القصة القصيرة

قصة كاتب

التقيا على طاولة واحدة في مطعم للعشاء، كمال وزميل دراسته حميد، قد مضى وقت طويل على تخرجهما من الجامعة، حيث جمعتهما نفس الكلية ونفس التخصص.
كمال كاتب مفعم بالمثاليات، تطبع أحرفه القيم والأخلاق، بنى لنفسه عالما خاصا به، لطالما كان يحلّق مع المعاني والفضائل، في الحقيقة هو كاتب محترف أيضا، يعرف كيف يوصل رسالته لقرائه بطريقة سلسة وواضحة، قد أنشأ رابطة روحية معهم.
أمّا حميد فبمجرد تخرجه اشتغل في الصحافة، ذو قلم لاذع؛ ينتقد، يهمز، يلمز، يسيء إلى الأشخاص في أحيان كثيرة، شخصيته القوية تدفعه للمغامرة وخوض المعارك.
كمال مخاطبا حميد: _ ما بالك تغيرت كثيرا يا زميلي، أراك تشطط عن خطك الذي عهدتك عليه.
_ بل أنت الغارق في أحلامه وأوهامه، قد تغيرت الدنيا كثيرا يا صاحبي.
طعنة خنجر تلك التي تعرض لها كمال، لم يتوقع منه هذه الوقاحة معه بالذات، قد أهان كرامته التي طالما صانها واعتز بها، حدّ بصره في حميد والشّرر يتطاير من عينيه ثم قال: _ لم أقصد أن أهينك بكلامي، لكن ما دمت فتحت عليّ النار ودون سابق إنذار، أعتذر لك بشدة عن لقائنا هذا، سيأتي اليوم الذي تندم فيه وستتذكر كلامي جيدا.
_ حسبك، حسبك أيها الواعظ الملهم، كان الأجدر بك أن تحتفظ بكلامك لنفسك، لن أترك نفسي أموت جوعا من أجل مبادئ بالية، لم يعد يؤمن بها أحد.
_ آه، فهمت الآن، أنت مجرد قلم مأجور لا غير إذا، قد غيرك الزمان حقا، هذا آخر عهدي بك إن لم تعد إلى رشدك.
رما كمال بالمنديل الذي كان بيده وغادر المكان على الفور، بمجرد وصول النّادل اعترته الدهشة من هول ما رأى، لم يكن خافيا عليه أنهما شخصيتان معروفتان، قد تأكد أن خطبا ما حلّ بينهما.
التفت إليه حميد، وقال له: _ لا داعي لجلب الطعام، سأدفع الحساب حينًا، يبدو أني غير موفق تماما في يومي هذا، كم كنت أتمنى لو أني لم أقابله طوال حياتي.
وهو في سيارته عائد إلى بيته، بدأ حميد يسترجع مشاهد لقائه السّاخن، فجأة أحس بحزن شديد يتملك جسده و العبرة تخنقه، تذكر أجمل ذكرياته بالجامعة أين كان الأول على دفعته بذكائه الحاد وذهنه الوقّاد، لطالما كان هدفه أن يصبح كاتبا مشهورا يحترمه كل الناس، كم تاق لأن يجعل قلمه في خدمة المظلومين والبائسين، كي يخفّف قليلا من آلامهم ويعيد البسمة على شفاههم، لكنه تنازل، وما زال يقدم التنازل تلو التنازل، بمجرد ما عرضت عليه حفنة من النقود.
دخل كمال بيته الصغير، وقلبه يعتصر كمدًا من وقع الكلمات تلك، وفجأة هاتف المنزل يرن:
_ السلام عليكم، من معي؟
_ أنا حميد، أعتذر لك عن ما بدر مني، أود..
_ لا بأس لا بأس، لم أكن أتمنى أن يحدث ما حدث بيننا.
_ أستسمحك في أن نجدّد اللقاء غدا بنفس المكان.
يصمت كمال لبرهة ثم يرد:_ ليكن ذلك.
كانت الكلمات مقتضبة بينهما، لم يرغب أي منهما الاسترسال، أحيانا الصمت يكون أبلغ وسيلة للتعبير، اعترت حميد رغبة جامحة في تجديد اللقاء، لم يعد قادرا على الصبر أكثر، قد تعمّد مكالمته من هاتف عمومي، خشية أن يتعرف على رقمه فلا يجيبه، وحينئذ يكون كل شيء قد انتهى.
عانى حميد كثيرا في حياته، واجه ظروفا قاسية جدا رفقة عائلته، فوالده توفاه الله، وبقي إخوته الستة الصغار دون معيل، أما أمه المريضة مرضا مزمنا، فتقتات من الخياطة لبعض الجيران والأقارب، تَحمّل المسؤولية بثقلها وهو في ريعان شبابه، لم يكن مستعدا لذلك، فرضت عليه ضغوط لم يقوى على مقارعتها، قد كانت له آمال وأحلام تُجاوز الحدود.
قرّر الآن أن يتصالح مع نفسه، أن يبوح بأسراره لصديقه، أن ينفس عن مكبوتاته التي خنقت روحه، صفحة بيضاء ناصعة تلك التي يود فتحها من جديد، كان صديقه كمال بمثابة طوق النجاة بالنسبة له، لم يساوره شك في عدم تخليه عنه يوما، ثقته المعقودة عليه كانت كبيرة جدا، تمنى لو يأخذ بيده مرة أخرى كي يلج شاطئ النجاة، إنه وبحق الإخلاص دون أية قيود أو شروط، إن جمع بين شخصين، نتاجه لن يكون إلا نورا يضيء ظلمة قلب يتألّم.

السابق
أفق
التالي
كان الثمن غاليا

اترك تعليقاً