القصة القصيرة

رحيل القُبُلات

هذا الرجل أصبح لا يُطاق بالرغم من حبي له! انتهى أخيرًا من ثورة بركانه العاطفي والجسدي المقيتة وتركني ألملم نفسي وأمسح دموعي وألعن تلك اللحظات التي يغرقني فيها بفيضه، أصبحت أهرب من علاقاتنا الزوجية بسبب طقوسه العاطفية المُمِلَة التي يؤديها وفق برنامج رتيب مضن يغرقني فيه-رغمًا عني-في بحور حبه وأحضانه وقبلاته وهمساته ولمساته ومعسول كلماته حيث يمهد لهذا الحدث الجلل ابتداء من صباح اليوم المشهود وانتهاء باللقاء السمج الموعود.
إنه زوج يعيش خارج نطاق الزمن…يدمن الأوهام، يتقوقع داخل دنياه الهلامية، يترهب في مدينته الفاضلة، يأكل الحب ويشرب الأحاسيس ويتنفس العواطف، ينشد المثالية في كل فعل وقول وفكر، مازال يعيش في الماضي كمراهق في فورة عواطفه وأحاسيسه ورغباته وطموحاته التي لا تتعدى حدود قلبه وجسده، كيف تحمَّلتُ معه عشر سنوات طويلة منذ زواجنا؟! يغيظني ويثيرني ويحاول دون كلل أن يخرجني بخياله المريض من دنيا الواقع التي يجب أن نعيشها بكل أبعادها ووجوهها أفراحًا وأتراحًا لكنني لم أنس أبدًا مثله مسئولياتي في الحياة كزوجة عصرية وامرأة عاملة تود أن تعيش الحياة الحديثة بواقعها البعيد عن الأوهام، عركتُ الحياة وعركتني فعرفتها جيدًا وعرفتني، أم لطفلين أدرك رسالتي ورسالته نحوهما كأم وأب تربيةً وتعليمًا دينيًا ودنيويًا وقدوة حسنة، كما إني ربة منزل أجيد إدارة بيتي باقتدار وحكمة حاملة بمفردي ذلك العبء الثقيل الذي يأبى أن يشاركني فيه. أما هو فرجل غريب وعجيب في طباعه وعاداته هدفه في الحياة أن يحب ويُحَبَّ فهو يعيش بالحب وفي الحب ومن أجل الحب الذي يؤمن به ويدمنه وفق آرائه ومبادئه التي لا يحيد عنها والتي أعارضها وبقوة حتى أصبحت أكره هذا الحب من فرط إغراقنا فيه. موقنة أنا وبقوة أن هذا الحب هو نقطة ضعفه التي تقوده وتقود بيتنا نحو الهاوية فهل يشبعنا الحب أو تروينا القبلات أو تكسينا الأحضان؟!
يعود من عمله ويظل قابعًا في بيته سجين عواطفه قانعًا براتبه الحكومي وراتبي اللذين يكفيانا بالكاد، يغدق علينا بمشاعره الفيَّاضة التي أصبحت قيدًا يلتف حول رقابنا ويكاد أن يخنقني أنا وصغيرينا، لا يكف خلال يومه عن توزيع حنانه علينا في صورة أحضان تكبِّلنا وتكتم أنفاسنا وقبلات لزجة كرهناها وعواطف ساخنة مللنا منها، كثيرًا ما يحتدم الشجار بيننا بسبب عدم بحثه عن عمل بعد الظهر لنزيد به من دخلنا الشهري كي نرفع من مستوى معيشتنا كبقية خلق الله ونُؤَمِّن مستقبل طفلينا من مدَّخراته فلا أجد منه إلا برودًا في كلماته وقناعته المريضة التي يُغَلِّفها بمظاهر تدينه المتواكلة وهو يجيب:
الرزق من عند الله…الحمد لله نحن أفضل من غيرنا كثيرًا…الله ساترنا بستره…نحن نأكل ونشرب ونلبس ولا ينقصنا شيء…مستقبل أولادنا ومستقبلنا بيد الله سبحانه وتعالى وليس بيدنا أو بيد أحد…فلنترك الملك للمالك.
