قراءات

قراءة نقدية في نص “عتب”

للكاتب مختار أمين

نص القصة على مجلة قصيرة من هنا

القراءة

ـ بجسارةٍ أحسد قلمي الجريء عليها أقترب من عالم (الأستاذ/ مختار أمين)، وهو من هو، ولما لا؟ والقصة القصيرة، وعنوانها أسال لعابي ومداد قلمي، نعم أعلم أن كتاباته لها عمق، وانزياحات عديدة، وتتحمل قراءات عديدة، فإن استطعت تفكيك القصة، وتبيان مواطن القوة والبلاغة، وراقت للقاريء، نلت الأجرين.. وإن كان خلاف ذلك فيكفيني شرف المحاولة.
ـ بداية من عنوان القصة (عتب) عنوان يشد القاريء ويثير بداخله عدة أسئلة رغم أنه جاء (مبهمًا.. صامتاً.. كتوماً.. نكرةً.. محيراً) أي عتب؟ ولما لم يكن (عتاب/ العتب)؟.
من يعتب على من؟
لذا قدّمه “الكاتب” ليكون محفزا للمتلقي للقراءة، أو فاتح شهية، وعند استيعاب مغزاه سيصبح علامة ثابتة في الذاكرة.
ـ يبدأ “الكاتب” استهلال القص بجمل توكيد (تأكيد) وكأنه يريد منذ الحرف الأول أن يؤكد أنه ينقل حقيقة واقعة بالفعل …

(ﻫﺎ ﺃﻧﺎ.. ﻣﺎ ﺯﻟﺖُ ﺃﺟﻠﺲ ﻫﻨﺎ.. ﻋﻨﺪ ﺭﺻﻴﻒ ﺍﻟﺨسة ﻭﺍﻟﺨﻴﺒﺔ ﻭﺍﻟﺮﺟﺎﺀ.) .

ـ من تلك التي تجلس على رصيف الخسة والخيبة والرجاء؟
وهل تتفق الخسة و الخيبة.. مع الرجاء؟
فنتأكد أن هذا توصيف وصفة لحال الأرصفة في كل الأزمان والبلدان …
من بعد هذا الاستهلال يدخل بنا “الكاتب” إلى عالمه بمقطع يمثل البداية للقصة القصيرة بطريقة الساحرة، وأسلوبه الفخيم في اختيار الجمل اللغوية الرصينة، ووجب التنويه بأن “الكاتب” في كل كتاباته حريص على الإمساك بسر الكتابة بين أنيابه حتى تجد أيها المتلقي لكشف أغوارها …

