القصة القصيرة

مسافر في الليل

ارتدى آخر قطار متجه إلي القاهرة ، حشر نفسه وسط الكتل البشرية المعتركة الأجسام ، المتدافعة بقوة وبعد معاناة ومشقة لم يجد مكاناً ليجلس فيه سوى خلف الباب كالعادة وحتى يتحاشى الكتل البشرية المتدافعة من شدة الزحام .. وقف خلف الباب في صمت وترقب ،
بضع دقائق معدودة ريثما يلتقط فيها أنفاسه ويعدل فيها من وضعه ، وتهدأ وتعود إليه نفسه ، والركاب في حالة تدافع بين نازل وراكب ، والقطار يصفر فتتعالى الأصوات ، وكان الجو حار جداً ، والعرق يُلجم الناس إلجاماً ، وهو واقف يجفف عرقة بمنديله الورقي المعطر ،
يتحرك القطار فتدخل نسمة هواء طرية تلف المكان وتلطف الجو ، والوجوه ، ينظر من نافذة القطار الي ميدان المحطة الذي خلا الا من بعض المارة ، والعربات المنتظرة خلف المزنوقان والترعة التي بجوار شريط القطار ، والكُبري العلوى الذي اُنشأ حديثاً لفك الزحام ، والبيوت والمدارس التي راح يتجاوزها القطار في بطء،
نظر إلي الخضار المترامي الأطراف، والنخيل والشجر النائم في سكون وسط الحقول ، والي النوافذ المضاءة في جوف الليل ، تمتم في نفسه بكلماته المشهورة “حدوته وراء كل باب ”
شعر بالتعب يمسك قدميه فجلس القرفصاء ، سرح بعقله قليلاً ، تصور المكان الذي هو ذاهب إليه ، وتوقع ماذا سيحدث عندما يصل ، وتخيل الكُل في انتظاره ، وتخيل نفسه وقد أحتشد من حوله الناس يريدون أن يتعرفوا عليه ويتصوروا معه ويحظوا بتوقيعه الثمين ، فقد أصبح رجلٌ مهماً للغالية، ومعترف به في المحافل والمنتديات الدولية ، وعلي كل الأصعدة والمستويات بعد أن كان كماً مهملاً ، ونسياً منسياً ، أو هكذا سولت له نفسه
تحسس حقيبته السمراء التي ترقد فيها أوراقه المهمة ،والتي اشتراها خصيصا لذلك ، وبعض الكتب التي يحرص دائماً بأن يصطحبها معه في السفر ….
تقع عينه على كرسي تركه صاحبه لتوه ، بعدما أن حزم حقائبه ، وامتعته ، وأنزل أغراضه من على الرف ، وهو يتهيَّأ للنزول في المحطة القادمة ، وهو يشير اليه بيده بأن يأتي ليجلس مكانه ، هب مسرعاً وفي غضون ثواني معدودة كان قد غرس نفسه في الكرسي ، جلس مُمَنِيَاً نفسه بسفرية سعيدة ، وبرحلة ممتعة ليلية عبر قطار نصف الليل ، جلس في مكانه الجديد ، وقد وضع قدم على قدم ، وحقيبته السمراء فوق رأسه ،
” كثيراً ما يحدث ذلك معه وهو في سفره الي القاهرة ، يقف خلف الباب منتظراً أحد الركاب ينزل في إحدى المحطات فيجلس مكانه ، وربما اختلف الأمر وانعكست الآية معه وانقلبت الصورة فيقوم هو من مكانه ويُجلس غيره ليستريح ، فالسفر قطعة من العذاب كما يقال ، لكن فيه سبع فوائد ”
نظر في الوجوه التي تملأ العربة ، تأملها لثواني معدودة ، فرأى فيها الصمت يصارع الحزن ويتحالف مع البأس والشقاء ، لاحظ امرأة شابة تحمل صبي علي صدرها مريض، أشفق علي الصغير وأمه فقام من مقامه وأجلسها مكانه ، يبتسم في وجه الصبي وهو يفارقهما الي مكانه الأول خلف الباب ، لاحظ بعض الركاب من رأوا المشهد يتهامسون وهم يبتسمون في خباسة ولؤم ، لم يبالي بأحد ،
” كان يجب عليه أن يترفع عن تلك الأمور الصغيرة ، فمتعة اللقاء وجمال المكان الذي حرص أن يكون متواجداً فيه والذي طالما كان يحلم أن يذهب إليه جعله يتحمل كل هذا العناء ”
انزوى خلف الباب مرة أخرى ومن جديد راح ينظر من النافذة الزجاجية المكسوة إلى بعيد ، وسرح بخياله من جديد ، وراح يتذكر، أول مرة ركب فيها القطار بعدما انصدم في حبه الأول
” سافر إلي القاهرة في تلك الليلة التي تزوجت فيها حبيبته برجل آخر، وكانت ليلة عصيبة وصيفيه مثل هذه الليلة ، وكان صغيراً يومئذٍ لم يتعدى عمره السابعة عشر ربيعاً ، أراد أن يترك لها البلد بما فيها ، وأقسم ألا يعود الي بلده مرة أخرى إلا إذا حقق ذاته ونجح في حياته ويجعلها تندم على أنها باعته واشترت غيره ”
صوت الكمسري الأجش يخرجه من تداعياته
ــ تذاكر يا حضرت ..؟
مد له التذكرة ، علَّم عليها بعدما نظر فيها ، ثم ردها إليه ثانية ، وضعها في جيبه ، نظر في ساعة معصمه كانت تشير إلي الواحدة بعد منتصف اليل ، لاحظ ضوء العربة ملائماً للقراءة ، فأخرج كتاباً ليقرأه ، ويقتل به الملل ، والوقت ، قلبه بين يديه ” مسافر ليل ” للمبدع الرائع ” صلاح عبد الصبور ” انغمس في القراءة بشغف ونهم ، فهو يحب القراءة لدرجة الهوس ، ولدرجة أنها أفقدته الكثير من نظره مما اضطره إلي الكشف علي عينيه ، وصنع نظارة قارئه له ، ..
نهض قام على قدميه ، عدَّل من هندامه الأنيقة التي حرص بأن يكن مرتديها في هذا المكان وتلك المناسبة المهمة الذي هو ذاهب إليها ، ابتسم في نفسه ، لمَّا تذكر الأمس البعيد ، وتلك الليلة الحزينة التي مرت به في القديم ، وقارن بينها وبين تلك الليلة الجميلة ،
” اليوم هو متزوج من أمرةٍ جميلة يحبها جداً، وأنجب منها الأولاد ، وأصبح ناجحاً في حياته العملية ، والعلمية ، وأصبح رجلٌ مهماً ومشهوراً وأصبح شخصيةً عامة يدعى للمؤتمرات والمحافل العلمية الهامة، ويدعى من قبل المسؤولين ليحضر المؤتمر السنوي الذي سوف ينعقد غداً ، وسوف يتكلم فيه ويلقي كلمته ويسمعه الجميع ، ويصفق له ، وقد سجل التاريخ اسمه بحروف من نور ، أما هي فقد ابتلعتها الحياة ، واختفت ، وذابت بل غرقت في دوامات الدنيا ، وأصبحت نسياً منسيا ، مرة واحدة يتيمة تقابلت فيها الوجوه ، وامتدت فيها الأيادي بينهما بالسلام ، لكن لم يشعر حيالها بنفس المشاعر ولا بنفس الأحاسيس التي كانت تملأه في الماضي نحوها ” ..
أخرجهُ من تداعياته مرة أخرى صوت الكُمسري وهو يهزه من كتفه ،
ـــ تذاكر يا حضرت ….؟!
ــ ……………
القطار ينساب بين المدن البعيدة .. والليل المترامي الأطراف يحمل في جوفه فجراً جميلاً ، وهو من حين لأخر ينظر إلي ساعة يده ، ويحسب كم مضى من الوقت ، والنوم يسرق بعض العيون، والباعة الجائلون في القطار في حركة دائبة رتيبة لا تنقطع وهو من حين لآخر يرسل عينيه نحو حقيبته التي ترقد علي إحدى الرفوف بسلام ، لاحظ أم الصبي وقد سرق النوم عينيها الكليلة ، والصبي لم ينم ، ينظر إليه من حين لأخر ويبتسم ، فيبتسم له الصبي ابتسامة عريضة وصادقة ، تذكر أبنائه الذين يحبهم كثيراً ، ويسعى جاهداً في اسعادهم ، وتعليمهم ، وتوفير المعيشة الكريمة لهم ،”
يقترب القطار من إحدى المحطات ، يخرج رأسه من القطار يقرأ اللافتة التي على الرصيف ، وينظر في وجوه الناس التي تتهيأ للركوب في القطار ، ينزل اُناس ويركب أخرون ، يتأمل المشهد الذي يشبه الحياة كلها ،
” القطار والحياة والناس زائد الرصيف والمحطات ، فالدنيا كالقطار ، والناس بين راكب فيه ونازل منه ، كل من تأتي محطته ينزل من القطار ليركب غيره في قطار الحياة من جديد ، الناس تنزل من القطار بصعوبة بالغة من شدة الزحام والأجسام المعتركة وهم يحملون حقائبهم وامتعتهم علي اكتافهم ، من جديد سرح بخياله بعيداً ، تمتم في نفسه وهو مبتسماً : ــ لم يزل في الوقت متسع وبقية ”
أقلع القطار من جديد ، بعدما أعلن له ناظر المحطة بالإقلاع ، وانطلق القطار يطوي المسافات البعيدة، ويتخطى المدن النائمة ويعلن صولجانه وسطوته ويجوب بهدير عجلاته وسط الحقول المترامية الأطراف ، وراح النوم يتسلل ليسرق العيون من جديد ، وهو قد شعر بالملل أخرج آخر سيجارة كانت في جيبه ليشعلها، وراح يتجول ببصره في المكان ، في محاولة لاستكشاف امرا ما ، وبدأ الملل يشتد ويتسرب الي نفسه .. ففكر في قطع حبل الملل الذي راح يطوقه ، وقتل الانتظار ، ففكر يخرج كتاب ” مسافر ليل ” مرة أخرى من حقيبته السمراء ، لكن تراجع عن فكرته تلك وخصوصاً النور في العربة قد خفت ، ولا يشجع على ذلك ، فاكتفى بالاسترخاء على الكرسي ، وقد علق عينيه في السقف ، وسرح بعيداً بعيداً بخياله ، وفي هذا اللقاء الهام المرتقب ، المنتظر.

لم يسبق له أن رأى هذا المكان من قبل ، ولم يسبق له أيضاً أن رأى تلك الوجوه الغريبة ، ولا خطر بباله في يوم من الأيام بأن يكون في هذا المكان الغريب ، كما لم يسبق له من قبل أن رأى هذه الكائنات الغريبة العجيبة وهذا المكان المخيف حقاً ،
تجاهل تام من الجميع ، فكل واحد منشغل بنفسه، والمكان غريب ، والوجوه التي فيها أغرب، كائنات غريبة وعجيبة من حوله يراها لأول مرة، وهو يحاول أن يتذكر من الذي جاء به إلي هنا ، حيث هذا المكان الغريب العجيب ، والناس فيه متشابهين ومتقاربين ، وتقريباً في أطوال واحدة متقاربة ، وكأنهم عالم أقزام .. يقترب من أحدهم ، يريد أن يسأله ،
ــ لو سمحت إحنا فين .. ؟!.
