغموض؛ ويزرع الوضوح؛ كأنّ النّاقد يملك مفاتيح النّصّ؛ ويدعو القارئ للدّخول معه بعيدًا عن التّرميز والإبهام والإغلاق الّذي يعتمده الكاتب؛ وثمّة يظهر دور النّاقد؛ وإنْ تعدّدت آراء النّقّاد بتعدّد مفاتيحهم للنّصّ؛ وهذا الاختلاف ضروريّ في النّقد الأدبيّ كغيره من الآداب والفنون؛ إنّه اختلاف تنوّع لا اختلاف تضادّ؛ وهذا هو النّقد الطّبيعي دون تأويل النّصّ إلى ما لا يحتمل.
أمّا رأيي في النّقد كعمليّة إبداعيّة؛ فأرى النّاقد كالكاتب؛ يحاول أن يكون تحليله لكلّ حرف في النّصوص شاملًا؛ معتمدًا على مَن تأثَّر بهم مِن النّقّاد أو بعض المدارس النّقديّة أو بصفته ناقدًا مجدّدًا له فضاؤه الّذي يميّزه عن بقيّة الفضاءات؛ أرى أنّ حسّ النّقد لا يتوفّر عند الكثيرين؛ كما الكاتب سواء أكان شاعرًا أو قاصًّا أو روائيًّا أو غير ذلك؛ فليس كلّ كاتب ناقد؛ لكن هناك النّاقد الكاتب؛ حين تتمتّع بحسّ الكتابة وحسّ النّقد فتلك الموهبة والإبداع.

– كيف ترين المسابقات الأدبيّة؟ وما هي نتائجك إنْ شاركتِ؟ ما رأيك في لجان التّحكيم؟
– كنتُ أشترك في تلك المنافسات؛ فُزتُ بالمراكز الأولى؛ لكنّي توقّفتُ حين رأيتُ أنّها لا تضيف لي جديدًا؛ أشير إلى أنّ لجان التّحكيم قد تظلم نصوصًا جيّدة؛ وتركّز على نصوص أخرى أقلّ درجة منها؛ فأغلب لجان التّحكيم غير متخصّصة.

– هل صحيح أنّ المبدع ابن بيئته؟ وما هو تأثير الصّحراء عمومًا على كتاباتك؟
– الكاتب سواء كان شاعرًا أو قاصًّا أو روائيًّا؛ فهو يتأثّر بمحيطه؛ البيئة لها دور كبير في تشكيل شخصيّة الكاتب؛ ويظهر ذلك في المفردات والمعاني الّتي يستخدمها؛ بل في الموضوعات المختارة؛ فهو بمثابة “كاميرا” يلتقط الواقع؛ لكن تجسيدها لن يكون صورة؛ بل كلمات تصف الحدث مثل رؤية العين… تأثّرتُ بالمحيط الّذي أعيش فيه؛ ويبدو ذلك واضحًا في كتاباتي؛ أتحدّث عن الصّحراء والنّخلة والبادية؛ وعن الأمثال الشّعبيّة؛ أذكر مثلًا قصّة “زغرودة في مأتم”: “علّمتها البادية أنّ الرّجل قبر المرأة؛ طالت عنوستها؛ فزاد اقتناعها؛ حين حلّ النّصيب؛ تحرّكتْ سبّابتها بالتّشهّد؛ ثُـمّ توسّدته ونامت”، حيث طابقتها مع المثل الشّعبيّ القائل: “المرأة قبرها راجل”.
وأيضًا قصّة “فاكهة”: “علّمتها أمّها أنّ الفتاة فاكهة مارس؛ إنْ انتهى فصلها بارت؛ حين أنجبت بنتًا؛ زوّجتها قبله بشهر؛ اتّهموها بتزويج قاصر”، طابقتها مع المثل الشّعبيّ القائل: “البنت كي خضرة مارس”.
وأشير في قصصي إلى الألعاب المحلّيّة؛ أذكر منها: عن لعبة “الرداية”؛ وهي لعبة يمارسها أهل وادي سوف؛ عبارة عن ثماني حفر بالرّمل؛ يأتي اللّاعب بحجر ويبدأ برميه كلّ مرّة؛ الفائز مَن لا يخطئ… فكتبتُ شطارة: “أُحبُّ لعبة الرداية ولا أجيدها؛ أخطئ رمي الحجر ولم أصب يومًا؛ انتابني الملل؛ لو معلّمي يرفع معنوياتي بقوله دائمًا: أنتِ مصيبة؛ أستغرب؛ لِـمَ لا يكون مبتسمًا حين يلفظها”.