(ﻃﻔﻠﺔ ﺷﺎﺭﺩﺓ.. ﺗﻨﻬﻤﺮ ﺍﻟﺪﻣﻮﻉ ﻣﻦ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ ﻓﻲ ﺟﺤﻮﻅ ﺍﻟﻤﺤﺮﻭﻡ ﺗﺰﻏﺮﺩ.. ﺗﺒﺮﻕ.. ﺗﺘﺠﻤﺪ ﻓﻲ ﺷﺮﻳﺎﻧﻲ، ﺗﻌﻮﺩ ﻟﺘﺮﺳﻢ ﺑﺴﻤﺔ ﺑﻠﻬﺎﺀ.. ﻣﺎﺯﻟﺖ ﺃﻗﺼﺪ ﺳﻤﺎﺣﺔ ﺍﻟﻌﺎﺑﺮﻳﻦ.. ﺃﻗﻀﻢ ﻣﻦ ﺃﻳﺪﻳﻬﻢ ﺍﻟﻤﻐﻠﻮﻟﺔ ﺟﺰﺀاً ﻣﻦ ﺣﻨﺎﻥ.. ﺃﺳﺘﺪﺭ ﻣﻨﻬﻢ ﻋﻄفاً ﻣﻜﺴﻮﺭ ﺍﻟﺒﺴﻤﺔ ﻣﻌﻮﺝ ﺍﻟﺸﻔﺔ.. ﻃﻮﺭﻧﻲ ﺍﻟﻤﻄﻮﺭ، ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﺳﻜﺐ ﻋﻠﻰ ﺟﺴﺪﻱ ﺳﺤﺮ ﺍﻟﻨﻤﺎﺀ، ﻭأصبحت ﺃﻧﺜﻰ ﺗﺼﻠﺢ ﻟﻜﻞ ﺍﻟﺮﺟﺎﻝ ﺍﻟﻌﺎﺑﺜﻴﻦ، ﻭﻛﻞ ﺍﻟﻐﻠﻤﺎﻥ ﺍﻟﻨﺎﺋﻤﻴﻦ ﺑﺠﻮﺍﺭﻱ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﺲ ﺍﻟﺮﺻﻴﻒ.. ﻛﻠﻨﺎ ﺑﺄﻃﻔﺎﻟﻨﺎ ﻧﻠﻬﻮ ﺗﺤﺖ ﺳﺘﺮ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜوﺒﺮﻱ ﺍﻟﻌﺘﻴﻖ ﻻ ﺃﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﻳﺮﺍﻧﺎ.. ﺑﺄﻃﻔﺎﻝ ﺍﻟﻤﺘﻌﺔ ﻭﺍﻟﺨﺪﺭ ﻭﺍﻟﺸﻘﺎﺀ ﻭﺍﻟﺘﻌﺐ، ﻧﻨﺠﺐ ﺃﻧﻔﺴﻨﺎ ﺑﺄﻧﻔﺴﻨﺎ ﻣﻊ ﺃﻭﻝ ﻃﻠﻘﺔ ﺑﻠﻮﻍ ﻧﺤﻤﻞ ﻭﻧﻨﺠﺐ ﻭﻧﺘﻜﺎﺛﺮ.. ﺍﺑﻨﺘﻲ ﺗﺸﺒﻬﻨﻲ ﻛﺜﻴﺮﺍ، ﻭﻻ ﺗﺸﺒﻪ ﺃﺣﺪﺍ ﻣﻦ آﺑﺎﺋﻬﺎ.. ﺷﻌﺮﻫﺎ ﺍﻟﺬﻫﺒﻲ ﺍﻷﺷﻌﺚ ﺑﺎﻟﻔﻄﺮﺓ، ﻭﻋﻴﻨﺎﻫﺎ ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺘﺎﻥ ﺑﺴﻮﺍﺩ ﺃﻟﻖ ﻏﺮﻳﺐ ﻳﻘﻮّﻡ ﺣﺮﻣﺎناً ﺑﺤﺮﻭﻑ ﻣﻜﺴﻮﺭﺓ ﻳﺤﺒﻮ ﻋﻠﻰ ﻣﻘﻠﺘﻴﻬﺎ ﻳﺘﻬﺠﻰ ﺍﻟﺴﻄﻮﻉ، ﻭﻭﺟﻨﺘﺎﻥ ﺑﻴﻀﺎﻭاﻥ ﺗﺠﻠﻠﻬﻤﺎ ﺣﻤﺮﺓ ﺗﺸﺒﻪ ﺍﻟﺘﺮﻑ، ﺭﺑﻤﺎ ﻏﻠﻴﺎﻥ ﺍﻟﺤﺎﺟﺔ ﻳﺸﺐّ ﻃﻮﺭﻩ ﻓﻲ ﺟﺴﺪﻫﺎ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮ.. ﺗﺴﺘﻔﺰﻧﻲ .. ﻗﻠﻴﻼ ﻣﺎ ﺗﺒﻜﻲ، ﺩﺍﺋﻤﺎ ﺑﺎﺳﻤﺔ.. ﻋﺠﺒﺎ.
ﺍﻟﺠﻨﺲ ﻭﺍﻟﻤﺨﺪﺭﺍﺕ ﻋﺎﺩﺓ ﻳﻮﻣﻴﺔ ﻓﻲ ﺷﺮﻋﻨﺎ.. ﻳﺤﻠﻮ ﺗﺠﺮﻋﻬﻤﺎ ﻗﺒﻴﻞ ﺍﻟﻔﺠﺮ ﻟﻴﺠﺬﺑﺎ ﺍﻟﻨﻮﻡ ﺍﻟﻠﺬﻳﺬ.. ﻻ ﻧﺼﻮﻡ ﻋﻨﻬﻤﺎ ﻳﻮﻣﺎ ﻭﺍﺣﺪﺍ ﻏﻴﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺎﺩﺭ ﺍﻟﻘﻠﻴﻞ ﺣﺘﻰ ﻭﻟﻮ ﺃﺻﺎﺏ ﺃﺣﺪﻧﺎ ﺍﻟﻤﺮﺽ.) .