ــ ………
يتركه الرجل وينصرف عنه دون أن ينظر إليه .. أو ينبذ إليه ببنت شفة ، يلتفت لأخر رمقه بعينه يقترب منه وهو يرتجف ، ويسأله
ــ ممكن لو سمحت أسأل سؤال ..؟
ــ ………..
يشيح بوجهه عنه ، ومثل الأول يتركه وينصرف ، ينظر إلي وجهه الذي تبدوا ملامحه غير مقروءة ، وباهتة ويملأها الرعب والفزع منه ، يدور حول نفسه ، يروح ويجيء في المكان على غير هدى محاولاً أن يكتشف معالم هذا العالم الغريب العجيب الذي وجد نفسه فيه فجأة ،
ــ المكان غريب جداً وعجيب ..
دوائر الضوء تملأ المكان وتحيط بكل شيء من كل جانب، حتى هو لم يسلم من تلك البقعة الضوئية التي راحت تحيط به كلما غدى أو عاد ، وكل البيوت المتواجدة والمحيطة بالمكان من زجاج ، لاحظ أن كل شيء يتحرك فوق الماء وكأن الماء قد تجمد فجأة وصار الواحاً من الزجاج الأبيض الشفاف ، ولكن الجو معتدل وغير باردٍ ، والناس الذين من حوله يرتدون سترات غريبة تشبه بدلة رواد الفضاء ، ويحملون جهازاً صغيراً في أيديهم بألوانٍ مختلفةٍ ، ويرتدون ما يشبه الساعة الكبيرة أو البوصلة في أيديهم ، ولا وجود للعربات نهائياً، ولا لدخان وعادم العربات ، ولا وجود للزحام ، ولاحظ أيضاً أشياءً تطير في الهواء هنا وهناك بطريقة تشبه العشوائية ، ولا وجود للضجيج إطلاقاً ، والجو نقي تماماً، والوقت يبدو في الظهيرة ، ولاحظ أن كل واحدٍ منهم يرتدي كمامة غريبة وجميلة وربما تكون ذكية أيضاً لتتعامل مع الفيروسات التي تطير في الجو ، والفيروسات الغير مرئية ، أحد الواقفين ضغط على شيء بيده في وسط ما يشبه العمود بجواره فطار في الفضاء البعيد ثم اختفي ،
حُب الفضول دفعه أكثر وأخذ من نفسْه فراح يراقب كل شيء يدور من حوله عن اهتمام وكثب الناس تبدو وكأنها منهمكة ومنشغلة بهمومها ، والأشياء من حوله تصدر إشاراتٍ ضوئيةٍ غريبةٍ بألوانٍ مختلفة ، حتى السترات التي يرتديها الناس تصدر اشارات ضوئية هي الاخرى،
فَرَك عينيه بيديه وهو غير مصدق ما يرى ، أقنع نفسه بأنه ربما يكون في حلم ، أو ربما هذا الذي يراه هو في عقله الباطن وفقط .. لكن هو يتذكر جيداً بأنه كان جالساً في القطار وفي طريقه إلى المؤتمر السنوي الكبير للآداب والفنون والذي تقيمه وزارة الثقافة ، ويتذكر أنه كان في طريقه إلى القاهرة حيث المؤتمر، وبدأ يحدث نفسه بصوت منخفض وخاصة بعدما أقنع نفسه أنه في حلم وبأنه سيستيقظ منه لا محالة ، لكن الحلم قد استهواه ، فالمكان مختلف والناس مختلفين أيضاً ، وراح يسأل نفسه :
” أين أنا .. وما هذا المكان .. وما هذا الذي أراه .. وكيف أتيتُ إلى هنا ، وكيف انتقل المكان من قطار متجه إلى القاهرة إلى مكان فوق الماء ، وكيف تحول الزمان والمكان بقدرة قادر ، والبيوت من حولي كلها صارت من زجاج ، والناس لماذا يرتدون هذه البدلة الغريبة العجيبة التي تشبه بدلة رواد الفضاء ، أو تشبه بذات النجاة التي يرتدونها ركاب السفن العملاقة عندما تكون السفن في خطر، وتقترب من الغرق ، وما كل هذه الأنوار التي أرها والتي تصدر منهم ، وكأنها رسائل ترسل بعض الإشارات اللاسلكية والإشارات الكهرومغناطيسية ، وكيف يطير الناس في الهواء ويمشون على الماء ونحن لسنا في زمن المعجزات ، هذا أمر غريب وعجيب حقاً ــ سبحان الله العظيم ــ ماذا حدث ، ليس هناك أصوات ، وما هذه الأشياء التي يحملونها في أيديهم ، ثم إني أنا أشعر بالجوع والعطش ولا أرى أمامي مطعم أو محل كشري أين آكل إذاً ، أريد أن آكل وأشرب ، حتى سجائري ليست معي ، نفذت كلها في القطار، ماذا أصنع ، يا الله ..؟!! ”
اقترب من أحدهم مرة أخرى ، وقبل أن ينصرف عنه هذا الرجل الغريب ، وقبل أن يمد يده ليضغط على شيء ببدلته ليطير في الهواء مثل غيره لم يتركه ينصرف وقف في وجهه ، وامسك به وصرخ في وجهه ،
ــ من أنتم ، وما هذا المكان الغريب ، ولماذا أنا هنا ، إني جائع أريد طعاماً لآكل ، وأريد الماء لأشرب ، هل تسمعني ، لماذا لا ترد علي ، لماذا لا تجيبني .. ؟!!،
فجأة الرجل الغريب أشار بيده فخرجت قائمة مكتوب فيها عبارة معلقة في الهواء رآها أمامه مكتوبة بلغات شتي
ــ من أنت ، ومن أين أتيت ، وماذا تريد ، هل أنت من سكان الأرض أم من سكان الفضاء .؟!
فرد عليه بصوت ضعيف منهك متعب لا يكاد يُبين ،
ــ أنا الذي أسألك ، من أنت ، وما هذا الذي أره ، وأنا لا أدري من أين جئتُ ، غير أني أنا إنسان ، وأقطن في الكرة الأرضية ، أذكر .. كنت راكباً القطار ، وفجأة وجدت نفسي هاهنا ،
فأشار إليه مرة اُخرى على نفس القائمة ، فما كان منه إلا أن قال له وبنفس الصوت الضعيف المنهك المتعب
ــ أنا إنسان مثلك ، أنا إنسان جائع وعطشان ،
قالها له وأشار إلى فمه وبطنه في حركة منه لتفهمه مقصده وبأنه يعاني من الجوع والعطش ثم سقط من طوله على الأرض من شدة التعب والجوع والعطش ، فما كان من هذا الإنسان الذي يشبه الكائن الفضائي إلا وقد رق لحاله ، فقام على الفور بإخراج جهازٍ صغير من سترته وضعه على وجهه وبطنه ثوانٍ معدودة أخرج بعدها بعض الأشياء الصغيرة العجيبة من سترته أيضاً وراح يصنع شيئاً ما، وفي غضون نصف دقيقة أو أقل كان قد أعد شيئاً ما يشبه مسحوقاً في كبسولة صغيرة ووضعها في فمه وناوله قطرات ماء كانت في زجاجة معه ، وبعد محاولة منه ليطمئن بابتسامة على وجهه ظهرت منه فجأة تناول الكبسولة وقام ببلعها ، ثواني معدودة شعر بعدها وكأنه كائن آخر ، وذهب عنه الجوع والعطش فقام وهو يشعر بأنه قد أمتلك قوة خارقة ، وقبل أن يشكر الرجل ، أو يسأله ماذا صنع معه ، وجده قد تركه وانطلق في الفضاء ، وتركه في حيص بيص ، مما زاد في حيرته ، وتعجبه واندهاشه ، فقال في نفسه
” معقوله اللي بيحصل ده ، طاب أنا فين ، أين أنا ، وما هذا الذي اره ، مستحيل أكون ركبت قطار الزمن هههه ، معقوله، هذا كلام فاضي ، خيال علمي طبعاً ، أنا قرأت في هذا الموضوع قصص كثيرة ، وشاهدت أفلاماً كثيرة أيضاً تكلمتْ عن هذا الأمر لكن مش ممكن ، مستحيل يكون ده حصل معي ، ولما لا يكون قد حدث معي أنا أيضاً ، فربما يكون الأمر حقيقة ، فكل شيء حدث في هذه الحياة من تقدم علمي كان منشأه وبدايته فكرة وخيال في رأس أحدهم ، بدءً من فكرة الطيران والتي قام بها ” عباس ابن فرناس ” مروراً بعالم الفضاء والتكنولوجية الحديثة والله أعلم إلى أي شيء سينتهي هذا العالم ، لكن وما أدراني بأني في مكان ما على الكرة الأرض غير المكان الذي كنت فيه ، وفي زمانٍ غير الزمان ومكانٍ غير المكان ، ولما لا أكون قد انتقلتُ إلى كوكبٍ آخر، وإلى عالمٍ آخر، ربما ، ولما لا ، وكل شيء من حولي مختلف ويطير في الهواء، وبقع ضوءٍ متناثرة هنا وهناك ، والعربات تسير من فوق رؤوس الناس ، والأصوات شبه منعدمة من حولي ، وكل شيء من حولي يسبح في الجو ، ولا يسقط على الأرض وكأن الفضاء البعيد انعدمتْ فيه الجاذبية ، لكن لا ، لا ، فأنا لم أطر مثلهم ، وهل فكرت في الطيران .. ؟! .. فلأحاول مثلهم “.. قال ذلك لنفسه ، وأخذ يقفز لأعلى لعله يطير في الفضاء مثلهم ولكنه لم يستطع ، ….