– بمناسبة عيد الطّفولة؛ ماذا تقولين للبراءة؟
– أتمنّى لكلّ طفل في العالم؛ أن يعيش بأمن وأمان بعيدًا عن الحروب؛ وعن الفقر والعوز والفاقة؛ يعيش في كنف والديه لا يتيمًا ولا محرومًا… وبهذه المناسبة؛ أهدي إلى البراءة قصّة “ذكريات طفولة”: “صَدِيقَتِي “مُنَى” شَقيَّة جِدًّا …تَسْرِقُ دَائمًا الدَّنَانيِر المَوْجُودَة فِي صُنْدُوق المَفْقُودَات بالقِسْم .
تَضَعُنِي حَارِسَة بِالبَاب؛ كُلَّمَا وَددتُ نُصْحَهَا؛ تَقُول: قُولِي لاَ أريدُ الحَلْوَى أَفْهَمُك ..
تَتَلَفَّت يُمْنَة وَيُسْرَى؛ تَجْذِبُنِي مِن يَدِي ثُمَّ جَرْيًا للدُّكَان؛ كَمْ كَانَت بَارِعَة فِي تَنْوِيعِ الحَلْوَى حَسْبَ مَا جَمَعَتْه؛ تَمْنَحُنِي حَبَّة وَاحِدة وتَأْخُذ الكُلّْ؛ مَا إِن تَضَعْهَا بِيَدي؛ حتَّى تُفَنِّدَ رَافِعَة حَاجِبهَا الأيْسَر” ألاَ يُعْجِبُك..؟”، أَحْمَرٌ خَجَلاً”.. بَلَى يُعْجِبُنِي”.
نَجْلِسُ عَلَى حَائِط المَقْبَرة؛ تَبْدَأُ بِأكْلِهَا؛ تُحرِّكُ رِجْلَيْها فَرَحًا؛ تَضْحَك؛ تَرْوِي مُشَاغَبَاتِهَا وَأحْيَانًا تَعُدُّ القُبُور؛ أرَاهَا وَأنَا أقْبِضُ عَلَى حَبَّةِ الحَلْوى بيَدِي خَشْية أنْ تَسْأَلنِي: لِمَ لَـمْ تَأكُلِيهَا؟
مَع الغُرُوب؛ تُغَادِرنِي وهِي تَغْمِزُنِي: غَدًا يا مُسَاعِد …ثُمَّ تُقَهْقِه؛ أُبَادِلُهَا ابْتسامة خَفِيفَة؛ مَا إِن تَخْتَفِي حَتَّى أَجْرِي بِاتِّجَاه قَبْر الَولّي “سِيدِي لِمَام”؛ أَضَعُ حَبَّة الحَلْوى هُنَاك وأهْمِس” هَا هِي.. اشْهَد مَعِي؛ لَمْ أسْرِقْ”.

– هل لديك منشورات أو مخطوطات؟ وما هي مشروعاتك؟
– أنشر إلكترونيًّا فقط؛ في مواقع القصّة القصيرة جدًّا؛ وعبر صحيفة الفكر؛ وبوابة المصريّ؛ ومجلّة نجوم الأدب والشّعر؛ فأنا محرّرة بهذه المجلّة… من مشروعاتي تحضير باكورتي الّتي تصدر قريبًا؛ وتليها “دراسات نقديّة”.