ـ أتوقف كثيرا أمام هذا المقطع من ثلاث زوايا:
* التركيب اللغوي (المفردات) …
طفلة شاردة/ تنهمر الدموع/ جحوظ المحروم / تزغرد /تبرق/ تتجمد/ بسمة بلهاء /سماحة العابرين/ أقضم/ مغلولة/ مكسور البسمة/ معوج الشفه/ طورني الله/ سكب/ سحر النماء/ لكل الرجال العابثين/ الغلمان النائمين/ كلنا نلهو بأطفالنا/ تحت ستر الكوبري العتيق/ أطفال المتعة والخدر والشقاء/ ننجب أنفسنا بأنفسنا/ نحمل ونتكاثر /ابنتي تشبهني ولا تشبه أحداً من آبائها/ شعرها الذهبي/ الأشعث بالفطرة/ سواد يقوّم بحروف مكسورة/ يحبو على مقلتيها/ يتهجي السطوع/ حمرة تشبه الترف/ غليان الحاجة يشبّ طوره …
نلاحظ أن “الكاتب” يدقق في كل مفردة يأتي بها بعناية فائقة.. يتفرد بها، وتميزه عن غيره، ويكاد يختص بها.
* السرد الدرامي (التنامي)..
نكتشف أن البناء الدرامي عند “الكاتب” يأتي كما (البناء) يضع اللبنة بجوار أختها .. مدماكاً فوق مدماك، فيعلو البناء شيئاً فشيئاً، فنراه متماسكا قوياً، وكلما يعلو “الكاتب” نستطيع أن نرى ونحس بالفكرة، وحلاوة القص.
* المغزى (الهدف) …
طفلة تبيت في الشارع (متشردة) وللشارع قوانينه المتحكمة في أولاده بلا إرادة منهم الدموع/ النوم تحت الكباري/ جحوظ كل العيون فيهم/ البله/ اليد المغلولة/ المتعة الحرام .. هذه الطفلة طورها الخالق ـ حملت ـ أنجبت ابنة تشبهها، ولا تشبه أحداً من آبائها، وهذه دلالات قاطعة لدنيا التشرد في الشوارع.
ـ ثم نأتي للمقطع الثاني في القصة القصيرة، والذي يحدد ذروة القصة، والنقطة التنويرية التي يريد “الكاتب” يرصدها، ويرسلها للمتلقيين …

(ﺯﻭﺟﻲ ﺍﻟﺼﺪﻳﻖ ﺃﻗﺮﺏ ﺃﺯﻭﺍﺟﻲ ﺇﻟﻰ ﻗﻠﺒﻲ ﻭﺃﻛﺒﺮﻫﻢ ﺳﻨّﺎ ﻳﻔﻜﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﻜﺮﺓ ﻧﻔﺴﻬﺎ.. ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺿﺮﺏ ﺭﺃﺳﻴﻨﺎ ﺍﻟﺨﻤﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﺳﺮﻗﻨﺎﻩ ﻣﻦ ﺗﺎﺑﻠﻮﻩ ﺍﻟﺴﻴﺎﺭﺓ ﺍﻟﻔﺎﺭﻫﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ.
ﻛﻨﺖ ﺃﺿﺤﻚ ﻣﻞﺀ ﺻﺪﺭﻱ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻜوﺮﻧﻴﺶ، ﻭﺗﺮﻛﺖ ﺷﻌﺮﻱ ﺍﻟﺬﻫﺒﻲ ﻟﻠﻬﻮﺍﺀ، ﻭﺯﻭﺟﻲ ﺍﻟﻤﺨﻤﻮﺭ ﻳﻄﻴﺮ ﺑﺎﻟﺴﻴﺎﺭﺓ ﺑﻨﺎ ﻭاﺑﻨﺘﻲ ﺗﺸﺎﻫﺪ ﺍﻟﻌﻤﺎﺋﺮ ﺍﻟﻌﺎﻟﻴﺔ ﻭﺍﻷﺷﺠﺎﺭ ﺗﺘﻼﺣﻢ ﻣﻦ ﻧﺎﻓﺬﺓ ﺍﻟﺴﻴﺎﺭﺓ ﻭﻫﻲ ﻓﻲ ﺷﺮﻭﺩ ﺑﺴﻤﺔ ﺍﻟﻜﺒﺎﺭ.. ﻛﻨﺎ ﻗﺪ ﺍﺗﻔﻘﻨﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻬﺪﻑ؛ ﺃﻥ ﻧﻘﺬﻑ ﺑﺄﻧﻔﺴﻨﺎ ﻣﻦ ﻓﻮﻕ ﺍﻟﻜوﺒﺮﻱ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﻴﻞ، ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺭﺓ ﻓﻲ ﺁﺧﺮ ﺳﺮﻋﺘﻬﺎ، ﺃﻭ ﻧﻌﺒﺮ ﺑﻬﺎ ﺣﺪﻭﺩ ﻟﻴﺒﻴﺎ ﻭﻧﺒﻴﻌﻬﺎ ﺑﻨﺼﻒ ﺍﻟﺜﻤﻦ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﺪﻭﺩ.) .