فراح يَصُرُّ وجهه بيديه ويهزُّ رأسه هزاتٍ متتاليه وقد أغمض عينيه ثم فتحها من جديد ليستكشف المكان أكثر ، وأكثر .. فكل شيء من حوله مختلف البيوت والناس والشوارع حتى المحلات لا شيء فيها إلا الأجهزة الكهربائية الغريبة العجيبة ،…
وراح يمشي في الشوارع على غير هدي لا يدري من أين أتي ولا إلى أين سيذهب ، كل ما يتذكره هو أنه كان جالساً في قطار نصف الليل المتجه إلى القاهرة وفي طريقه الي إحدى المؤتمرات التي سيكرَّمُ فيها ، وفجأة وجد نفسه هنا ، وفي مكانٍ آخر وزمانٍ آخر ، وكل شيءٍ من حوله مختلف ، والوقت ظهيرة ، والجو جميل ، ليس به ما يعكر صفوه وأخذ يتذكر ، ويفكر مع نفسه بصوت مسموع ، ويتساءل مع نفسه بصوت مسموع
” مستحيل أنا بَحْلَمْ أكيد، أريد أن أستيقظ من هذا الحلم ، أكيد حلم ، لكنه حلم جميل ما المانع أن يطول هذا الحلم ، ربما كتبت فيه قصة ، نعم قصة ولما لا فأنا منذ فترة ليست بالقليلة وأنا لم أكتب أي شيء ، ولا حتى قصة واحدة ، كما أني لا أذكر متي بالضبط وبالتحديد كتبت آخر قصة ، أو حتى متى نشرت آخر قصة لي ”
أعجبته الفكرة ، جلس في مكانٍ ما يشبه الحديقة ينبعث منها روائح جميلة ، ومشهد الزهور المختلفة الأشكال والألوان مع الأشجار والخَضَار مبهجة جداً ، ويشرح الصدر ويسعد العين ، جلس في زاوية ما ، أخرج ورقة وقلم ، وراح يكتب من أول السطر ،
” المكان مدينة مقامة فوق الماء مصنوعة من زجاج ، وسكانها يطيرون في الهواء كالعصافير أو كالجراد ، والزمان لا أذكر، ربما كان في الألفية الثالثة بعد الميلاد ،
تخيل معي قارئي العزيز وأنت البطل في هذه القصة ، وحيث يجد البطل يجد نفسه فجأة ، وبقدرة قادر يجد نفسه في إحدى ضواحي هذه المدينة الزجاجية العجيبة في كل شيء ، ذات الأنوار المبهجة ، والناس والعربات تطير كالفراش في السماء ، هل جربت أن تعيش هذا الإحساس الغريب العجيب .. أكيد كلنا أو معظمنا على الأقل يحب أن يجرب هذا الإحساس وهذا الشعور الغريب الجميل في نفس الوقت ، هل جربت بأن تعيش بخيالك ، أو تمنيت أن تنتقل وتسافر عبر آلة الزمن ، أو أن تنعزل عن هذا العالم الذي تعيش فيه، تخيل نفسك مثلي ، فجأة ، وبدون مقدمات وجدت نفسكَ في جزيرة ما في وسط البحار، الحياة فيها مختلفة كل الاختلاف عن حياتك التي كنت تعيشها من قبل ترى ماذا ستفعل ..؟!.. كثيراً ما جاءتني هذه الفكرة المجنونة ، وكثيراً ما فكرت في هذا الأمر العجيب .. وكثيراً أيضاً ما تمنيت أن أعيش هذا الإحساس وذلك الشعور ، وكثيراً ما عولجت هذه الفكرة في قصص وروايات كثيرة ، لكن أن يحدث هذا معي فهذا الأمر غريب جداً وعجيب حقاً ، وأن أكون في قلب حدث القصة فهذا شيء غير معقول إطلاقاً ، أنا أحب هذه النوعية من القصص وخصوصاً حينما تكون تلك الفكرة معالجة سينمائياً ..
” يآ آه شعور لذيذ ، وخيال خصب ، وإحساس بالمتعة والجمال حينما تشعر وتعيش لوحدك هذا الاحساس ،
” في مكان ما من العالم معزول عن البشر ، كل البشر ، يوجد هناك عالم آخر مختلف ، عالمٌ له قوانينه المختلفة ، وله ثقافاته المختلفة ، وله عاداته ، وتقاليده المختلفة أيضاً ، حتى الزي مختلف تماماً ، ”
ستقولون تلك فكرة متطرفة ومجنونة ، نعم هي كذلك ، وستقولون عني بأني مجنون نعم وهو كذلك لكن شيئاً واحداً سأقوله لكم ، أنا رجل أحب الخيال والجنون في الأفكار ، …
تخيل نفسك للحظة وأنت تعيش في واحة في قلب الصحراء ، أو وأنت تعيش في جزيرة في وسط البحار ، وأنت في هذا الجو الساحر وخصوصاً إذا كانت معك البطلة الجميلة ذات الملامح الأسطورية والجمال الخرافي .. وأنتما تبحثان عن مخرج .. وحينما تيأسا تحاولان أن تتأقلما على هذا الوضع الذي أنتما فيه .. وأنت تعيش الأحداث وكأنك في داخل القصة .. ،
لا فرق كثيراً بين هذه القصة وهذا الخيال المجنون المتطرف المريض ربما وبين ما نعيشه اليوم ، ويعيشه العالم بأسره في تلك الأيام فالعالم كله منعزل عن نفسه ، أصبحت الدول شبه منعزلة عن بعضها ، فلا طياران ولا سياحة ولا تبادل تجاري أصبح عبارة عن مجموعة جزر منعزلة بل كل بيت في كل دولة أصبح عبارة عن مركب صغير يعيش فيه مجموعة من الناس وظهر مصطلح جديد ” العالقين ” من كل الدول ، بسبب الوباء المنتشر في هذا العالم اليوم ،
قد يبدو الأمر غريباً بعض الشيء عند بعض الناس ، وقد يبدو الأمر عند كثيراً من الناس سهلاً وبسيطاً ، فقد يتصورون بأن كتابة قصة من الشيء السهل اليسير وبالتالي كتابة أي قصة قصيرة أمر سهل جداً وهيِّن وبسيط جداً ، لكن أأكد لكم يا حضرات بأن هذا مفهوم خاطئ تماماً .. فالكتابة من أصعب الأشياء ، وصعبة جداً جداً ، بل أصعب مما تتخيل ، وتشبه وجع الولادة ، وقد تزيد عليها ، لا نها عصارة الذهن ، وخبرات السنين الطويلة وعصارة تجارب عديدة ، كما أن الكاتب ليس آلة أو جهاز تحكمه قوانين فيزيائية متى أراد أن يكتب ضغط على زر فيخرج منه الكلام كما تُخرج الماكنة منتجها ، فالكتابة يا سادة حالة وجدانية تتلبث الكاتب وتأتيه ، ولها صورتان لا ثالث لهما إما أن يستدعيها وإما هي التي تستدعيه ليدخل في محرابها ويستظل بظلالها ويتشح بقدسيتها ويتصل بعالم التيار اللاوعي فينفصل عن هذا العالم المحيط به أو ينفصل عنه هذا العالم المحسوس لينسلك وينخرط في سلك الخيال ويلج إلى هذا العالم الخاص ، ليدخل في عالمه الغريب العجيب ، ويعيش فيه ..”

تلَّفت حوله فإذ بصوره تملأ الهواء ، والأجواء ، تظهر وتختفي كومضات إلكترونية في كل مكان ، تظهر وتختفي في الهواء الطلق كشريط نيرون ، استغرب من ذلك واندهش من هذا الأمر ، وراح يسأل نفسه وهو في حالة اندهاش وذهول :
ــ هذه صوري ، نعم صوري التي كنت قد نشرتها قبل ذلك عبر المواقع الإلكترونية في النت وتلك أعمالي الأدبية التي كنت قد وثَّقَتها لي بعض المجلات والمواقع الأدبية كيف هذا.. ؟؟!!
وبينما هو يتكلم مع نفسه وهو ما زال في حالة الاندهاش والاستغراب لما يحدث حوله ، وإذ بجمعٍ غفيرٍ يقبل عليه من أصحاب البزات الفضائية الطائرة تحتشد ويتجمعن حوله وقد أخذوا يعاملونه معاملة لطيفة للغاية وكأنه رجل مهم جداً ، أو أحد المسؤولين الكبار وهو لم يتعود على ذلك أقصى ما وجد من احترام كان من زوجته ومع ذلك كان يشعر ويحس دائماً بأن احترامها له زائف أو ربما كان من باب الخوف منه ، وأيضاً بائع الفول المدمس والطعمية حينما يُقبل عليه وهو ذاهب إلى عمله في الصباح فيظرفه بالعشرة جنيهات حتى يصنع له فطاره الذي يأخذه معه للعمل،
يتقدم منه رجلاً يبدو عليه أنه ذو شأن ورفعة وسط القوم سأله وهو يبتسم في وجهه
ــ كيف حالك سيدي ..؟!..
نظر إليه وأطال النظر وهو شاغر فاه ولا يتكلم ، لكن الرجل الأخر لم يترك الابتسامة لتسقط من على وجهه البشوش ذو الملامح الهادئة بل حسَّنها وجملها بضحكة حفيفه مع إشارةٍ بيده ترحيباً بالضيف ، ثم واصل حديثه
ــ أهلاً بك سيادة المؤلف العظيم ، نحن لن نشغلك كثيراً ، نحن نعرفك جيداً ونعرف بأن وقتك ثمين للغاية ،
ــ لكني أنا لا أعرفكم .. من أنتم ..؟!
ــ نحن يا عزيزي بشرٌ مثلك ، لا تقلق يا عزيزي ، ألا تري أنَّا نتكلم مثلك
ــ لكن أنتم محتفلين كثيراً عني ، والمكان غريب جداً ، فيه شيء بل أشياء مختلفة ..
ــ تقصد ما تراه وما تشاهده
ــ نعم ما أراه ، شيء عجيبٌ وغريبٌ حقاً
ــ لا عليك ، لا عليك ، سأوضح لك الأمر لكن ليس الأن يا عزيزي ، ستعرف كل شيء ولكن ليس الأن .. كل شيءٍ في وقته
ــ لا لو سمحت أريد أن أعرف أين أنا ، وما هذا المكان الغريب
يضحك الرجل فيضحك كل من حوله من أصحاب البزات الطائرة ، مما زاد في توتره وغضبه وانفجاره بالسؤال قبل انهياره بالبكاء ،
ــ من أنتم ، وأين أنا ، هل أنا نائم ، أم انتقلت إلى عالمٍ آخر ، بربكم أخبروني ،
ــ يا عزيزي هَوِّن عليك ، أنا أردت أن أترك لك متعة البحث والملاحظة وتستكشف أنت بنفسك هذا العالم الجديد الذي انتقلت إليه ولكن بما أنك تريد أن تعرف اسمح لي أن أخبرك وأعلمك بالأمر،
ــ وما هو هذا الأمر ..؟!.
ــ أنت يا عزيزي الآن في الأَلفية الثالثة ، لا تندهش كثيراً ، نعم في الأَلفية الثالثة ، لقد انتقلت عبر آلة الزمن
ــ كده مرة واحدة ، وكيف حدث هذا ..!!
ــ هذا أمر بسيط جداً بل ويحدث كثيراً ، فلماذا أنت مستغرب هكذا ..؟!!…
ــ نعم أنا قرأتُ كثيراً عن هذا الأمر بل وشاهدت فيديوهات يوتيوب كثيرة ولكن ما هي إلا نظريات ورؤى لم تصل إلى حد الواقع واليقين ، هذا مستحيل وغير معقول ..؟!!
