القصة القصيرة

صدر الحكاية

كنت لا أزال دون الخامسة عشر من عمري عند ما سمعت لأول مرة بإسم “إحميدة العفريت” الحق اني كنت أخشاه كثيرا ولا أتمنى رؤيته أو الحديث عنه كانت صفة ” العفريت ” بحد ذاتها تصيبني بالخوف والهلع والذعر ولم أكن أعلم أنه درويش طيب ساذج ..كان المتحدثون عنه يختلفون حوله فمنهم المعجب بشخصيته والأساطير التي تحاك عنه مثلما أن هناك الذين لايرون فيه سوى مجرد أبله لا ضيرفيه ساح طويلا في الفلوات البعيدة وحين بلغ من “الكبر عتيا” عاد إلى موطنه في صورة مرابط أو زهدي أو ولي من أولياء الله الصالحين ..بعض الرجال يروون عنه الأساطير الكثيرة والقصص الممتعة فيضيفون إليها بعض التوابل التي تقيهم الحرمان وقتل الفراغ الموحش في قرية أقصى العزلة والتيه في التخوم النائية كأنه جحا زمانه بينما النساء تسكنهن الغبطة والسعادة إذ رأينه عائدا من خلوته عند منتهى المراعي البعيدة حاملا عصاه وزوادته وبها أشياءه البسيطة كالعقاقير والأدوية ولعب الأطفال التي لا تغادر كتفيه أينما حل وأرتحل و”المسعودة ” منهن من تساعده على النهوض حين يود أن يقتطع نفسا من الراحة فيطلب منها أن ترسل له مع إحدى بناتها أو أبنائها قليلا من خبز الفطير وبراد من القهوة العربية المجللة برائحة الشيح والقرفة فتقبل رأسه ثم يدعوا لها بالذرية الصالحة وحسن الثواب ..كم من مرة رأيت أترابي من الأطفال والبنات يحملون إليه خبز الفطير وهو وجبته الأثيرة بأمر من أمهاتهم ليدعوا لبناتهن
بالذرية الصالحة و بالمكتوب والزوج المنتظر.. مرة دخت من هول المصادفة وغرابتها حين رأيت خيرة بنت الماحي عائدة من خلوة إحميدة العفريت ومعها منديل الكسرة والفرح يتقاطر من عينيها كأنها على موعد مع زائر جديد أو لحظة فرح قادمة وفي صباح اليوم التالي عندما صحوت باكرا لأتفقد مزرعتنا الصغيرة الواقعة أسفل العين لأجلوا عن فدادين الخس والبصل والثوم والبطاطا التي زرعتها سواعد أبي بعض الحشرات الضارة ولأقيها شر الكلاب الضالة ثم أجلس لبعض الوقت تحت ظل شجرة المشمش الباسقة طلبا للسكينة والراحة أشم رائحة هواء نقية صافية لا شية فيها لمحت من بعيد شاب في الأربعين من عمره يسأل عن بيت الماحي قيل لنا آنذاك أنه سرعان ما أصبح زوجا لشقيقتها الكبرى حيزية وقبل أن أنادي خيرة ويقودني الفضول لأستفسر منها عن الرجل الغريب كان الرجل الأربعيني العمر امام بابهم الخشبي منتصبا بقامته الفارعة بينما والدها الماحي يقول له ” قرب ” .. وعبارة ” قرب ” تعني في قريتنا “مرحبا “لا أدري كيف وجدت نفسي غير مصدق لهذا الذي أسمع وأرى وأحاول التأكد مما سمعته ..كان صوت إحميدة العفريت يخترق طبلة أذني ورحت أتساءل ماذا لوخلت قريتنا في يوم ما من وجود إحميدة العفريت فيها ؟؟

