القصة القصيرة جدا

عُدوانٌ

في منتصفِ الطّريقِ التّرابيِّ بِعرضِ ستّةِ أمتارٍ وقفْنا متحيِّرينَ، على يمينِنا مصرفٌ صغيرٌ يحفُّ بَأرضٍ زراعيةٍ، تتراصّ فيها شتلاتُ الأرزِ المبثوثةُ، تتلألا سنابلها الذهبية تحت أشعة الشّمس وتتمايل يمنة ويسرة في دلال، وعلى الجانبِ الآخرِ يمتدُّ ريَّاحٌ كبيرٌ؛ تغتسلُ الشَّمسُ في مياهِهِ الصّافيةِ. وتنعكس عليها زرقة السّماء مشوبة بدكنة خفيفة من أثر قاعه الطّينيّ.
الفلاحُ الذي اشتريْنا مِنهُ الطُّعمَ؛ أشفق علينا من هجير أغسطس القائظ فنعتَ لنا صفصافةً وارفةَ الظِّلالِ؛ تُطلُّ على المصرفِ المجاور. أكدَّ أنَّ صيادًا رُزِقَ بِالأمسِ تحتَها خيرًا وفيرًا. أرحنا أقدامنا التي هدّها السير، افترشنا بقعة عريضة من الطين الصلب، وطّأتها قبلنا أيادٍ وأقدام عديدة حتى غدت بمثابة مِصطبة مُريحة لابن السبيل على الضِّفة الضيقة. أعددنا الصنانير وأنخناها إلى جانب المصرف، وجلسنا ننتظر مستمتعين بالخضرة والهواء النّدي.
كنَّا ثلاثةً شباب يافعين، وأرادَ غريبٌ رابعٌ أنْ ينضمَّ إليْنا؛ فأبى أشرسُنا إلا إبعاده؛ وألجأَهُ صاغِرًا إلى الوقوفِ بعيدًا عندَ طرف الريَّاحِ في الحَرِّ والماء الجاري، تغامزنا مسرورين حين سمعنا كلبًا ينبح عليه.
أفطرْنا بشهيّة غير عادية، رميْنا بقايَا الطَّعامِ في الماءِ، وانتظرْنا اجتماع جحافل السّمك عليه. بعد ساعة انتبهنا إلى أننا لم نصطدْ شيئًا يُذكرُ. حانَتْ مِنِّي التفاتةٌ إلى غريمنا المنبوذ؛ فإذا بِهِ واسعُ الرّزقِ لا تكاد صنارته تلامس الماء حتى تغمز، وما يرفعها إلا بسمكة كبيرة أو سمكتين. نظر بعضنا إلى بعض ثم لملمْنا حاجياتِنا بسرعة؛ وعدوْنا تجاهه.
طردناه بسهولة، أَعدْناهُ إلى المصرفِ الصّغيرعنوةً، واحتللْنا مكانَهُ الخصيبَ. تهيَّأْنا لِجمعِ الغنائمِ الوفيرة، لِعشرِ مراتٍ متتاليةٍ تغمِزُ صِنّارةُ صاحبِنا، فيشدُّها شدًا عنيفًا، ويُسقِطُ حمولتَها خلفنا في المصرفِ البعيد.
نفِدَ الطُّعمُ، نال منا التعب، آذانا الحَرّ اللافحُ والذباب المِلحاحُ، لم نغنمْ بعد ساعات طويلة سوَى بعضِ السّردينِ الشارد والسّمكِ الصغيرِ، بينما غريمُنا يواصلُ حصد الأسماك الكبيرة في الظِّلِّ بلا كلل ولا ملل.
بِالكادِ حجزنا صاحبَنا الغاضب عنه، ومنعناه من التحرّشِ بِهِ، وسلبِهِ كلَّ ما معه.

السابق
تَحَدّي
التالي
جـَدْيٌ

اترك تعليقاً