ــ وما هو الغير معقول يا سيدي المؤلف ، كل شيءٍ كان منشئه فكرة ، ثم انقلب إلى واقع ، أليس كذلك
ــ نعم ، لكن أن تصل إلى اختراق الزمان والمكان ، هذا شيء مستحيل
ــ يرجع ويخبرني بالمستحيل والغير معقول ، أنت إنسان مثقف وواعي وعارف ولا يحق لك أن تتكلم بهذا ،
ــ لالا أنا غير مصدق ، إطلاقاً ،
ــ لك ما تشاء يا صديقي العزيز ، لك ما تشاء هذا حقك ،
يضحك كل من حوله ، يشعر بالعطش يطلب شربة ماء، يُخرج هذا الشاب الذي كان جالساً بجواره زجاجة صغيرة شفافة بها قطرات ماء تكاد فيها تعد ، تعجب منها لكنه أخذها ودون أن يسأله شربها فذهب عنه ما هو فيه من عطش ، يهدأ بعض الشيء ، بينما يتفرق الجمع الذي كان محيط به إلا هذا الشاب الوسيم الذي هو جالس بجواره ولم يتركه ، وهو يحاول أن يقنعه بأنه انتقل إلى الأَلفية الثالثة ، وهو غير مصدقٍ كل هذا ،
ــ أنا كنت قاعد في القطار إيه اللي جابني هنا
ــ نحن نعرف ذلك وبأمارة أنك كنت ذاهب الي المؤتمر الأدبي الذي دعيت إليه ،
ــ فعلاً وكيف عرفتم
ــ نحن نعرف عنك كل شيء عن طريق الداتا ، نقل البيانات من خلال الضوء ،
وراح يقص عليه أموراً كثيرةً جداً ، ويخبره عن أشياء مرت به في حياته ما زال يذكرها وأشياء أخرى طواها النسيان ، وتركه يتحدث ، وسرح بخياله بعيداً ،
تذَّكر بأنه أول أمس وقبل أن يركب القطار كان في عيادة دكتور جراحة وطلب منه بعض التحاليل والإشاعات قبل ما يخبره بشيءٍ فأذعن لذلك أحضرهم له ، وطلب منه الصراحة والوضوح فهو من القوة والشجاعة بمكان يجعله يطلب منه ذلك ، فقال له الطبيب:
ــ لابد من عمليةٍ جراحيةٍ ، ليس لها غير ذلك
اسودت الحياة في عينيه ، ودارت به الدنيا ، ومادت به الأرض من تحت قدميه ، وغاب عن الوعي أو كاد ، فالعملية الجراحية خطيرة جداً فضلاً على أنه لا يملك ثمنها ، وهو يكره مشرط الأطباء ولا يثق في أي طبيب إلا ما ندر لما له من تجارب مع البنج والألم والمضادات الحيوية وما يحدث له أثناء التخدير ،
ثم ذهب إلى عقله الواعي ليبحث عن نفسه ، فوجد نفسه في مكان ما لا يدري من أين جاء، ولا أين كان ، ولا أين هو بالضبط ، وأخذ تيار الوعي في صراع مع نفسه وعقله الباطن، واللاوعي بداخل نفسه ، حاول لكن عبثاً أن يجد تفسيراً منطقياً لما يحدث ، وكأنه بين اليقظة والنوم ، أو كأنه مخدر ، وراح يتساءل مع نفسه :
ــ ” هل هو حلم ، أم هذا من أثر البنج ، هو لا يذكر إن كان قد أجرى العملية أم لا ،
نعم العملية خطيرة ولا بد من إجرائها ، لكن لم يتذكر جيداً ، ربما لو أفاق من البنج لتذكر ، وربما كان حلماً ، وربما غير ذلك ، وهل ما هو فيه له تفسير منطقي ، وهل من المنطق أن ينتقل الإنسان إلى عام ثلاثة آلاف “3000م ” وهو في العام ” 2021 ” هل هذا يعقل ، مستحيل طبعاً ..!
ووجد نفسه في حيرة من أمره ، يريد تفسيراً منطقياً لكل هذا ولكنه لم يجد ،
نعم هو قرأ كتباً كثيرة صفراء وبيضاء تحمل أفكاراً مثل هذا وتتحدث في هذا الأمر كثيراً ، بل وشاهد كثيراً من الأعمال السينمائية التي عالجت مثل هذه الأمور ، لكن أن يصل به الأمر أن يحدث معه هذا ،
ــ تباً لهذه الكتب التي أفسدت رأسي
ينتبه على صوت غريب أشبه بصوت تحديث الرسيفر وإذا هو بمركبة طائرة تهبط في المكان الغريب العجيب ، هو ما زال في هذا المكان ،
ينهض هذا الشاب وهو يطلب منه بأن يركب معه إلى المنزل ليستضيفه ، فلم يمانع في ، اصطحابه والركوب معه بعدما أقنع نفسه بنفسه بأن الذي هو فيه الأن حُلم ، أو ربما خيال يقظة ، واعتبرها فرصة ليتعرف على المكان أكثر وأكثر ويستكشفه عن قرب واعتبرها رحلة خيالية جميلة ،
قام وركب معه الحافلة التي تشبه الطبق الطائر الذي قرأ عنه في تسعينيات القرن العشرين وشاهده في بعض أفلام هوليود ، فهو مغرمٌ بهذه الأخبار وتتبعها ، وخصوصاً ما يتعلق بالاكتشافات الحديثة والأثرية وعلوم الفضاء وعلم النفس وما وراء الطبيعة وكل هذه الأمور وغيرها والتي تتعلق بالإثارة والتشويق والمتعة ، جلسا كلاً منهما في مكان بجوار النافذة ، فهو مكانه المفضل دائماً ” المكان جميل جداً ونظيف بالداخل وجيد التهوية ومطلىٌّ بألوان ورسومات غريبة وعجيبة في نفس الوقت ، جلس أمام صاحبه ، وكل منهما له شاشة مناسبة للمكان ، عليها تعليمات بكل لغات العالم ، قرأ بالغة العربية بعض الإرشادات من نوعية .. ” اقرأ ، أو فكر، أو تأمل ، الرجاء ربط الحزام جيداً ، المحافظة على نظافة المكان ، عدم إزعاج الأخرين أو الانزعاج ، لا تحاول تضييع الوقت فيما لا يفيد .. ولو دارت محادثة ما فالرجاء بصوت يكون منخفضاً.. ابتسم في وجه أخيك .. الخ .. الخ …
بعدما قرأ هذه التعليمات فكر أن يتعرف على هذا الشاب الوسيم الجالس أمامه،
سأله بصوت منخفض عن اسمه..؟!.. وعن عمله..؟!.. فأخبره بأن اسمه ” يحيي ” …. وبأنه يعمل في مجال التكنولوجية الرقمية الحديثة في إحدى المصانع العملاقة حيث يقوم بتصنيع البدلات الطائرة ذات الطراز العالي ، وبأنه ما زال في تمهيدي ماجستير، وبأنه يهوى القراءة في كتب الأدب والشعر والروايات التي تتحدث عن الزمن الماضي، وجمع المعلومات وتصليح ما يتلف في البيت ، وبأن أباه قد مات منذ فترة وترك لهم ثروة لا بأس بها ، وبأن أمه مشغولة ومهتمة دائماً ، بجوار ما تقوم به من أعباء المنزل ، بتغيير لون بشرتها من حينٍ لأخر ، ولون عينيها كذلك ، وبأن له أخت ما زالت تدرس في إحدى الجامعات العريقة التي تهتم بعلم الجينات الوراثية .. وتركه يحكي ، ويحكي ..
وراح ينظر من المركبة الفضائية العجيبة الصنع التي لم يرها إلا في أفلام الخيال العلمي ، لكن هو يستقلها الأن ، يتلفت حوله فيرى من حوله بشر مثله ولكن أجسامهم ضئيلة وبسيطة ونحيفة بل صغيرة جداً وكأنه انتقل إلى عالم الأقزام ، هو الوحيد بينهم ضخم الجثة ، والمركبة يكاد سطحها يلتصق برأسه ، يلاحظ بعضهم ينظرون إليه وقد رسمت على وجوههم علامات استفهام وتعجب كبيرة ، بينما البعض لا يبالي ولا يهتم به …
” هو قرأ قصصاً كثيرة عن عالم الأقزام ، وكم تمنى أن يذهب إليهم ليعيش معهم ، فهم يتواجدون بكثرة في جزر ” اندمان ” بالمحيط الهندي وفي الفليبين وماليزيا … الأقزام أناس يتصفون بضآلة الجسم لكنهم طيبون جداً ومسالمون يعيشون عادة عيشة بدائية بسيطة وجميلة ، ويعيشون أيضاً في أماكن متطرفة في قارة افريقيا ومن أشهر جماعات الأقزام تدعى نجريللوز (( nigrillos )) وتعيش في افريقيا الوسطى ولا يتجاوز طول الشخص البالغ 130 سم تقريباً وطول المرأة 120 سم “..
تمنى أن يكون كل ما يشاهده ويراه أحلام يقظة ، وبأن الأمر برمته مجرد حلم ليس إلا، وتمنى أيضاً بأن يكون الأمر كله برمته مجرد خيال في خيال .. أو ربما يكون من تأثير العملية الجراحية ، والبنج اللعين الذي أخذه ، لكنه لم يتذكر بالضبط هل عمل العملية أم لا ، وتمنى بأن ما يراه ويشاهده هو في رأسه فقط ، ولكن كيف وهو يشعر ويحس ويرى ويسمع ، بل هو على يقين بأنه كان جالساً في القطار ، وفي طريقه إلى العاصمة ، لحضور المؤتمر السنوي الذي دعي إليه
مدَّ يده في جيبه أخرج الخطاب الذي جاءه في طيِّه الدعوى للمؤتمر ، نظر إليه نظرة تأمل ، قرأه : ” نتشرف بحضور سيادتكم إلى المؤتمر الأدبي.
الطبق الطائر يسبح في الفضاء بطريقة انسيابيه وحوله اطباقاً اخرى، ومركبات غريبة الصنع ، وبيوت غريبة الشكل معلقة في الفضاء على هيئة عناقيد العنب وكلها تدور في بانوراما رائعة وجميلة والسماء قد مُلئت بكائنات ومركبات عجيبة وغريبة لا يعرف كُنْها ولا كيف تطير …
حب الفضول دفعه لينظر من النافذة الزجاجية المعالجة ضد الكسر والأوساخ والمكروبات ، لاحظ البيوت المعلقة في الفضاء تدور معه كما لو كانت معلقة بالكواكب أو مشدودة بحبالٍ خفية تربطها بالنجوم في السماء .. ولاحظ شيئا آخر والناس تطير في الفضاء هي أيضاً وتلتصق بالبيوت فيما يشبه النحل الذي يلتصق بالزهور، أو بثمار الفاكهة ، وعناقيد العنب ،
توجه بوجهه إلى صديقه الجالس أمامه فوجده يلاحظ اندهاشه وفضوله بشيء من المتعة والسعادة وهو يغالب ابتسامة حتى يخفيها عن وجهه ، يسأله
ــ ما هذا الذي اراه .. ؟!.