– اختاري تحليلًا من تحليلاتك لإحدى القصص؟
– أعرض دراستي النّقديّة حول “قدرات” للقاصّ عبد القادر عطيّة؛ “في الخمسين من عمرها؛ أرادت تغير العالم؛ خلعتْ نظارتها الطّبّيّة”.
جذبني النّصّ؛ صدقًا لم أقاومه؛ تسمّرتُ أمامه طويلًا؛ تُرى ما فيه؟ ولِـمَ هذا النّصّ بالذّات؛ هل لأنّه يحكي مرحلة عمريّة بعمر المرأة ولأنّي أنثى اهتممتُ؛ أمْ هناك معانٍ أخرى وجب تحليلها ببصيرة واعية وفكر ثاقب؟ ليتني أمتلك كلّ هذا؛ لكنّي تحدّيت نفسي؛ أن أكون على قدر التّحدي؛ ذاك ما أطلبه وأرجوه.
ومضة من تِسع كلمات وحرفي جر ّ؛ معقول تِسع كلمات تفعل بي فعلتها؛ يا لها من احترافيّة ؟ ويا لها من قدرات للقاصّ؛ تعالوا ندخل النّصّ لسبر أغواره.
العنوان “قدرات؛ كلمة بصيغة الجمع؛ ما يعني ذلك؟ هناك إذن قدرات كثيرة لا قدرة واحدة؛ مَن تجتمع فيه كلّ هذه الميزات؛ وهذه القدرات؟ وما هي؟ هل هي عقليّة ذهنيّة أو حسّيّة نفسيّة؛ أو يدويّة ماديّة؛ جعلتني في مأزق؛ شتّتني؛ وأدهشتني في الوقت نفسه؛ أعود للنّصّ علّني أجد ما يشفي غليلي في معرفة كنه لفظ “قدرات”.
يحوي النّصّ ثلاث جُمل؛ ابتدأها بحرف الجرّ “في”؛ وهو ظرف زمان أيضًا، الخمسين من عمرها “مرحلة عمريّة كاملة مختزلة في عدد واحد؛ كيف أعرف حالة المرأة في الخمسين وأنا لم أعش هذا العمر بعد؟ مَن ذا ينقذني؟ يجب أن أبحث؛ أحـمُد الله أنّي عثرتُ على نصّ منشور للكاتب أحمد عبّاس بعنوان “المرأة عند الخمسين: صدمة أمْ انطلاقةّ”؛ كشف هذا المنشور عن المستور؛ يقول: “إنّ المرأة في هذه المرحلة؛ تدرك بشكل واضح حقيقة ما أنجزته خلال سنوات حياتها السّابقة؛ وما قد تحتاجه بشكل فعليّ لإكمال بقيّة حياتها… القادم يجب أن يكون أكثر واقعيّة من النّاحية العقليّة أو العاطفيّة؛ الأشياء الأكثر أهمّيّة فقط هي الّتي تستحقّ التّركيز؛ هناك تغييرات جسمانيّة “المعروفة بسنّ اليأس”؛ بعض المتاعب الصّحّيّة؛ تغييرات اجتماعيّة؛ أزمة منتصف العمر الخطيرة الّتي قد يسفر عنها الطّلاق؛ حيث تكون فيها المرأة توّاقة للإنعتاق من سنوات حياتها السّابقة؛ ما يجعلها أكثر ميلًا لإنهاء العلاقة مع شريك حياتها؛ ولا يمنعها من ذلك إلّا وجود حبّ كبير متبادل؛ وفهم أكثر للرّابطة الزّوجيّة بينهما”.
الآن تُفتح الأبواب؛ وأتنهّد عميقًا؛ أظنّها بؤرة مستنيرة؛ أستطيع من خلالها الولوج للنّصّ؛ جملة فعليّة ابتدأها القاصّ بـ” أرادت”؛ ما هذا التّغيّر المفاجئ؟ حالة ركود إلى حركيّة؛ كأنّها تخلع شيئًا كان عنها؛ أمْ أنّ الفكرة كانت مبيّتة قِبلًا؟ وقد حان كشف الغطاء عنها؛ كما يفيد اللّفظ أيضًا “أرادت”؛ للتمنّي؛ فكثيرًا ما نريد ولا يحصل؛ ثُـمّ ” تغيّر العالم” لم يشكلها؛ “آه” من كلمات دون شكل؛ هنا فخّ آخر لكنّي سأحددها وأشكلها ” تَغَيُّرَ”؛ و”العالم”؛ ما هو عالمها؟ ولِـمَ في هذا العمر فقط؟ ما هو الّذي عزمت ْعلى تغييره؛ وتمنت ذلك؟ لكنّي لا أظنّّها تمنّت فحسب؛ فها هي الجملة الثّالثة تؤكّد الخبر “خلعتْ” فعل مضارع آخر؛ ما الّذي خلعته “نظّارتها الطّبّيّة”؟ ماذا يريد أن يقول القاصّ؟ فبعد حديث وتحليل عن العمر يُنهي الموضوع بخلع نظّارتها الطّبّيّة؛ وانتهى الأمر؛ ما الّذي تغيّر في العالم أنْ خلعتْها؛ لا بدّ أنّه يضمر أمرًا؛ وجب التّحليل لأعد “نظارتها الطّبّيّة”؛ عادة نلبس النّظّارة للمساعدة على النّظر؛ نحن نبصر لكنّها مساعدة على الرّؤية بصورة أوضح؛ إذن المقصود لم تكن النّظّارة؛ بل هناك شريك في الموضوع مُعِين على دروب الحياة ورؤيتها بشكل جليّ؛ الآن تخلعه؛ باستطاعتها النّظر دونه؛ باستطاعتها أن ترى الحياة بصورتها الواضحة الحقيقيّة دونه؛ اكتملتْ قدرات البصر والبصيرة؛ معقول عودتي إلى البداية؟ النّصّ ملتفّ كحلقة دائريّة؛ إنّها القدرة على الصّياغة؛ والبراعة في الحبكة والصّناعة؛ والانتقال بشكل متسلسل؛ وسلس؛ وبسيط.
تِسع كلمات اختزلَ فيها القاصّ مرحلة عمريّة تحوي الكثير؛ أي قدرات لديك أستاذ عطيّة؟ استطعتَ بها أن تسلبني قدرتي على التّحليل؛ ما لَـم أتوقّف عند نصّك طويلًا أحلّله؛ حقَّ لك أن تفتخر بصناعتك وبراعتك؛ ووجب أن أنحني لقدراتك العجيبة في نقل الحدث واختزاله بتحفة فنّيّة رائعة .

