القصة القصيرة

شبحٌ في الشُّرفة

كدت أطير فرحًا حين عرضت عليَّ أختي الكبرى، استضافتي في الإجازة الصيفية. منذ زواجها الذي مضى عليه خمسة عشر عامًا، لم أزرها في بيتها النائي بمدينة سفاجا، والذي لم أكن أعرف له طريقًا، إلا أنها لم تنقطع عن زيارتنا، بصحبة زوجها وأولادها كل بضعة أشهر، في الأعياد والمناسبات.
كانت سنة جامعية كئيبة مملة، جاءت بعد أحداث هزّت البلاد، وزعزعت الأمن، وأعادت إلينا الحرس الجامعي المقيت، وغيّبت عشرات الأصدقاء والزملاء بين قتيل أو معتقل أو مهاجر. ومع هجوم موجات الحر القاتلة التي لم يفلح في كسر حدتها أحدث المكيفات والمراوح. زاد الضجر بسبب الفراغ والبطالة، لندرة فرص العمل وطول الإجازة وتفرق الأصحاب.
أخيرًا سيتحقق حلمي بالعيش بضعة أسابيع في مدينة (سفاجا) الساحلية. قرأت كثيرًا عن المدينة العتيقة الواقعة جنوب الغردقة استعدادًا لهذه الرحلة. حلمت بارتياد ستين كيلو مترًا من الشواطئ الآمنة، ذات الرمال الذهبية الساحرة، والاستمتاع بالسباحة والغوص في المياه الزرقاء الشفافة عالية الملوحة، ومشاهدة الشعاب المرجانية الفريدة والأسماك النادرة والكائنات البحرية العجيبة، والمناظر الطبيعية الخلابة، وتسجيل لحظات الشروق فوق رؤوس الجبال الشامخة، والغروب في أحضان البحر الممتد.
قرأت أيضًا عن القرى السياحية المبثوثة على شواطئ البحر الأحمر، ومراكز التدريب على الغوص والتزلج وركوب الأمواج ومسابقات الصيد، والفنادق ومطاعم فواكه البحر المشهورة عالميًّا. عن مغامرات رحلات السفاري الجبلية الشيقة برفقة المرشدين السياحيين، عن علاج الأمراض الجلدية المستعصية بالرمال السوداء والمياه البركانية، رحلات اليوم الواحد والمزارات السياحية لمناجم الفوسفات الموحشة، وكهوف الجبال الغامضة المحيطة بالمدينة، والميناء البحري الذي لا يهدأ ولا ينام خاصة في مواسم العمرة والحج.
أزمعتُ إن راقتني البلدة تمديد إقامتي حتى بداية العام الدراسي الجديد.
أكبر أبناء أختي (سعيد) يصغرني بأعوام قليلة، لكنه يشبهني من بعيد حتى لا يكاد الناظر إلى أحدنا يميزه عن الآخر، في أول يوم لوصولي خلدت إلى النوم مبكرًا لأحظى بقسط وافر من الراحة، وأمسح عناء الرحلة الطويلة من أعماق صعيد (قنا) الذي لم أفارق حقوله الخضراء منذ الميلاد وحتى دخول الجامعة.
استيقظت قبيل منتصف الليل مشوشًا ناسيًا أين أنا، كان الليل قد أسدل ستائره السود منذ ساعات، ومع انقطاع التيار غرق المكان في ظلام دامس، رحت أتحسس الجدران متلمسًا الطريق إلى الحمام، محاذرًا الاصطدام بقطع الأثاث، لم يفلح غسل وجهي ورأسي في إفاقتي فاستسلمت لحمام بارد، خرجت منه منتعشًا، كان (سعيد) واقفًا في الشرفة، ناديته فلم يرد، توعدته بأن أتركه وحيدًا وأخرج من البيت، فإذا وقع له مكروه فلا يلومن إلا نفسه، فقد أعذر من أنذر.
كنت أعرف أنّ من عادتهم الجلوس في (البرحة) أمام البيت عند انقطاع التيار، حيث يتعذر النوم في الأمسيات الحارة، لا سيما إذا رافقها لسع البعوض المؤلم وطنينه المزعج، حيث لا يضل طريقه إليك رغم الظلام، ولو كنت تحت الملابس والأغطية، يزعمون أنه لا يتجمع فقط على الشجيرات والنباتات المزروعة بالجوار، بل أيضًا على رائحة ثاني أكسيد الكربون الذي نخرجه مع الزفير، وأنه يتعرف على الحرارة المنبعثة من الأجساد الحية، وأنه يرى الشرايين والأوردة والشعيرات الدموية من تحت الجلد، كما يرى الطيار صورة تفصيلية للمطار تحته عند اقترابه للهبوط.
البيت واسع وجميل، مكتمل الخدمات، متعدد الغرف، وجيد التهوية. الأثاث أنيق والفرش فخم ومريح، لكن المبنى كسائر البيوت الأخرى يمتد أفقيًّا كمستطيل، ويتكون من طابقين اثنين فقط، الأرضي منهما محلات متنوعة النشاط، والعلوي للمعيشة والنوم.
لا يحلو لهم السّمر مع شاي الزردة الثقيل بالنعناع واللب والمحمصات، إلا حول أحاديث النداهة والعفاريت والجنّ، ويرددون قصصًا كثيرة يحفظونها عن مردة الشياطين المتحولين من هيئة لأخرى، الذين يعابثون الناس ويعبثون بهم، ويوقعون من يصادفهم وحيدًا بالليل في المقالب المضحكة والمهلكة، ولهم وجوه بشر مألوفة أو بعين واحدة في المنتصف، وحوافر ماعز.
حين وصلتُ إلى مجلسهم الصاخب أخذتهم رعدة، وسكتوا كأنّ على رؤوسهم الطير، ووجموا كأنهم رأوا عفريتًا من الجن، فقد كانوا يظنونني واقفًا هناك في الشرفة، ألقيتُ التحية فلم يردوا، وهم ينظرون إليّ نظرات مريبة، جف حلقي وهرب مني الكلام حين تعرفت بينهم على ابن أختي (سعيد)، الذي تركته واقفًا بالأعلى.
تسمّرت أعيننا على الشبح الرابض في الشرفة، وهتفنا في صوت واحد:
– ولكن من يكون هذا؟
بلا تردد على جناح السرعة، ومع أول ضوء للنهار في الصباح الباكر، قطعت مئتي كيلو مترًا عائدًا إلى قريتي وأنا أرتجف رعبًا، قاطعًا إجازتي التي لم تكد تبدأ، وصورة الرجل الغريب في الشرفة لا تفارق عيني، ولا أعرف لهذا اللغز تفسيرًا منطقيًّا يريح عقلي، لتصلني في المساء رسالة نصيّة بالهاتف، مفادها أنَّ الشبح الذي ملأ قلوبنا رعبًا بالليل، لم يكن سوى عامل الكهرباء، الذي استدعاه زوج أختي دون علمنا، لإعادة التيار المقطوع.

السابق
نِفاق
التالي
مُنْتَخَبْ

اترك تعليقاً