يعتكف في حجرة نومنا بعد الغذاء وحتى العشاء ليقرأ كتب الشعر العاطفي وروايات العشق والغرام وهو يستمع إلى أغاني الحب والولع القديمة من مذياعه العتيق الذي يجاور مخدعنا ولا ينام إلا على صوته، هل يوجد أحد سواه يدمن تلك العادات البالية السخيفة من التَّخَلُّف والرجعية ويستمع إلى “الراديو” في عصرنا هذا تاركًا الشبكة العنكبوتية الجبَّارة ومواقع التواصل الاجتماعي الخلَّابة المسيطرة على عقول وقلوب البشر هذه الأيام؟! يعلو صوته صارخًا فجأة وهو يناديني فأترك كل ما بين يديّ وأسرع إليه بقلق فإذا به يطلب مني مشاركته في مشاهدة فيلم عاطفي قديم مقيت عفا عليه الزمن باللونين الأبيض والأسود الكريهين وقد سبق وأن شاهده عشرات المرَّات ويحفظ تفاصيله وحتى كلمات حواره جيدًا. أليس من حقي أن أُصاب بالجنون بسبب أفعال هذا الرجل؟!
يغيظني كثيرًا لمثاليته المفرطة فكيف لزوج أن يكثر من شكر زوجته على أي شيء وكل شيء تقدمه له أو تفعله من أجله أو من أجل البيت مهما كان صغيرًا أو تافهًا؟! يقول لي هنيئًا لكِ حبيبتي أو شكرًا لكِ بعد كل شراب أو طعام مدعِّمًا ذلك أمام طفلينا بالمزيد من الأحضان الخانقة والقبلات الحارة التي أصبحت أكرهها وأنفر منها بل وفوق كل ذلك يطالبني بأن أعامله بالمثل فلا أستطيع بالقطع.
العجيب والغريب أنه يأبى أن يعاقب أيًا من ابنيه عقابًا جسديًا أو معنويًا كأب مسئول عن تربية أبنائه مهما أخطأ معلِّلًا بأن عقاب الزمن كاف لهما ولنا، لا يهمه أمر تعليمهما أو متابعة تحصيلهما الدراسي أو الذهاب بهما إلى المدرسة صباحًا والعودة فالأم مفروض عليها وحدها أن تتحمل كل ذلك كما أن التعليم والشهادات أصبحا لا طائل من ورائهما. لا يحمل همَّ البيت أو طلبات البيت ويكتفي في بداية كل شهر وبمجرد صرف راتبه بأن يدفع إيجار الشقة وسداد فاتورة الكهرباء والمياه والغاز ثم ينفق كل ما تبقَّى منه في شراء الاحتياجات الشهرية من لحوم ودواجن ومستلزمات تموينية وغيرها دفعة واحدة حتى يرتاح باقي أيام الشهر تاركًا لي تدبير كل أمور البيت واحتياجات الطفلين من راتبي إلا أنه لا يكف ولا ينسى أبدًا طول الشهر إغراقي والطفلين والبيت كله بعواطفه الجياشة وأحاسيسه الفوَّارة ومشاعره الساخنة التي لا تهدأ ولا تبرد أبدًا ولا تموت كما مات راتبه.
يغيظني برقته المتناهية وهمساته وتأوهاته كلما تحدَّث إلى زميلاته في العمل خلال الهاتف ناشرًا بينهن مبدأه (الحب مفتاح سحري لحل جميع مشاكل الحياة) مستخدمًا بذكائه كلماته العاطفية التي تذيب القلوب وصوته الناعم الذي يأسر الأرواح وما أدراني ما يحدث في العمل حين يكتمل كل ذلك بجاذبيته وأناقته التي تجذب العيون وتقتنص النفوس فيحطِّم قلوب العذارى والأرامل والمطلَّقات وحتى المتزوجات منهن ولهذا فأنا موقنة بأن الكثيرات منهن تقعن في حبه وغرامه.
كفى…لقد تحمَّلت الكثير وفاض الكيل وكدت أنفجر من داخلي بسببه، متى يأتي الصباح حتى آخذ الطفلين وأذهب بهما لنقيم في بيت أبي لعل الزمن يغيِّر من أحواله فيُشفى هذا الرجل المجنون عاطفيًا من داء القبلات وهوس الأحضان؟.