– رسالة منكِ إلى كُتّاب القصّة بكلّ أنواعها؟
– للمبدعين الجدد؛ أقول كلمات لا بدّ منها:
• دراسة القواعد والنّحو؛ حتّى تكون النّصوص خالية من الأخطاء؛ فمن المشين أن يقول الكاتب عن نفسه أنّه قاصّ؛ ونصوصه مليئة بالأخطاء النّحويّة واللّغويّة والتّركيبيّة .
• المطالعة للأدباء المشهورين في هذا الجنس الأدبّي؛ ومحاولة الوقوف على ما يدعو إليه؛ حتّى يكون نصّه بمستوى أدبيّ رفيع.
• الكتابة بأيّ جنس أدبيّ تستدعي الوقوف على شروطه وأركانه وقواعده؛ لا يجوز للقاصّ أن يصنّف نصًّا على أنّه “قصّة قصيرة جدًّا” وهو خاطرة واختلاجات نفس.
• الإحساس بموضوع القصّة هو سرّ نجاح النّصّ؛ فالقاصّ كما الفنّان أو الشّاعر؛ كلّما تغنّوا بحروفهم وكانت نابعة من القلب؛ تخرج من ذواتهم صادقة؛ كلّما لقتِ الأغنية أو القصيدة رواجًا ونجاحًا؛ كذلك النّصّ القصصيّ كلّما لامس الواقع وكان صادقًا؛ كان ناجحًا؛ وتلك روح الإبداع.