ــ هذه ابراج سكنية متطورة
ــ البيوت تكون على الأرض وليست في الهواء
يضحك الشاب الوسيم على صديقة ضحكة العارف ببواطن الأمور ، ثم يأخذ نفساً عميقاً ويسترخي على مقعده وهو يقول له
ــ كان هذا في الماضي يا عزيزي ، زمان كانت البيوت على الأرض لكن اليوم الأمر اختلف تماماً، في هذا الزمان كما ترى البيوت معلقة في الهواء بين السماء والارض وفوق الماء ، وتحت الماء ايضاً
ــ معقول هذا تحت الماء ..؟!!
ــ نعم معقول ومعقول جداً نحن في الألفية الثالثة يا عزيزي انسيت
ــ وكيف حدث هذا الأمر
ــ لقد حدثت طفرة كبيرة على مدار عشرات بل مئات السنين الماضية وطور الانسان من نفسه ومن سكنه أيضاً حتى وصل الى هذا الذي تراه ، لقد اكتشف العلماء القوة الخامسة والسادسة وها نحن الأن نعمل بنظام القوة السابعة في الكون ..
ــ أنا أعرف القوة الرابعة وكنت أتابع بعض الأبحاث والتجارب والمقالات التي تتحدث عن هذا الاكتشاف الخطير من قوى الطبيعة
يبتسم الشاب الوسيم وهو يرد عليه ويقول له بعدما اعتدل في جلسته ، وقد وضع رقماً على الشاشة التي أمامه في الهواء مع بعض الرموز فيما يشبه الرقم السري :
ــ والقوة الخامسة والسادسة والسابعة أيضاً ومين عارف ماذا سيحدث بعد ذلك ..؟!!
الآن قد وصلنا يا صديقي ، علينا أن نتهيأ للنزول الآن وسنتحدث لاحقا في هذا الأمر
ــ وصلنا إلى أين
ــ إلى بيتنا يا عزيزي انسيت
ــ ………….
وهنا يتوقف لسانه عن الكلام، لكن عقله لا يتوقف عن التفكير، ويتذكر بأنه في رحلة غريبة وعجيبة من نوعها تشبه رحلة من حالات الخيال العلمي، أو كأنه دخل في كتاب الف ليلة وليلة وصار أحد أشخاص حكاية وقصة من تلك القصص المثيرة العجيبة ، فهو يحب مثل هذه الحكايات والقصص التي تتحدث عن عوالم وأحداث خارج نطاق الزمان والمكان لتفصله عن الواقع المر الأليم الذي يعيش فيه ،
راقت له الفكرة أكثر وستمرئها وعليه أن يستمر إلى النهاية في هذه القصة الغريبة العجيبة التي لا يعرف كيف بدأت ولا كيف ستنتهي …
هز له رأسه وهو مستسلم له تماماً ، فأخذه صديقه من يده بعدما أخرج من جيبه شيء ما صغير يشبه لعبة الاطفال عرف فيما بعد بأنه جهاز ضبط الضغط والسكر في الدم ، طلب منه بأن يضعه في جيبه واخرج له كبسولة صغيرة وطلب من منه أيضاً بأن يضعها في فمه ، فما كان منه إلا أن يزعن له ويفعل كما قال له دون سؤال أو نقاش إلا أنه شعر بداخله بأنه يرتجف وبأن نفسه كاد يروح منه ويختنق وبأن ضربات قلبه ونبضاته تزداد في صدره فطلب منه بأن يبتلع الكبسولة في جوفه بسرعة ، ففعل، فهدأ قلبه وعاد نفسه طبيعياً وتوقف الاضطراب قليلاً ، ثم أمسكه من يده بعدما ضغط على شيء ما في المركبة ليجد نفسه يسبح في الفضاء ويطير في الهواء هو وصديقة الذي أخرج من بزلته الصفراء اشعاعات غريبة ثم اتبعها بشعاع ضوء ازرق لامع ليجد نفسه عالقاً في احدى العناقيد المدلاة في الفضاء ” الابراج السكنية ” ويجد نفسه في بيت لم يرى مثله من قبل ولا قرأ عنه حتى ولا في الأساطير .. وراحت عيناه تدور في محاجرها تتفقدان المكان المهول في ذهول واندهاش، وهو يسأل صديقه …
ــ كيف وصلتم الي كل هذا ..؟!!
ــ بالعلم يا عزيزي، وبالبحث العلمي، كل شيء هنا يدور ويعمل بالتكنولوجية،
ألم يقل الشاعر الكبير أحمد شوقي ..
بالعلم والمال يبني الناس ملكهم .. لم يبن ملك علي جهل وإقلال
فجأة يدخل عليهما ضوء من الشرفة المجاورة لهما، وإذ بكائن غريب يشبه الفراشة الجميلة، تقف امامهما تخلع ثيابها “المركبة الصغيرة التي ترتديها ” والتي تشبه بدلت الفضاء الغريبة العجيبة، تقف تسلم على اخيها، وترحب بالضيف القادم من الماضي وهي تبتسم في وجهه، ثم تشكر اخيها على هذه الفجاءة الجميلة والهدية الرائعة وذلك كونه أحضره معه إلى البيت فلربما احتاجته في دراستها ومجال بحثها العلمي وابحاثها لسنة التخرج ، وهو واقف بينهما في حالة ذهول واندهاش غير غادي، وهيئ اليه للحظة بأنه انتقل الي قاعة ابحاث سرية في احدى المحطات الفضائية لوكالة ناسا الدولية، وأخذ يسأل نفسه في نفسه .. كيف عرفت اسمه ..؟!، ولماذا تشكر اخاها لأنه احضره معها..؟!! ، وماذا يا تري ستفعل به، أو معه ..؟!!.. وأية أبحاث تلك..؟!!.. و.. و..؟!!…. ،،
تذكر هاتفه المحمول وضع يده في جيبه بحث عنه فلم يجده ، وتذكر حقيبته التي فيها أعماله الأدبية والورقة البحثية التي سيقدمها في المؤتمر، وتذكر المؤتمر نفسه ، ودارت الدنيا برأسه، شعر بدوار وكاد أن يقع من طوله لولا صديقة قام بأسناده ووضعه على أقرب أريكة في المكان ثم أخرج بخاخة برائحة النعناع والقرنفل رش له منها وهو يطمئنه بعدم الانزعاج وعدم الخوف .. والفتاة واقفة تنظر اليه وقد اخرجت من سترتها ما يشبه الهاتف الخلوي، تقوم بقياس الهواء وضغط المكان واشياء اخرى كثيرة فيما يشبه العملية الحسابية المعقدة حتى عاد إلى توازنه والتقط أنفاسه من جديد وفتح عينيه ليجد نفسه في نفس المكان، فحمدوا الله على سلامته ..
برهة تستأذن الفتاة تتركهما وتنصرف، تدخل تسلم على أمها، لتجد أُمها منشغلة ومهتمة بالجهاز الجديد الذي اشترته حديثاً من احدى المعارض المهتمة بهذا النوع من أجهزة التجميل، وقد وضعت نفسها على الجهاز الجديد وقد ضبطت عليه بعض الصور لكبار المشاهير من نجمات السينما والمليكات للجمال علي مر العصور لتحمل وجهاً راق لها لتضعه علي وجهها وتنتظر قليلاً حتي يتم التثبيت وهي ترد علي بنتها السلام وهي تنظر في المرآة وتسألها عن رأيها في الوجه الجديد الذي وضعته هل أعجبها أم لا، فتهز الفتاة رأسها وهي تقول لها
ــ رائع يا مامي
ثم تتركها وتنصرف الى غرفتها المنمقة المرتبة الأنيقة الجميلة لتغلق عليها بابها، لتتقوقع في غرفتها وتعتكف على دروسها وأبحاثها فهي في السنة النهائية في الجامعة ،
صوت ذبذبات يأتي من بعيد يصحبه صوت ارتطام وخبطة قوية تتبعها رجة خفيفة في المكان ، لا يعبئ بها “يحيي” ولا من في البيت إلا هو يسأل صاحبه
ــ ما هذا..؟
فيجيبه وهو يبتسم
ــ هذا خلل في النظام
ــ اي نظام هذا..؟!
ــ نظام التشغيل يا صديقي .!.. لا عليك سأشرح لك الأمر ، وأخبرك بكل شيء ..
هنا يا صديقي كل شيء يعمل بنظام وانتظام، ولا يمكن وقوع خطأ أو خلل ما ولو واحد في المئة الا فيما ندر ، وما سمعته يا صديقي أنفاً من صوت فهو وقوع خلل في النظام الذي يعمل به احدهم وقد تسبب هذا الخلل بوقوع استضام بشرفة المنزل وقد احدث فيها بعض الخسائر ولكن البرنامج الموضوع في الشرفة قوي جداً سيقوم بإصلاح نفسه بنفسه وقد قام بتسجيل بيانات الحادث أنفاً وارسل إليِّ نسخة منها كما أنه أرسل نسخة أخرى من البيانات إلى وزارة الأشغال ووزارة الداخلية أيضاً وسيقومون بعمل الازم فالبيوت عندنا صعب اختراقها لأن عليها نظام حماية قوي وكاميرات تصوير حديثة بحيث لا يمكن اختراقها بأي حال من الأحوال، فلا تقلق يا أخي ، وسنأخذ تعويض على ذلك، او ربما نعفو عن الذي تسبب في هذا الخطأ بعد مراجعة البيانات والصور مع الفيديوهات طبعاً ..
ــ أنا لم أفهم شيء من كل الذي تقوله لي
يبتسم يحيي وهو يطلب من صديقه بأن ينسى الأمر برمته ويسترخي بعض الوقت أو إن شاء قام وأخذ حمام دافئ قبل أن ينام، وبعد ذلك سيكمل معه الحديث ..
وقبل أن يجيبه بالقبول أو الرفض يملأ المكان دخان وصوت ذبذبات غريبة مع بعض الاصوات العجيبة الغريبة تجعله يقوم من مقامه مذعوراً ليتلفت حوله فيخبره صديقة يحيي بأن تلك الاصوات قادمة من غرفة اخته الصغيرة ” مريم ” ومن المعمل الذي اشتراه لها ابوها قبل موته لتقوم بعمل ما يلزم من شغل البيت لتساعد امها، وتذاكر دروسها أيضأ ، وبان أغلب وقتها تقضيه في المعمل الصغير الذي اشترته من مصروفها وساعدها اباها في اختيار واختبار أدواته لتجري فيه تجاربها وابحاثها العلمية …
وظل صديقه الذي يعرف عنه كل شيء وهو لا يعرف عنه شيء إلا ما أخبره هو به عن نفسه ظل يحكي له عن أشياء غريبة لم يفهم منها شيئاً، وهو يحاول جاهداً أن يستجمع كل قواه العقلية والمنطقية ليفهم ما يدور، وما يحدث له من أمور وأحداث أغرب من الخيال وغير منطقية وغير معقولة بالمرة ، وهو يعصر عقله ليفهم أصل الحكاية، وما هي أصل القصة التي وجد فيها، وهو يخبره عن أشياء لا يمكن أن تصدق بالمرة ، وهو في حيرة من أمره ، وهو يحاول أن يستجمع كل قواه العقلية ليجد تفسيراً منطقياً أو مبرراً لتلك القصة التي هي أغرب من الخيال والتي أُقحم فيها دون سابق إنذار أو أذنٍ أو إرادة منه ،
يجمع كل قواه المنهارة يلتفت إليه بنظرةٍ حادة وهو في شبه انهيار عصبي وهو غير مصدق ما يحدت معه يصرخ في وجه صديقه المبتسم له دائماً بصوت مُتًهَدِّج يقول له :
ــ مستحيل يحدث هذا صح، أكيد، أكيد أنا بحلم صح ، أو على أسوأ تقدير وأسوأ احتمال أنا لست في وعيي أكيد أنا تحت تأثير شيء ما فليكن تأثير البنج اللعين نعم البنج اللعين ليس غيره ، أنا لست في قواي العقلية الأن، أكيد أنا بحلم، ..؟! ..
