القصة القصيرة

لَعنةُ التِّرحالِ

الذّاتُ…
هٰكذا .. اِسْتَلقَيْتَ، وَ تمطَّيْتَ كَثيرًا، جِئْتَ َمُتعـَــبًا، بينَ فَكّيَّكَ تَحيّاتٍ مُمَزّقةٍ،
وَ لا شَيءَ سِوَى جِدرانٍ مُهملةٍ كَشَّرَتْ بِوَجنتيكَ المُتصدّعتينِ، وَ مَعَ الأحلامِ هامَتْ نفسُكَ، تَداخلَتْ بَينَ طَيّاتِها آهاتٌ
وَ لهاثٌ دَفينٌ.
تُتابعُ التَعــبَ إذْ يَهبِطُ رُويدًا.. رُويدًا…
أيُّ المَسافاتِ أنهيْتَ؟
أيُّ الدروبِ مَشيتَ؟ ما عادَ ذاكَ الصَّفاءِ.. وَ ما حَلَىٰ شَرابُ الحَياةِ بعدَ ذَيَّاكَ الإناءِ! َتمدّدْ إذًا؛ لَو أَنَّ الكِلابَ هُنا.. لِتشمّمَتْ رائحةً تَضوّعَتْ مِنكَ بِسرعةٍ، وَ لِاقتَفَتْ أثرَكَ…
تَمدّدْ.. اِتركْ يَدَكَ تَتحسَّسُ ما تَحتَ الملابسِ، اِسرِعْ بِها نَحوَ القلبِ، فَلَهُ مِنَ الهمُومِ ما يَكفِي طيُورًا كَي تبدوَ كَئِيبةً، أو بُومًا يُخِيفُ مَنْ يَنظرُ إليهِ!
وَ هُناكَ.. حَيثُ هُوَ يَخفقُ بهدوءٍ وَ اطمِئنانٍ، يَقصُّ لَكَ حِكاياتٍ أَلِفتَهـا، تنســـلُّ بِحذرٍ مِن خِلالِ صَدرِكَ، تَتسامَى.. تَتموَّجُ، وَ ترتّلُ برتابةٍ كلماتِها، لا تُدركُ كيفَ اِنزلقَتْ قدماكَ إلى عُمقٍ موحشٍ، وَ لا تعرفُ مَنْ يَدعوكَ لِرقصٍ هاديءٍ، وَ يقودكَ دائمًا لِحُبٍّ أو موتٍ بالمجّانِ!
الناسُ.. كُلُّ الناسِ تَتفرّقُ وَ تختفي ذاكرةٌ حفظتَها… لَهُم!
الظِّلُّ…
– نعمْ.. لِمَ لا يَمكنُ، إنَّهـا مُسـليةٌ فعلًا! فَضــلًا عَن رَبطِ قاريئِها بركبٍ حضاريٍّ، في بعضِ مقالاتِها! – لا أدري هلْ بمقدمةِ أو بأذيالِ الرّكبِ؟
اِبتسامةٌ سَبقَتْ أوانَها، معَ إنَّها تيبّسَتْ سَريعًا علىٰ شفاهٍ، رَسمَ الضّبابُ لونَهُ عليها. رَوَى لها مَغزَى رحلتهِ، وَ بينَ فينةٍ وَ أُخرَىٰ.. تسقطُ عيناهُ علىٰ أسطُرٍ أنيقةِ الخَطِّ، تَقطعُها – أحيانًا- صورٌ وُضِعَـتْ بِعـنايةِ فنيّةٍ!
وَ في مـراتٍ يَمطُّ شفتيهِ هامِسًا:-
– لا أَدري، هَلْ تُصدِّقي أَمْ…
بنفسِ بساطةِ حديثِهِ معَ آخرينَ.. تَكلّمَ مَعها، بَيْدَ أنّ كلامَهُ- هٰذهِ المرةِ- عَنْ ضَيفٍ لَيليٍّ يَزورُهُ داخـلَ صَومَعتِهِ، وَ هوُ يَتأمَّلُ!
– … جاءَ في لحظةٍ غَيَّبتني فيها نَشوةُ.. بلا مقدماتٍ، سَردَ ما عَليَّ، وَ ما لِيَّ.. كَيفَ أُغنِّي، وَمتىٰ أُشنِّفُ أسماعي بِلحنٍ أو
ترنيمةٍ عذبةٍ،
فمثلًا يَقولُ:-
– حينَمـا تَلْقُمُ الطّيورُ نفسَها أحجارًا، لا بُدَّ مِنَ الغـنــــاءِ؛ وَ عِندَما تَتسارَعُ خَفقاتُ القلبِ.. عليكَ أنْ تصمُتَ!
لِمَنْ تكونُ رِحلةُ الشتاءِ، وَ أيُّ رفاقٍ أصـطـحبُ في رحلـــةِ الصّيفِ!
وَ ربَّما تَسأَلينَ:-
مَنْ هُوَ؟ أينَ يَعيشُ؟ لِسألْتُ -أيضًا- السُؤالَ ذاتهُ! فالذي أعرفهُ قليلًا جدًا.
جازَ لهُ أنْ يَحُلَّ ضَيفًا متىٰ شـاءَ…
كلماتُهُ تَتقافــزُ مِن فَمهِ نَديةً، شَفّافةً، مُؤثّرَةً.. وَ بمجيئهِ مساءً، يَتجمهرُ نُعاسٌ لذيذٌ في عَيْني، أعيشُ أحلامَ يَقظةٍ!