ـ ها هو “الكاتب” يطور السرد القصصي في تنامي طبيعي، ويصل بنا المضمون مستخدماً أسلوبه المتميز الذي نلمسه بأيدينا، ونحسه بعقولنا دونما أن يخدش الحياء .. زوجي صديقي/ أكبرهم سنا/ يفكر في نفس الفكرة/ بعدما احتسينا الخمر من تابلوه السيارة الفارهة التي سرقناها/ لنعيش حياة البشر الطبيعين/ ونطير في دنياهم ونمرح/ نصطحب ابنتي/ ولا يهم لما يحدث من بعد هذا.. نقذف بأنفسنا من فوق كوبري على النيل أو نبيعها بنصف الثمن على الحدود.
وهنا لنا وقفة أمام هذه الصرخة المدوية التي يطلقها “الكاتب” ببراعة.. في بلد لا تهتم بأبنائها (المهمشين) يحق لهم اقتراف كل الموبقات بلا تورع ولا أدنى وزر عليهم في الحياة الدنيا.

ـ ثم يأتي “الكاتب” القدير بخاتمة ولا أفضل …
(ﻫﺎ ﺃﻧﺎ ﺃﺭﺍﻫﺎ.. ﺑﻤﺨﻴﻠﺔ ﺭﺃﺳﻲ ﻭﺃﻧﺎ ﻧﺎﺋﻤﺔ ﻋﻠﻰ ﺳﺮﻳﺮ ﺍﻟﻤﺸﻔﻰ ﻣﺒﺘﻮﺭﺓ ﺍﻟﺴﺎﻕ ﻋﻤﻴﺎﺀ، ﻭﺯﻭﺟﻲ ﻟﻘﻰ ﺣتفه.
ﻭﻛﻞ ﺍﻟﻌﺎﺑﺮﻳﻦ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﻔﻮﺓ ﻳﺮﻛﻠﻮﻫﺎ ﺑﻨﻈﺮﺍﺕ ﺗﻤﺜﻞ ﺍﻟﺮﺣﻤﺔ، ﻭﺗﺘﺮﻛﻬﺎ ﻭﺗﻌﺒﺮ ﻗﺒﻞ ﻧﺎﻇﺮﻫﺎ، ﺣﻴﺚ ﺗﺄﺗﻲ ﺁﻻﻑ ﺍﻟﻠﻴﺎﻟﻲ، ﻭﻣﺌﺎﺕ ﺳﻴﺎﻁ ﺍﻟﺨﺪﺭ ﻭﺍﻟﺘﻴﻪ، ﻭﺗﻨﺠﺐ ﺍﻷﻭﻻﺩ ﺃﻭﻻﺩاً يملؤون ﺍﻟﺸﻮﺍﺭﻉ ﻓﻲ ﻟﻴﻞٍ ﻳﺨﻴّﻢ ﺑﻬﻴﻴﻴﻴﻴﻢ.).

وماذا كنا ننتظر لمثل هذه الحياة في غيبة المجتمع الإنساني الذي فقد إنسانيته، وتعاليم أديانه السماوية غير العمى، والبتر، والركل، والضرب بالسياط، والتيه.
ولعل تكون وصلت الصرخة إلى الأذان الصماء، والقلوب التي ماتت في الصدور.
وفي النهاية لا أملك إلا أن أشد على يد أخي الأديب/ مختار أمين .. داعياً له الله بالتوفيق والتقدم .
والله ولي التوفيق

السابق
خائن
التالي
جاذبية متولي

اترك تعليقاً