كان إحميدة العفريت الذكر الوحيد الذي أنجبه والده الخوني من أم تونسية تعرف عليها عندما كان يريد قطع الحدود الجزائرية بحثا عن شقيقه الأكبر الذي إختفى في ظروف غامضة قيل له آنذاك أنه توجه لطلب العلم من جامع القيروان غير أنه عاد وليس معه سوى زوجته التونسية حاملا بذكر تمناه طويلا سماه إحميدةبإسم شقيقه الغائب الذي إندثر وأختفى أثره ..عاش إحميدة وحيدا لا أنيس له سوى والده وأمه العليلة وبندقية الصيد الذي كان يهواه كثيرا وعندما أسقط حامة بيضاء في يوم قائظ كان قد تعرض لعتاب شديد من أبويه والمحيطين به من أبناء عمومته قيل له أن الحمام لا يقتل وقاتل الحمام لا بد أنه إرتكب

جرما كبيرا فالعفاريت تسكن قلب الحمام ..أصيب على إثرها بمس في عقله قيل أن عفريتا سكنه فأمتنع عن ممارسة هوايته المفضلة وإنعزل في خلوة بعيدة عن الأنظار والفضوليين ..كان يقضي سحابة نهاره سارحا لاهيا في الفلوات البعيدة لا يكلم أحدا ولا يرغب في رؤية أحد حتى إذ ما حل المساء وأقبل المغيب عاد إلى البيت صامتا يريد قسطا من الراحة ..مات أبواه في يوم أسود حالك هبت فيه زنينة عن بكرة أبيها عندما جرف بيتهم المهترئ الواقع على سفح هضبة ترابية الوادي الذي يقع على أطراف القرية وجرف معهما نفر من النساء والرجال والأطفال وبعض الكلاب الضالة والمواشي والدحاج..كان يوما مشهودا فغر فاه الوادي معلنا عن ضمأه والشره الذي كان عليه …لم يتحمل إحميدة بقاءه وحيدا دون أن يرى والدته صباحا فيقبل رأسها باكيا أو يبتسم في وجه والده ثم يغادر إلى خلوته البعيدة فهام على وجهه بين المدن والقرى والسهول والهضاب والسواحل الغارقة في لهو القادمين إليها المستمتعين بأنوارها والضياء الذي يكسو رمالها الذهبية المبللة بحمم الأجساد الرخوة الملتهبة … كان يمثل دور ” سماع النداء ” قاطعا المسافات الطويلة لا أحد يراه أو يعلم إن كان حيا أو ميتا وعندما تقدم به العمر وبدأ يشعر بالتعب والإرهاق عاد إلى موطنه بحثا عن خلوته في أعماق البساتين الجرداء التي تركها وراءه منذ ثلاثين حولا خلت دون أن يقترب منها أحد وقد إتخذ منها مأواه والفردوس الذي لا بديل عنه كان يردد كلما لفحت وجهه شمس الظهيرة ” الفتنة نائمة لعن الله من أيقضها ” لم أستغرب أبدا ما كان يراه من تبدل للأحوال في قادم الأيام يوم ” يفر المرء من أخيه و أمه وأبيه وصاحبته وبنيه ” عندما إنقصل الجسد عن الروح وإقدم في ليلة شتاء باردة “رجال” ملثمون هم أشبه بالوحوش الضارية على حرق بيته المصنوع من القصب والطين الأحمر الذي يتخذ منه خلوة له إيمانا منهم بنوازعهم الشريرة … لم تمت حتما روح إحميدة العفريت مثلما

قال إمام قريتنا بعد دفن رفاته أو ما تبقى منها والصلاة عليه في مربع جبانة سيدي إمحمد بن صالح فهي لا زالت ترفرف في سماء قريتنا كم ذرفنا دموع الحسرة عليه لولا أن الطائر الذي تحسس دبيب غربته عندما كان سائحا قاطعا المسافات الطويلة بين البراري والأرياف قال أسكنوا صدر الحكاية و” ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون “.

السابق
مكّالة الهلال
التالي
أم

اترك تعليقاً