قبلُ ثلاثةِ أيّامٍ رَسمْتُ– في ذهني– شَكلًا لِلمأوَّى الذي يَقطنُهُ؛ قلتُ لعلّهُ ملجأٌ رَطِبٌ، تُخيِّمُ العُتمةُ عليهِ أيامَ السّنةِ، لهُ ثَقبٌ مِن جهةٍ ما.. أعشابٌ وَ شُجــيراتٌ تَسلقتهُ وَ نَمتْ فوقَهُ يومًا بعد آخر، وَ باتَ يُشْبِهُ رَبوةً مُعشـوشـَبةً، توالدتْ وَ تكـاثرتْ فيهــا أجـيالٌ مِنَ الطّيورِ وَ العصافيرِ.
تَتطايرُ فراشاتٌ عندَما يدخـلُ أو يَخرجُ، وَ تحطُّ ثانيةً بأمانٍ.
ما أغربَ الساعةَ التي أعيشُها وَ هوَ يَحتلُّ مقعدًا أمامي.. يتحدثُ عَمَّنْ بفعـلـهِ
تَتحركُ أشياءٌ وَ تتصارعُ مؤتلفاتٌ.. تنحلُّ عُـقـدٌ وَ تنمو أفكارٌ، تجري جبالٌ وَ تتوقفُ
بحارٌ، تشعُّ ليالٍ وَ تسقطُ منايا…
وَ هو مسؤولٌ عنْ سعادةِ وَ تعاسـةِ بشـرٍ، وَ بهِ يَتِمُّ النّاقصُ وَ يَكملُ الذي لا ينتهي…
فسبحانَ مَنْ جعلَ فيهِ هذه القدرةَ!
كنتُ أشكُّ بجليسي؛ هلْ هُو – أَنَا، أمْ أَنَا.. هوَ؟
لا يغيبُ عن ذاكرتي خطابُهُ إيّايَ مُنفعلًا :-
-إذا أردتَ أن تصنعَ أكلةً شهيّةً.. اِبحثْ عَن جَدْيٍّ وَديعٍ، وَ لو قُدّرَ لكَ أن تَحُبَّ شمسًا أو تؤمنَ بشمسٍ لِتنظرَ تلك الشمسُ، للأرضِ بحنانٍ!
– بالتأكيدِ أنا مستغربةٌ مِن هذا الـ(ضَّيفِ) بحيثُ لَنْ أتصورَ شعرةً واحدةً من ذقنهِ مَهما حاولْتُ! لكنْ لَوْ أنّكَ…
التِيْهُ…
هُنا تصمتُ وَ تَترُكُ لعينيها الكلامَ.. نَظراتُها تعبُرُ جسورًا، وَ تعدُو في دروبٍ كي تَصِلَ للقلبِ، وَ بهِ.. تُتَرْجَمُ علىٰ وِفقِ نظامٍ يَهدي- حتمًا– إلىٰ صَوابٍ.
مَرَّرَتْ أَصابِعَها المُرتبِكةَ في شعرِها.. واضحٌ إنها مرتبكـةٌ، اِنتظرَتْ أيّةَ فكرةٍ، ومضةٍ شاردةٍ تُسعفُها كأنثىٰ…
– حَسْبي أنْ أكونَ لائِقًا وَ أعطيْتُ ما يَكفِي؟
– لا … لا … إنّي اِستمتعْتُ كَثيرًا، وَ أرجُو أن لا تَعُدَّنِي اِستلَيْتُ مِنكَ اِعترافًا!
مَط َّشفتيهِ وَ بللّهُما.. ثُمَّ نَظرَ– خِلسَةً– في وَجهِ الفَتاةِ. نَدِمَ مِنْ حَدِيثهِ عَنْ ضَيفهِ اللّيلِي، لأنهُ أنساهُ الحديثَ عَن مواهبهِ وَ محاولاتهِ في مجالِ التخطيطِ المطابقِ، وَ الإبداعِ الفنيِّ -فنَ الرّسمِ- كما يُسمّيهُ البَعضُ. حاولَ طَبعَ ملامحَ وَجهِهـا في ذاكرتهِ، وَ لونَ عينيها السّماويتينِ! – رجاءً.. اِفسحي ليَّ!
نعمْ.. هُنا محطَّتي، ها هي!
تدحرجَتْ في داخلهِ غُصَّةٌ وَ مِن وَراءِهِ تَحركَ القِطارُ جنوبًا…
( آهٍ.. ما أوسَعَ العالمَ حينَ يجدُ المرءُ نفسَهُ وَحيدًا في صحراءَ لا حَدَّ لها ؟)
إلىٰ هُناكَ..حَيثُ الشّمسِ تنامُ، يَسيرُ وَ في يَدِهِ حَقيبةٌ قديمةٌ..
كُلُّ الأطفالِ الآنَ كبروا، بَلْ نَسُوهُ، لكنَّ القلبُ الذي لنْ ينساهُ يحفرُ بمعولِهِ طريقًا، لعلّهُ ينتظرُ فيهِ الآنَ.. وَ الآنَ فقطْ!
مَنْ ذا كتبَ لكَ هذا المصيرُ؟ اِنهضْ.. اِنهضْ… فليسَ للأطلالِ لسانٌ، وَ لا يدٌ تشيرُ! أنَّكَ وَحدُكَ… تعرفُ الدَربَ الذي أخذَهم بعيدًا وَ كثيرةٌ هي الواحاتُ، وَ ما سِوى الطيورِ تَتَنقّلُ، مِنْ واحةٍ إلى أُخرَىٰ!

(صاحب ساجت/العراق)
* شاركت في مسابقة القصة القصيرة في مجلة أور الأدبية،
و نالت إحدى المراتب العشرة الأولى…

السابق
الحور العين
التالي
مدان

اترك تعليقاً