القصة القصيرة

قنِّينَة غاز

أحسَّ بشعاعِ الشمس يتسلّلُ بين أشْفَارِ عينيه،فسَرَت في جِسمِه قُشعريرةٌ لَمْ يسْكُنْ دبِيبُ نمْلِها إلا تحت ماءِ مسكةِ الدُّوشِ الدافئ(رَشّاش الماء).حقّاً كانت ساعةً مُمَيَّزَةً ألقَى فيها بكُلِّ أوزارِ حُلمِهِ المزعِج الذي استحالَ كابوساً كادَ يفجّرُ قفَصَ صدرٍ عشّشَت فيهِ غِرْبانُ شُؤْمِ ليلِهِ الثّقيل،ولولا إحساسه ببرودة الماء بعد فترة دِفْءٍ، لما طابَ له أن يبرَحَ مكانه،ليبدأَ تفاصيلَ يوْمٍ لا يعرِفُ مِنْ أوصَافِه غير خَمِيسِ الاسمِ و حرارة شمسِ الضحى التي تحَسّسَتْهَا أهدابُ العين في مغازَلتِها لِسَهم الشعاعِ المتسلّل.
بدا له لحظة تأمله في تجاعيد وجه”السّالكة”،وهي في غمرة نومها العميق،أن يُخلِّصَ السّريرَ من ثقْلِ وزنها الزائدِ ولو لِساعَة،فيأمرَها بالهَرَعِ لإعداد الفطور،لكنّه أدرَكَ عدَمَ جدوى حركتها وخطواتها المتثاقلة في نجدتِهِ قبلَ موعِدِ لقاءِ رفيقهِ “حَمَّان” على جانِبِ البحر،ثُمّ إنّ نفاذ ذخيرة مَطْبَخِهِمَا لا يترُكُ من جَدْوَى في إيقافِ رعداتِ شخيرِ زوجتِه البَدِنَة.أوقَف سَيْلَ الأفكارِ الذي أعوزَهُ عن الحركةِ،وعادَ ليرفعَ قصبة صنارته فوق كتفه ويَهُمَّ بالانصراف،إلا أنه ما كاد يغلق باب المنزل من الخارج حتى تناهى إليه من أعلى الدُّرْجِ صوتُ حنجُرةٍ متْخَمةٍ بالنُّعَاسِ يستبطِئُه،فتسمّر في مكانه لحينها.
-السَّالْكَة..ما بالك،ألمْ تكُونِي نائمة!؟ -قنِّينة الغاز يا عزيزي..إنها.. فارغة.
-وجَيْبِي كذلك يا عزيزتي..فارغ.
-“بُوجْمْعَة” لن يُلْزِمَكَ ثَمَنَها اليوم،أرجوك فأنا لَمْ أستحِمّ بعد،ثمّ إني سأحتاجها لِقَلْيِ السّمكِ الذي سوف تجلبه معك من البحر،لكن لا تنسَ الزيت يا حبيبي،فلم يبقَ منه إلا قطرات.
-(هزَّ رأسَه موافقا)إلَيَّ بِقنِّينة الغازالفارغة..أمرِي لله.
قبل أن يُلقيَ بخيط صنارته في البحر،جلس يرتاح قليلا،فقد جرى مسافة ما بينَ مسكنه ومكان الصيد حتى يصل في الموعد بعدما أخذ منه استعطافُ بوجمعة صاحب الدّكان وقتا طويلا،ليَلِينَ بعدها قلبُ هذا البائعِ ويقضيَ للزبون حاجته من الزيت والغاز.المهم أن حمّان لم يسبقه للموضِع الذي يفضله لِرمْيِ السنارة دائما،وأمامه لحظات ليلتقطَ أنفاسَه ويُعِدَّ الطّعمةَ الخادعةَ للسمك.