هذه المرأة أصبحت لا تُطاق بالرغم من حُبّي لها! عَرَفَتْ -سامحها الله-كيف تصيبني في مقتل حين أخذت طفلينا وهجرتني وهي تدرك جيدًا نقطة ضعفي وهي حبي لها ولهما والذي يمثل لي الهواء الذي أستنشقه والماء الذي أشربه حتى أبقى على قيد الحياة. لا أعرف متى أو كيف أصابها كل هذا الجفاء والنفور العاطفي؟! أضحت صحراء قاحلة جرداء الأحاسيس…جافة المشاعر…لا تملك قطرة ماء أو بقعة ظل لتمنحها للآخرين عن طيب خاطر، تمقت كل العواطف وتنعتها بالضعف، تفتخر بكونها امرأة عملية قوية صلبة لا تهزَّها نبضة قلب ولا تقهرها نظرة عين، سقطت من ذاكرتها فنون صنع الابتسامة وإطلاق الضحكة، فقدت معاجمها كل كلمات الحب والود وجف لسانها عن طيب التعبيرات، تنفر من أحضاني وتهرب من لمساتي وتشمئز من قبلاتي، لا تؤمن بالحب فلا يتعدى في رأيها نطاق الرغبة الجنسية المقنَّعة بل وتصفه بالنفاق الأكبر من أجل تحقيق المصالح المتبادلة، الزواج في نظرها شركة بين رجل وامرأة ليعيشا معًا من أجل إنجاب النّسل البشري حتى تستمر أقدام البشري تدبُّ على وجه الأرض. دائمًا ما يكون لقاؤنا غير الحميمي صراعًا معتادًا بين عطاء حبي الذي أريده أن يطول ويكون دون حدود ورفضها ونفورها الراغبين في سرعة إنجاز المهمة من أجل الخلاص من اللحظة، وبعيدًا عن ذلك فإنها تحاول دومًا أن تبعدني عنها وتدفعني بضجر وتأفف كلما حاولت التَّقرُّب منها لأحتويها في دفء أحضاني وأغمرها بساخن قبلاتي وقد أجادت تلقين طفلينا هذا الدَّرس باقتدار فأصبحا مثلها.
يؤلمني أنها تكره كل ما أحب من عادات وهوايات بل وتسخر منها وتتباهى بأنها تجيد استخدام وسائل الاتصال الاجتماعي الحديثة وتعايرني بأنني أمّيٌ فيها، تصف مكوثي في البيت بعد عودتي من عملي مصيبة كبرى حيث تعتقد أن تواجد الزوج داخل البيت هو خيبة كبيرة من خيباته، تضجر من طريقة تعاملي الرقيقة والمجاملة معها ومع طفلينا ومع الآخرين وتعتبره قمة الضعف الشخصي في زمن القوة والشدَّة وهي لا تفتر عن لومي لعدم صرامتي وسوء تربيتي للطفلين تلك التربية الحانية الرقيقة الخالية من الشِّدة والعقاب والتي تعتقد بأنها تدفعهما نحو الفساد والفشل كما أن إهمالي في متابعتهما دراسيًا سوف يُضَيَّع مستقبلهما الدراسي علمًا بأنني أراقبهما من بُعْدٍ حتى يعتمدا على نفسيهما منذ الصغر وأسأل عن تقدمهما الدراسي في مدرستهما دون علمهما ودون أن آخذ تصريحًا منها بذلك لأني سأكون مُخْطِئًا في رأيها إن فعلت أو لم أفعل.
كثيرًا ما ألفتُ نظرها بكل هدوء وأدب إلى محاولة تغيير سلوكها الجاف في طريقة التعامل مع ولدينا كأطفال صغار أو معي كحبيب وزوج وأب لأبنائها وإنني لا أتذكَّر أبدًا أنها قامت بمنحي قبلة واحدة طواعية منها أو تعبيرًا عن حب أو امتنان او احتفالًا بمناسبة معيّنة فتوعدني بذلك إلا أنها تنسى كل هذا بعد دقائق قليلة وحين أذكرها بوعدها فإنها تنبهني بأنها لا تحب القبلات فهي تخنق أنفاسها وتطالبني بالترحيل الفوري والإجباري لتلك القبلات اللعينة عن منزلنا حتى تستقيم حياتنا فأطرق برأسي إلى الأرض نادمًا ويائسًا، تعبتُ من كثرة توجيهها ونهيها عن التصرُّف الفظ في مواجهة الآخرين سواء الأقارب أو الغرباء خاصة زملاء وزميلات العمل والذي يُنفِّر منها معظم الناس إلا أنها تصرُّ على ذلك لإيمانها وفقًا لمنطقها المريض بأن هذا هو المعيار الحقيقي الذي يشير إلى سمو أخلاق المرأة المحافظة على شرفها وشرف زوجها.
العجيب والغريب أنها لا تهتم بمظهرها وأناقتها كبقية النساء سواء داخل البيت أو خارجه وإن كنت أتغاضى عن ذلك داخل بيتنا لأنني أحبها وأعرف مشاغلها وهي جميلة في عينيّ في كل الأحوال إلا أنني أنبهها مرارًا إلى ذلك قبل خروجها إلى العمل أو إلى أي مكان آخر وأجاهد في البحث عن طرق متعدِّدة واختيار الكلمات المناسبة لإقناعها بذلك على أساس من حبي لها ورغبتي في أن تبدو في أحسن مظهر فترد بكل غضب وانفعال بانها امرأة عملية ذاهبة إلى العمل الحكومي وليس إلى ملهى ليلي.
كفى…لقد تحمَّلت الكثير وفاض الكيل وكدت أنفجر من داخلي بسببها ومن فرط الاشتياق، متى يأتي الصباح حتى أذهب إلى بيت أبيها وأحضرها مع الطفلين واُبَشِّرها بأن القبلات قد رحلت عن بيتنا وأن الأحضان قد هجرته لعل الزمن يغيِّر من أحوالها فتُشفى تلك المرأة المجنونة جفاءً ونفورًا وإن كنت أخشى أن تتسلَّل القبلات والأحضان مرة أخرى رغمًا عني وتعود إلى البيت أكثر قوة وسخونة وإصرارًا وتنتظرها بشوق ولهفة خلف الباب المُوَارَبِ.

السابق
العصابة
التالي
نَدَم

اترك تعليقاً