– هل يُمكن لزينب الإنسان أن تعيش في مدينة ساحليّة أم أنّ الصّحراء تظلّ آسرة لها؟
– لكلّ إنسان موطنه الّذي وُلد فيه؛ ويظلّ يحتويه؛ مغرمًا به؛ إنِ ابتعد يظلّ كالطّائر الذّي يفتقد عشّه؛ هي كذلك الصّحراء لي؛ مثل أُمّي؛ فتحتُ عينيّ عليها؛ فقلتُ لوالدتي: “أُمّي”؛ وقلتُ للصّحراء: “أُمّي وموطني”… إذن؛ لكلّ منطقة جمالها؛ فكما يزيّن المدن السّاحليّة البحر والشّواطئ؛ تزيّن الصّحراء الكثبان الرّمليّة والنّخيل؛ الفارق الوحيد أيّهما كان الأسبق باحتضانك ساعة ولادتك؟ فتحتَ عينيك عليه أوّل مرّة؛ لعبتَ؛ جريتَ؛ درستَ؛ أكلتَ؛ فرحتَ؛ حزنتَ؛ كلّ هذه التّفاصيل ستربطك حتمًا بالمكان ليكون هو وذكراه شيئًا آسرًا مهما ابتعدتَ عنه؛ غيّرتَ الأماكن؛ ستحنّ إليه؛ لا موطن يحلو لي كالصّحراء؛ يحضرني الآن نصّ سأطوّعه للمناسبة؛ “حفنة من وطن”: “وأنا أخرج الصّرّة من حقيبتي ببلاد الغربة؛ كانت عيون صديقاتي ترقبني؛ مستغربات؛ ظللتُ أُخرجها وبقين يراقبنني؛ حين حُملتُ على الأكتاف؛ فتحوا الصّرّة؛ كانت أوّل حفنة من رمل سوف تُنثر على قبري”.

– ضعي خاتمة للحوار؟
– أشكرك على هذا الحوار الجميل؛ وأشكر صحيفة الجديد اليوميّ، وأرجو لها كلّ التّوفيق… سعدتُ حقيقة بلقائكم؛ وددتُ فقط القول: إنّ الكتابة وحدها مَن تُحيي الحروف وهي رميم؛ وإنْ يكن لكلّ شيء ترنيمة؛ فالكتابة هي ترنيمتي الحلوة في الحياة… أختم بخاطرة لقاء؛ هي عبارة عن حلم حقيقيّ؛ رأيتُ والدتي –يرحمها الله- تحتضنني ليلًا حين باعدتُ بين زياراتي إليها في المقبرة: “حين زرتني البارحة في الـحُلم وحضنتني؛ كم استطعمتُ لذّة عِناقك؛ لكنّك كعادتك مستعجلة؛ تستأذنين كي تعودي؛ ألمحك من بعيد تجولين القبور بحثًا عن مكانك؛ كم تمنّيتُ أن تتوهي يومًا؛ تعودي لتسأليني عنه؛ أفتح ذراعي حينئذ قائلة: ها هنا سكنك”… أمّا والدي الكريم؛ فينصحني بإكمال دراستي؛ فيقول: ” إنّ الشّهادة العلميّة هي حرز للزّمن؛ لا يعرف أحدنا ما تخبّئ له الأيّام”.

————————————————-
الحوار نشر في صحيفة “الجديد اليومي”، وهو منشور في أحد الأعداد المحصورة بين “الأحد 10 أوت 2014 م… الأحد 31 أوت 2014 م؛ وهي 833 حتى 851” سأضع رابط الحوار لاحقا لأن خللا تقنيا حدث في نسخ هذه الأعداد بصيغة “بي دي آف”.

السابق
أعطني عمرا
التالي
ﻋﺼﻴﺎﻥ

اترك تعليقاً