مَضى وقتٌ طويل وصديقه لم يظهر،فتوكّل على الله وأخذ مكانه بجانِب البحر،ثم رمى بِجَالِبَةِ حَظِّهِ وصار ينتظر ما قد تتكرَّمُ عليه به أعماق هذا الكون العظيم.فجأة أحس بحركة غريبة تبدو قوتُها أكبر من شدّة إمساكه بالقصبة،بل تخيَّلَ نفسَه وكأنه يحاول إخراج السَّالْكَة غارقةً في قاعِ البحر.ضاعف قوة الشدّ وصار يجلب الخيط شيئا فشيئا،حتى تمكّنَ بعدَ عناءٍ من تحقيق المُراد.سمكةٌ بهذا الحجم،إنه لَشَيْءٌ يستحِق بأن يُلاقيَ المرءُ العناءَ في سبيلِه حقّاً،قالها الصيّادُ في نفسه فرحا،ثم أخذ نَفَساً عميقا،وانحنى إلى الأرض يجمع أغراضه حتى يعودَ لزوجته بهذا الصيدِ الجزل،ويذهبَ بعدها لزيارة صديقه الفريد حمّان الذي أخلف الموعِدَ،فلا بُدَّ أن لديه سببا جعل صاحِبَنا يبقى مُشَوّشَ البال عليه،وما حسِبَه إلا بأساً ألَمَّ به،مما أضطرّهُ للعودة سريعا حتى يطمئنَّ على حال صديقه،كما خُيِّلَ إليه أنه قد سمع صوت زوجته السالكة تناديه،فهرَعَ إلى تلبية النداء.
الحي كله في حالة استنفارٍ،والوجوه تحدِّقُ بالصياد،ولا أحد من معارفه يكلِّمه.سأل نفسه:ما بالهم ينظرون إلَيّ هكذا!؟ فرفع رأسه ليتبَيَّن حَدَّ ظهرِ السمكة مِنْ عَلَا كتفِه،ثمّ عاد ليجيب عن السؤال قائلا: طبعاً،لا غرابة في أن أُحْسَدَ على صيدي الثمين،لأسرِعْ إذاًإلى بيتي قبل أن يسلُبوني ما قد أنعم الله عليَّ به،أو يُذِيبُوه بأعيُنِهم.
وما إن دخل الزقاق المؤدي إلى منزله،حتى تراءت إلى عينيه أعمدة الدخان تنبعث من سطح المنزل ونوافذه،والناس يحلّقون به من كل جانب في صراخ وعويل،سمع بعضهم يقول:”إنها قنينة الغاز،لقد أحرقت بيت الصياد بما فيه”.لم يدرِ كيف انزلقت السمكة من فوقه وانزاح ثقلها على كتفه،وصار يتسلل بين الصفوف المُتراصَّة،حتى وصل عتبةَ البيتِ،فوجد عليها رجلين يحملان جثة الضحية مغطاة بثوب أبيض.لم يتمالك نفسَه،فصرخ في وجهِهِما بصوت مفجوع من حَلْقٍ يُمَزِّقُ أوتارَه الحزن:
-السَّالْكَة..زوجتي..إلى أين تأخُذانِها؟
-(أحدُ الرجلين)اطمَئِن يا سيدي،زوجتك لازالت على قيد الحياة، وقد تم نقلها إلى المستشفى.
-(الرجل الثاني)لكن هذا الرجل حان أجله..إنا لله وإنا إليه راجعون.
-(ينظر إليهما مشدوها)كيف،عن أي رجل تتحدثان!؟
انحنى قليلا،ثمّ مدَّ يَدَه ليكشف وجه الضحية ويتبين المقصود من كلامهما،ويا ليته ما فعل.لقد كان هَوْلُ الصَّدْمة أعظم،وموتُ الزوجة أهْوَن عنده من رُؤية وجهِ الصديق الخائن الذي دخَل بيته خِلسَة يخرجُ منهُ محروقاً تحت ستْرَةِالثوب الأبيض.لمْ يَقْوَ على تحمُّلِ الموقف،فسقط على الأرض مُغمى عليه..بعد لحظات يستفيق من فوق سريره على صوت زوجته السالكة تناديه قائلة:
-حبيبي انهض
-قنِّينة الغاز يا عزيزي..إنها فارغة.
..لقد كان حلما مزعجا وكابوسا مرعبا حقّاً.

السابق
وزنه بين إخمته
التالي
أبو حسن

اترك تعليقاً