يصمت صديقه فجأة عن الكلام، وهو يبتسم في وجهه ليهدئ من انفعاله وتوتره، برهة يقترب من الحائط الزجاجي السميِك المعالج بطريقة لا يمكن اختراقه أو كسره، يضغط يده على مكان ما فتفتح الحائط على منظر طبيعي جميل ..
” مكان ملئ بالخضرة وشلالات من المياه العذبة والهواء النقي العليل راح يغزو المكان، مع اصوات العنادل، والعصافير، والقمري .. ثم يقترب من مكان أخر يمد يده فيخرج بعض من ثمار الفاكهة الطازجة يضعها في صندوق نحاسي جميل ويضغط على شيء ما فيه فيقوم هذا الجهاز بغسل الفاكهة وعصرها وتجفيفها ثم تحويها الي حبيبات بالورية صغيرة ومن ثَّمَ الى كبسولات صغيرة جميلة الشكل، كل ذلك في بضع ثواني معدودة، ومن ثم يأخذها ” يحيي ” ليقدمها لصديقة حتى يتناول منها ما يشاء ،
ــ تفضل
ــ ما هذا ..؟!
ــ كما ترى عصير نقي وصحي في كبسولات ..
يضحك صاحبنا ضحكة هستيرية وهو يضرب كفاً بكف، وهو غير مصدق ما يحدث له، يتناولها ويقلبها في يده وهوما زال يضحك ضحكة تعجب واندهاش، ثم يصمت فجأة ، ليقول لصديقة يحيي بصوت متعبٍ مجهدٍ منهار :
ــ أنا لست مريضاً حتى تعطيني كل فترةٍ كبسولة لأبلعها في جوفي، أنا أريد أن أشرب ماء أو عصير بجد ،
ــ وهذا هو عصير الفاكهة في ثوبه الحديث ، صحي ومنقاه وبنسب معينه ومعالج بأحدث الوسائل التكنلوجية الحديثة
ــ أنت تريد أن تخرجني من عقلي ، أتريد أن تجنني، أقل لك عصير تعطيني برشامة وتقول لي هذا هو العصير الحديث، ههههه
يقترب يحيي من المكان المفتوح على الطبيعة الخلابة، ويطلب من صديقه بأن ينهض ويتبعه وليخرجا سوياً في نزهة بين الاشجار، ويتمشيان سوياً في المساحات الشاسعة من الخضار الضارب في الافاق ويستمتعا بالطبيعة الخلابة وهو يمد له يده وابتسامته الهادئة العريضة لم تفارق مُحياه ، وفي نفس ذات الوقت يعده بأنه سيخبره بكل شيءٍ ..
ينهض، يقترب من صديقه الذي يشبههُ إلى حد ما إلا انه أقصر منه بعض الشيء، يمسك يده ويخرجان إلى الطبيعة، يتمشيان في المكان فيكتشف انهما ليس وحدهما في المكان وإنما هناك أُناس أخرون كُثر، لكن أشكالهم غريبة بعض الشيء وغير مألوفة بالنسبة له كما يكتشف بأن المكان هو أيضاً غريب، يشبه جزيرة مهجورة في وسط أحد المحيطات ، أو ربما تكون في كوكب أخر، أو ربما في مكانٍ ما في الدنيا لم يذهب إليه قبل ذلك ولم يتعف عليه وإن كان كل شيء فيه يدعو للعجب وللفكر وللتأمل …
وكان يسير بجوار صديقه، وكله فضول وشغف بأن يعرف ما هذه الأشياء..؟!.. وكيف وصل الى هنا..؟!.. وما أصل الحكاية وفصلها..؟!.. وما هي الحقيقة بالضبط ..؟! ..
وتذكر وعد صديقه الذي وعده به وبأنه سيخبره بكل شيء، فجأة، التفت الي صديقه، وطلب منه أن يخبره بالحقيقة كما وعده .. فنظر اليه صديقه ” يحيي ” وطلب منه عدم الاستعجال وأكد له وعده بأنه سيخبره بكل شيء، ومضيا وقتاً في طريقهما صامتين ، حتى شعر بالتعب، يفت في جسده وقواه العقلية فطلب من صديقه بأن يجلسا في مكان ما ليتحدثا فيه فاستجاب له يحيي ، اقتربا من صخرتين على هيئة تفاحتين مجوفتين يجلس “يحيي ” على واحدة وطلب من صديقه بأن يجلس على الأخرى التي أمامه، وهو يبتسم له نفس الابتسامة العريضة ثم طلب منه أن يأخذ نفساً عميقاً ويستريح ، ثم يبدأ ” يحيي ” في الحديث :
ــ الحياة يا فنان فيها أشياء أغرب من الخيال أليس كذلك ..؟!
ــ هذه حقيقة فعلاً أنا معك في هذا لكن ..؟؟!….
قالها بصوت مهزوز ومضطرب ثم صمت يفكر برهة ، لكن صديقه الواثق من نفسه لم يدعه يفكر طولاً قال له :
ــ لكن ماذا ..
ــ لكن أن يصل الأمر إلى هذا الحد الذي أنا فيه الأن فهذا قطعاً مستحيل ، أن ينتقل فجأة انسان وبدون مقدمات إلى الالفية الثالثة هذا مستحيل ومحال ، وتصديقه طبعاً ضرباً من الجنون ..؟!
ــ اصبر عليِّ يا صديقي، مهلا أنتظر لا تسبق الأحداث ..
ــ أنا سأجن ، أنا أريد الحقيقة ، أهل يعقل هذا، لا لا أنا بحلم قطعاً بحلم
ــ وهل كان يعقل في الماضي بأن الأنسان يمكنه أن يطير في الهواء وبمعني أدق يركب الهواء ويحط على سطح القمر وعلى المريخ ويبني محطات في الفضاء يقوم فيها بدراسة الكواكب والمجرات التي تحيط بنا..؟!.. وهل كان يعقل في الماضي بأن الأنسان يستطيع أن يغوص في قاع المحيطات ويكتشف كل هذه الاكتشافات المذهلة ..؟!..
ــ نعم والعلم الحديث كل يوم يفاجئنا ويأتي بما لم يكن متوقع ، ويأتي بأمور تشبه المستحيل، وما لم بكن يُصدق من قبل ، والعلماء كل يوم يفاجئونا بأبحاث واكتشافات غريبة وعجيبة، بل أن الطبيعة نفسها من حين لأخر تدهشنا بأشياء رائعة لم تكن في الحسبان وتكشف لنا عن أشياء لم نكن نعرفها ولا قرأنا عنها من قبل ، معك في كل هذا، لكن أن يصل الأمر إلى هذا الحد، هل يمكن فعلاً بأن يستيقظ إنسان ما في زمنٍ ما ليجد نفسه في مكان أخر وزمان أخر مختلف، هل من الممكن أن يحدث هذا، وهل من المعقول أن نصدق هذا ،
ـ ولما لا يا صديقي ما دمنا متفقين من حيث المبدأ بأننا نعيش في عالم مجنونٍ مليء بالأسرار والألغاز وعصر العلوم والاكتشافات الحديثة والدنيا الغريبة العجيبة مليئة بالأسرار والألغاز..!
ــ أسمع بقى لما أقل لك : نعم من المعقول ومن المنطق أن يحدث هذا الأمر ، نعم ويتقبل العقل هذا الشيء ، لكن في حالة واحده فقط
ــ وما هي يا صديقي الرائع لقد أوشكنا على الاقتناع اذاً ..
ــ في الخيال العلمي وفقط ، وأيضاً قد يتقبله العقل والمنطق في أحلام اليقظة ليس إلا ، لكن أن يفاجأ المرء ليجد نفسه قد انتقل الي زمان غير الزمان ومكان غير المكان سواء كان هذا الزمان والمكان في الماضي أو في المستقبل ، فهذا أمر غريب وعجيب ومستحيل أيضاً بل من رابع المستحيلات بأن يكون حقيقة مستحيل طبعاً، هذا أغرب من الخيال العلمي نفسه، بل أبعد وأغرب من الخيال نفسه ،
يضحك صديقه من طريقة كلامه وتفكيره الساذج، يقوم من مكانه يتمتع بوردةٍ رائعة تحملها أنثي جميلة إليه، يمسكها بيده يشُمها وقتاً، ثم يضع يده في جيبه يخرج شيئاً ما يضعه في يد الفتاة التي تقبل يده وتنصرف، ثم يلتفت إلي صديقه الذي ينظر إليه في صمت وحدة ويقول:
ــ تعالي لنتناقش بالعقل وبالمنطق وبهدوء يا عزيزي ،
ــ أي منطق هذا وأي عقل تريده مني ..؟!!..
ــ نعم أنا أعذرك ، فعلاً اعذرك لكن إن كنت أنت تستبعد هذا يا عزيزي فأنا لا أستبعده اطلاقً ” نفر” لأني أنا عيش فيه بل هو وأقع بالفعل وأنا وأنت فيه ، وأكبر دليل على هذا أنت هنا معنا الأن في الألفية الثالثة
ــ لا لا لا ، أنت تريد أن تجنني بالفعل ، أنا لست في الألفية الثالثة كما تزعم وإنما أنا نائم وبحلم ، نعم تذكرت أنا نائم في القطار، وكل ما هنالك وكل ما في الامر أني أحلم بل أنا في كبوس، هذا حلم ليس الا ،
يضحك يحيي من صديقه ضحكة عالية وطويلة، ثم يصمت فجأة ثم يعاود الضحك من جديد ، ثم يسكت قليلاً وكأنه يفكر في أمرٍ ما ، ثم يضغط على شيء يشبه الساعة في يده ، فتنفرد أمامهما في الهواء طاقة نور ” شاشة هوائية إلكترونية متصلة بالأنترنت” يكتب شيئاً ما في الهواء ، يبحث عن صديقه الكاتب والشاعر والروائي الذي يجلس معه ويحدثه، فتظهر له ملف صفحته واضحة جلية أمامه وفيها كل شيءٍ عنه من أول ما ولد الي أن كان في القطار متجهاً إلى القاهرة لحضور المؤتمر الأدبي الكبير الذي دعي إليه حتى لحظة مجيئهِ الي الألفية الثالثة، ثم يلتفت إلى صديقه ويقول له:
ــ أرأيت يا صديقي العزيز كيف كنتَ في الماضي وكيف جئتَ الي هنا وبأنك لستَ في حلم
وراح يعيد المشهد الأخير مرةَ تلو المرة وهو يحاول أن يكتشف شيء يوصله للحقيقة لكن أخر شيء راه هو أنه رأى نفسه وقد استرخى على الكرسي ، وقد علق عينيه في السقف العربة وسرح بعيداً بخياله ، وهو يفكر في هذا اللقاء الهام، وصديقه يتابع ما يفعل، وهو منتظر ردة فعله
ــ أنا ما زلتُ معتقدا بأني أحلم فلا يمكن بأن يحدث هذا اطلاقاً
ــ حتى بعد أن اتيتُ لك بكل شيء وأثبت لك ذلك واتيتُ لك بكل تفاصيل حياتك الماضية ..؟!! ما زلت مصر على عدم الاعتراف بأنك لم تنقل إلى الألفية الثالثة ..؟!!..
