القصة القصيرة

لو ترك لنام

في الساحة المدورة حديقة صغيرة .. مسيجة بسياج حديدي , يلمع تحت أشعة الشمس الشتوية الدافئة .. يدور فيها الياس ضجرا يائسا .. كسجين سجن ظلما وجورا بجرم لم يرتكبه , حول دائرة من ورود الياسمين .
تطل على الساحة فوهات مستطيلة , مكتوب عليها نوع الموت المجاني الذي تقدمه . صمت يخيم على المكان .. أناس يدخلون تلك الفوهات وآخرين يخرجون منها . مجموعات ووحدانا .. يحملون أكياسا فيها أطعمة وبعضهم يحمل أفرشة .. يكسر الصمت أحيانا صرخات تتعالى عندما تتقيأ إحدى الفوهات أحدا ما ..
يجلس على أحدى المساطب بمواجهة الشمس .. يتأمل هذا المشهد يوميا ً .. يلتهم سيجارته .. يتشمس بمقدار الوقت الذي يستغرقه التهامها .. ينفث الدخان إلى الأسفل .. يضرب السيجارة بسباته.. يتابع سقوط رمادها إلى الأرض ..
تخترق الدخان المنبعث من فمه ومنخريه , أحذية تصدر أصوات , وأخرى صامته .. تنتصب عليها سيقان .. يشد بعضها انتباهه .. يتابعها بعينيه الحزينتين اللتين تلمعان لبضع ثواني , حتى تدخل السيقان إحدى الفوهات .. تعود عيناه مثقلتين بحزن اكبر من الذي ذهبتا به .. مشوبا بالرغبة ..
عربات صغيرة وسديات تذهب وتجيء , تحمل جثثا لم تقبر بعد .. يدفعها موتى يظنون أنفسهم أحياء ..
_ الياس لونه يختلف عن اللون الأخضر في الحديقة العامة ..
_ ورود الياسمين مختلفة ..
_ كما الفرق بين الناس خارج المستشفى والراقدين فيه ..
يرقد بجانب الشباك الوحيد في الردهة رجل متوسط العمر ضخم الهيئة , يقضي معظم الوقت جالسا .. أنبوب بلاستيكي يخرج من صدره .. تجري فيه سوائل صفراء , تصب في إناء بلاستيكي مغلق من الأعلى بإحكام .. خلفه مجموعة من الوسائد , تساعده على الاتكاء إذا تعب من الجلوس ..
الراقد على السرير قرب الباب شاب في مقتبل العمر .. نحيف الجسم طويل القامة .. رجله اليمنى مجبسة .. تظهر من الجبس أطراف أصابعه وقد بدت سوداء . تثير قلق والده الجالس في الساحة المدورة .. يدعس سجارة بحذائه .. كأنه يحملها التسبب بحادث ولده .
يسترق السمع لأحاديث زوار المريض الراقد عند الشباك .. يعرف من خلالها أسمائهم التي تدل على أنهم من طائفة أخرى .. يطمئنون على ولده عند دخولهم, قبل الذهاب لمريضهم .. يبتسمون في وجهه ابتسامة يشعر أنها صادقة ..
_ لن تبتر ساقه بإذن الله ..
مريضهم يهمس لهم بشيء ما , كلما دخلوا عليه ومعهم ضيوف جدد .. يطعمونه وولده بشيء مما جلبوه من الطعام ..
يهمس أيضا لضيوفه القادمين إن جارهم في الردهة من طائفة أخرى .. يزدادون تخلقا وحرصا على الاطمئنان عليه وملاطفته .. التأكيد له بأن مرضه بسيط ..
_ستغادر المستشفى .. سيتوقف السائل عن التدفق ..
يدخن سيجارة ما بعد الظهر في الساحة المدورة .. لم يعد كل شيء رتيبا كما في الصباح .. أناس يركضون.. سديات مسرعة تروح وتجيء محملة بأشلاء ممزقة .. صامته .. تصيح .. تئن .. مع لهاث ذويهم ولهاث الكوادر الطبية .. يحاول التمييز بين أعراق الأشلاء , دياناتهم , طوائفهم .. لا يستطع التمييز ..
_ من يفجرهم ؟
يهرب من الساحة بعد أن يسحب نفسا عميقا من سجارته .. لم تعد شهيته مفتوحة على (تغميسها) بالسيقان الرائحة والغادية .. لاحقته التفجيرات حتى على سلب هذه اللحظات التي يوهم نفسه فيها انه مازال حيا .. لا يجد ولده في الردهة ..
_ في المرحاض ..
_ ذهب ولدي لمناداتك كي تقوم بتنظيفه ..
_ إن كنا متحابين ومتعاونين لهذه الدرجة فمن فرقنا ؟ ( قال في سره )
ينام المريضين الشاب عند الباب والآخر عند الشباك .. يتجاذب مرافقيهما في الردهة أطراف الحديث أثناء ذلك , حول مواضيع مختلفة.. يتفقان في الرأي على كثير منها .. يسامح احدهما الآخر على اختلافه , بكل محبة ووداد ..
يستيقظان من النوم على أنين نزيل جديد في الردهة .. يفردا له احد السريرين .. يجلسان على سرير واحد , يتابعان محاولة الكادر الطبي البحث عن وقت إضافي له في الحياة ..
_ شاب مقطع الأوصال , أثر عبوة عاهرة ..
يتبرعان له بالدم .. يسهران الليل بطوله على راحته والدعاء له .. دون أن يعرفا دينه انتماءه .. شمسه تغيب عند بزوغ الشمس .. يبكيانه بحرارة .. ينفث دخان سجارته في الحديقة المدورة ..
_ لو ترك الموت لنام ..

السابق
انقلاب
التالي
حقد

اترك تعليقاً