ــ نعم ما زلت أعتقد ذلك بل ومُصِّر على رأي وبعد قليل سأستيقظ من هذا الحلم بل الكابوس الذي أنا فيه، وربما الأن أنظر، وانتظر …
يهز نفسه هزاتٍ عنيفة معقدة، معتقداً تمام الاعتقاد بأنه سيستيقظ فهو يفعل ذلك دائماً عندما يكون في حلم ما ولا يريد أن يستمر في الحلم اكثر من هذا، ولا يريد أن يستمر فيه ، ويعرف بأنه في الحلم، يضرب وجهه بالقلم ظاناً منه بانه سيستيقظ من هذا الذي هو فيه فيفشل ويعاود المحاولة مرة أخرى، وصديقه ينظر إليه وهو يضحك عليه، وهو لا يكف عن المحاولة الفاشلة وصديقه مشفقُ عليه، يقوم من مكانه يقترب منه وقد طوي رفعة الضوء واخفاؤها عنه ، يضمه إليه برفق ثم يربت على كتفه بلطف وهو يقول له بنبرة حانية :
ــ هون عليك يا أخي ودعنا نتفق سوياً الأن على نقطة مهمة
يلتفت اليه لفتة فيها من الجنون وذهاب العقل ما فيها وهو يقول له بصوتٍ عالي خرج عن صوابه واتزانه المعهود وقد نهض ليمد يديه في وجهه صديقه وهو يقول له :
ــ وما هي هذه النقطة المهمة يا فيلسوف ..؟!
ــ أتفق معي يا صديقي أن كل شيء ممكن الحدوث في هذه الحياة ومحتمل الوقوع أليس كذلك، بل العقل البشري يقول هذا، والعلم الحديث أثبت ويحاول أن يثبت هذا وأكثر من هذا بل أن العلم الحديث ليس له خطوط حمراء يا عزيزي
ــ وما دخل هذا بذاك
ــ العلم له أراء وشطحات تتعدي حدود العقل والمنطق وقد تصل في كثير من الاحيان إلى درب من دروب الجنون وللامعقول …..
يصرخ في وجهه وقد نفذ صبره بنبرة قويةٍ وحادة
ــ اللامعقول أني هنا ..؟!!
يُكمل صديقه في هدوء، وقد قام ليمسك بيد صديقه ويسير به إلي حيث جاء معه، فالوقت قد قرب على النفاذ والبيت الذي يسكن فيه قرب على الإقلاع من مكانه ، ليقول له ..؟!،
ــ ولا أدل على ذلك من الاكتشافات والاختراعات التي توصل إليها العلماء والعلم الحديث والتي تشبه المعجزات وقد تصل إلى الخوارق احياناً، فمن كان يصدق في القديم إن الانسان يستطيع أن يطير في الهواء وأن يبني له بيوتا فوق الماء أو أن يحط على سطح القمر أو المريخ مثلاً، ويغوص في قاع المحيطات ويصطنع الغواصات والصواريخ والطائرات وعربات البرمائية الطائرة .. الخ ..الخ …
يقتربا من الحائط الزجاجي يطلب منه بأن يدخل معه بسرعة في البيت، فما كان منه إلا أن يستجيب له دون أرده منه أو اختيار أخر وكأنه تحت تأثير شيء ما لا يعرف ما هو .. وهو في شبه انهيار عصبي.

ــ نحن الآن ندور فوق الولايات المتحدة الأمريكية ـ قديماً ـ وتحديداً نحن نمر فوق ولاية بوسطن
قالها “يحيى” وهو ينظر إلى جهاز البوصلة المعلق على الجدار ،
ــ ……………..
نظر إليه وهو يحاول أن يجمع كل قواه العقلية المنهارة ماسكاً رأسه بين يديه متظاهراً بأنه مصدقاً له فيما يقول ، وكان يستمع إليه وهو يهز له رأسه وهو فاغر فاه وقد جلس كل منهما أمام الآخر ، بينما يكمل “يحيى” حديثه بشيءٍ من الحماس والاهتمام مع ابتسامة خفيفة على وجهه قائلاً لصديقه :
ــ أنت طبعاً مستغرب ومندهش من كلامي هذا ، صدقني أنا لا أكذب عليك فيما أقوله لك ..
وهنا خرج الرجل من صمته ليقول له وهو يحاول أن يخفي انفعاله بنبرة ساخرة ، تهكمية :
ــ عادي جداً ، ألست تقول أنَّا نعيش في الألفية الثالثة .. إذاً لما العجب في هذا ، ولما لا أصدقك يا عزيزي هههههه
وراح يقلب كفَّيه ويضربهما ، يقترب منه “يحيى” ليربت على كتفه وهو ما زال مبتسماً ابتسامته المعهودة تلك الابتسامة الهادئة التي لم تفارق مُحَيَّاهُ ووجهه البشوش وهو يقول له:
ــ أنا سعيد جداً أنك أخيراً ابتدأت تقتنع وتصدق وتستوعب الموقف .. ياااه …
يصرف الرجل نظره سريعاً على شيء غريب جاء ومر من ناحية الشمال ، لم يتوقف عنده كثيراً ، ولم يتأخذ مما رآه ، ولم يرتجف له ، وإنما أعاد النظر إلى صديقه “يحيى” وبكل هدوء وبصوت ضعيف ورباطة جأش قال له :
ــ وعليك أنت اذاً أن تخبرني وتعلمني كل شيء في هذا العالم الجديد الذي انتقلتُ إليه ،
ــ حباً وكرامة ، سأخبرك ، وأشرح لك ما قلته لك منذ قليل وأرجوك أن تستوعب ما سأقوله ،
ــ أكيد ، أكيد يا صديقي الوحيد في الألفية الثالثة ..
قالها له وهو يهز رأسه بادي الإنصات له والاهتمام بما سيقوله صديقه الوحيد :
ــ نحن يا صديقي في عصرنا هذا ـ في الألفية الثالثة ـ نعيش في أبراج زجاجية معلَّقة في الهواء متصلة بالكواكب والنجوم ، تصور نحن نعيش في بيت ضمن مجموعة أبراج تسمى
” النحلة الجبلية ” معلقة في كوكب” نيبتون” الكوكب الأزرق ، فالأسعار غالية جداً يا صديقي والمساكن أثمانها نار ، لذلك اكتفينا بهذا البيت ،
أمسك الرجل رأسه بيديه الاثنين مرة أخرى ، وقد شعر بصداع يكاد يفلق رأسه نصفين ، لأنه تذكر أنه لم يشرب شاي منذ مجيئه إلى هنا ولا سجائر أيضاً ، وهو محاولاً أن يُبدي هدوءً مصطنعاً ، قائلا ً له وهو يضحك ،
ــ أنت هــ تقول لي ، بس ازاي ، بس معقولة ، وأنتم كمان عندكم أزمة مساكن ،
ثم ضحك مواصلاً كلامه وقد أخذ الحديث إلى مسار أخر ،
ــ طاب ما فيـ ش عندكم شاي ،
قالها ، وضحك الاثنان معاً ،
يقاطعه “يحيى” ولا يدعه يكمل ، فقد شعر بالإحراج وبأنه قد أثقل علي الرجل في الكلام ، فأراد أن يجاريه فيما يقول بروح الفكاهة والمرح
ــ طبعاً في شاي ، ثواني ، ضغط “يحيى” على الحائط فخرج الشاي على صينيه جميلة وأنيقة ، أمسكها الرجل في يده ونظر فيها فوجد الشاي عبارة عن مشروب غريب لم يره من قبل ، قرَّبه منه ليشمه بأنفه ، فاشتم رائحة غريبة لا تشبه رائحة الشاي الذي يعرفه فسأل صديقه : ــ ما هذا ..؟!
ــ شاي .. ألم تطلب شاي ..
ــ نعم ولكن هذا أي شيء إلا أن يكون شاي
ــ كل شيء تطور يا عزيزي ، تفضل
ــ آاه نيست أني في الألفية الثالثة ..
تناولَ رشفة من الفنجان وصديقه “يحيى” يكمل حديثه معه
ــ تصور يا عزيزي أن الواحد منَّا لا يستطيع الزواج من غلاء الأسعار في هذا الزمان
ــ ………………….
وظلَّا هكذا يتحدثان وقتاً لا بأس به حتى لمح الفتاة “مريم” وقد خرجت تواً من غرفتها ، واتَّبعتها أمها التي تبدوا أصغر منها سناً فطلب منه بأن ينهض ويتبعه حيث طعام العشاء ، فقد جاء ميعاده ، فشكر صنيعه واعتذر له معللاً ذلك بأنه لا يشعر بالجوع الآن ، لكنه أصر
علي ذلك لكي يتناولوا طعام العشاء جماعة ، أمسك بيده وانطلقا به إلى حيث غرفة الطعام ،
يدخل معه الغرفة ، يجلس معهم حيث جلسوا على مائدة مستديرة ليس عليها شيء من طعام أو شراب ، اللهم إلا بعض الأيقونات الصغيرة الغريبة ، وبدأ يرسل عيناه لتدور في الغرفة ليستكشف كل شيء فيها ، رأى الفتاة وهي واقفة تُخرج من خزانة صغيرة أمامها بعض الأساور التي تشبه ساعة اليد ، تعطي كل واحد منهم إسورة وتطلب منه بأن يضع هذه الإسورة في يده ، لم يندهش ولم يستغرب ولم يسأل أيضاً لماذا يفعلون ذلك ، تناول الإسورة من أمامه ووضعها في يده مثلهم في صمت ، وانتظر ماذا سيحدث بعد ذلك ، برهة من الوقت أخرجتْ فيها الفتاة جهازاً صغيراً بحجم كفة اليد من أحد الأدراج وراحت تنظر فيه ، بينما ” يحيى” كان يقدم صديقه لأمه المتصابية وهي تعبث بشعرها وهو ينظر إلى الفتاة ولا يفتح فمه منتظراً ماذا سيحدث بعد ذلك ، وكأن مطراً نزل عليه من السماء فجأة جعله يرتعش وقد نزل عليه شيء من الصمت والهدوء ، ينتبه فجأة لصوت المرأة الجميلة أمهما وهي ترحب به وهو يرد عليها التحية بكلمات مقتضبة وعينه لم تزل على الفتاة التي تُعِدُ بعض الأشياء الغريبة وهو يرقبها ليعرف ماذا تفعل في هدوء ، وأخيراً قدمتْ الفتاة أمام كل واحد على المنضدة طبقاً به بعض الكبسولات التي قد أعدتها ولم تنس بأن تضع أمامها هي الأخرى الطبق الخاص بها ثم جلست وهي تقول لهم :
ــ تفضلوا بالهنا والشفا ،
فيتناول كل منهم الكبسولات الصغيرة ويضعها في جوفه ، ما عداه هو ، ظل ينظر إليهم وإلى الطبق الذي أمامه باستغراب ولم يمد إليه يده ، فطلبوا منه بأن يتناول عشاءه حتى ينصرفوا..!
ــ ما هذا ..؟!
ضحكت الفتاة وأمها من سؤاله مع نبرة صوته ولهجته المميزة التي أتى بها من الزمن الغابر بينما “يحيى” قال له بصوت هادئ وابتسامته الجميلة لا تغادر وجهه البشوش
ــ إنه طعام العشاء يا صديقي العزيز ، إنه طعام لذيذ حقاً ، ذقه وستعرف بنفسك ..!
الفتاة وأمها تواصلان الضحك فيشاركهما الرجل مع “يحيى” صديقه وظلوا يضحكوا حتى ضجَّ المكان بالضحك وفجأة يصمت الجميع ليواصل “يحيى” حديثه لصديقه بصوت يحمل نبراتٍ جادة :
ــ سأخبرك يا عزيزي بكل شيء ، بما رأيتَ ، وبما شاهدتَ ، لا تقلق ..!
تقاطعه أخته “مريم” تلك الفتاة الجميلة التي لا تتعدى التاسعة عشر ربيعاً لتقول لأخيها في حماس وقد قامت من مكانها وهي ترمي يديها في الهواء في كل اتجاه ،
ــ لا ، لا ، أنا التي سأخبره ،
ــ تفضلي .. تفضلي
ــ أنا كنتُ أراك وأنتَ تتابعني بنظراتك تريد أن تعرف ماذا أصنع .. حسناً ، سأخبرك ، تلك الأساور التي في أيدينا والتي تشبه الساعات في زمانك ما هي إلا جهاز صغير يوضع في اليد ليقيس مدى احتياج الجسم إلى الطعام وما العناصر التي يحتاجها وما الكميات المطلوبة بالضبط ثم يظهر ذلك كله في هذا الجهاز الذي تراه أمامك على المنضدة ، ثم قمتُ بتركيب تلك العناصر بالكميات المطلوبة ووضعتها في هذه الكبسولات التي أمامك على هذا الجهاز والتي لا تريد أنت أن تتناولها ، أظن الآن وضح كل شيء لك ، ويمكنك تناول طعامك بسلام ..
ــ وأين الطعام ، أين الفاكهة وأين الخضار وأين اللحمة وأين الدجاج والشواء وما شابه..؟..
قالها لهم بطريقة ظريفة ساخرة فضحك الجميع من كلامه وأسلوبه الغريب في الكلام ،
وهنا تتدخل الأم في الحوار لتقول له :
ــ أنت انسان ظريف جداً ، وطيب ، وأنا لا أعرف ماذا أقول لك ، لكن ستتعود على ذلك ، وأتمنى أن تظل معنا ولا تفارقنا أبداً ،
يشكرها بابتسامة باهته وبعض الكلمات اللطيفة وقلبه لا يتمنى ذلك أبداً ، ولسان حاله يُكذب ما يقول بلسانه ، يتناول عشاءه” الكبسولات الثلاثة الصغيرة مع جرعة ماء” ثم ينصرف الجميع ليأخذوا قسطاً من الراحة ،
تذهب الأم مع بنتها إلى غرفة نومهما ، بينما “يحيى” يأخذ صديقه إلى غرفة نومه ليستريح..
“يحيى” شاب انطوائي ليس معه أخ ، وأصدقائه قليل جداً ، ودائماً يشعر بالوحدة ، مات أبوه وترك له حملاً ثقيلاً وضعه على كاهله ، فكان عليه أن يعمل ليصرف على البيت وتعليم أخته ، وفي ذات الوقت كان يدرس حتى حصل على شهادة علمية أهلته بأن يعمل عملا مهماً ” …
دخلا غرفة النوم ، فوجدها مليئة بالأجهزة الإلكترونية والتي لا يعرف شيئاً عنها البته ، ضغط “يحيى” على شيء في الحائط فانقسمت الغرفة إلى غرفتين متساويتين بينهما حائط جرار أشبه بالسور الحديدي ، ثم أخرج له دولاباً به مجموعة من منامات وطلب منه أن يغير ثيابه فشكره وأخبره بأنه يحب أن ينام بثيابه التي يرتديها ،هذه عادته ، ولا يمكن تغييرها ، فاحترم رغبته في ذلك ، ثم سأله إن كان يريد النوم فيغلق عليه الجدار ليستقل بغرفته أم يريد أن يتحدث معه قليلاً ، فأبدى له رغبته بأن يظل مستيقظاً ، فهو من هواة السهر أصلاً ، فأخبره بأنه عكسه تماماً ، ولكن نزولاً على رغبته سيظل يتسامر معه لبعض الوقت لحين يأتي ميعاد نومه ثم يستأذن منه لينام ، فبادره بالسؤال قبل أن يجلس على أريكته :
ــ أنا أريد أن أعرف منك كيف عرفتني عندما رأيتني هناك لأول مرة ..؟!!
فرد عليه بكل هدوء وثبات :
ــ بما أن المادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم هكذا نحن يا صديقي ،
ــ أنا أعرف ذلك ، لكن كيف حدث هذا ، وضح أكثر لو سمحت ..؟!!
ــ الكون يا عزيزي مليء بالأسرار والألغاز وأنت تعرف ذلك جيداً ومع ذلك سأخبركَ ،
كان في الماضي في زمانكم حلم كبير يراود العلماء ، هذا الحلم هو أن يُستدعى ويستخلص الانسان الأصوات والصور للذين رحلوا وللقدماء من الفضاء وعلى ما أظن وأعتقد بأن هذا الحلم كان أول من حَلُمَ به هو الرئيس الأمريكي “رونالد ريجان” وظل الانسان يحاول ويحاول حتى وصل في عصرنا هذا إلى مبتغاه وإلى طريقة عجيبة وغريبة استطاع من خلالها بأن يستخلص بها الأصوات والصور التي مضت من سنيين ، من مكانٍ ما في الفضاء .
ـ أظن أنا قرأت شيئاً من هذا القبيل في الماضي ، لكن كل ذلك كانت مجرد نظريات في الهواء ،
يضحك “يحيى” وهو يضغط على شيء ما في يده أشبه ما يكون” بالريموت كونترول ” فتظهر أمامهما شاشة عرض هوائية كبيرة أشبه ما يكون بشاشة السينما معلقة في الهواء ثم يلتفت لصديقة وهو يقول له :
ــ أنت تعرف أن للكرة الأرضية غلاف جوي يحيط بها من كل جانب ليحميها من الأشعة الضارة الآتية من الفضاء البعيد والكواكب الأخرى وخاصة الشمس وبالتالي هي تحجز وتحجب من الداخل الصوت والصورة معاً من التسرب إلي الفضاء الخارجي المتسع الرحب فكل الأصوات والصور التي تحيط بنا من كل جانب ، أصوات العربات ، والبشر ، والحيوانات والطائرات ، وأمواج البحار ، وحفيف الاشجار ، الخ ، الخ ..
مازالت موجودة يا عزيزي وحاضرة داخل الكرة الأرضية إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى ، وقد استطاع العلماء في هذا الزمان الوصول إلى تقنية حديثة ” اكتشاف ” تمكنوا به استدعاء هذه الموجات ذات الطاقة المحدودة والمتباينة وعرفوا مكانها واستطاعوا أن يعيدوها كما كانت واستطاعوا أيضاً من خلال هذه الطريقة التي هي عبارة عن جهاز يستطيعون الوصول به إلى الأصوات والصور التي تسبح في الفضاء واستخلاصها ، وترميمها ، وتمييزها من بعضها وتحميلها على شرائح إلكترونية حديثة ، تُباع الأن في الأسواق ،
ــ لكن كما قلت لك أن بعض العلماء استبعد هذه الفكرة تماماً وقالوا بأن تلك الجزئيات وذرات المواد كالجبل والجدران والصخور تتأثر تأثيراً محدوداً بموجات الطاقة المنبعثة من الأشياء ثم تعود كما كانت لوضعها السابق لذلك يستحيل فعل هذا ، أتفهم ..!!
ـ نحن عندما نتحدث يا صديقي العزيز معاً تخرج منا موجات صوتيه يدخل جزء منها في الأذن والباقي يسبح في الفضاء المتسع كما شرحت لك وتسبح عبر الأثير فتعبر الأجواء وقد تتحول وتنعكس وقد تضعف وهذا يدل على شيء واحد فقط لا غير بأن كل شيء في هذا الكون وهذا الوجود حدث وسيحدث ما زال موجوداً إلى الآن في الفضاء الخارجي الواسع وفي مكان ما هناك وهذا ما اشتغل عليه العلماء في عصرنا هذا وحققوا فيه نجاحاً كبيراً في العصر الحديث في الألفية الثالثة كما ترى ..
ــ ………………….
لحظة صمت ينظر كل منهما فيها إلى شاشة العرض المعلقة أمامهما في الهواء دون حامل
وفجأة يقطع هذا الصمت صوت “يحيى” وهو يقول لصديقه بعدما نظر إليه وهو يبتسم :
ــ تحب تشاهد نفسك وأنت صغير ، ولا وأنت صبي ، ولا وأنت شاب ، ولا … ولا ..
يقاطعه الرجل بحماس ولم يدعه يكمل بعدما يكون قد انتفض من مكانه وقد أولى الأمر اهتماماً
ــ أحب أن أرى نفسي لحظة تحولي ، ولحظة دخولي إلى الألفية الثالثة لأعرف كيف جئت إلى هنا كما تزعم ، هل هذا ممكن ..؟!!
ــ هذا صعب يا عزيزي ..
ــ وما الصعب في هذا ، ولماذا ، ولما ، ألم تقل بأنكم توصلتم إلى كل هذه الأمور في هذا الزمان ، أمرك عجيب يا أخي ..؟!! …
ــ اعفيني من هذا أرجوك ..؟! .. الإجابة صعبة ..!!
ــ لا لن أُعفيك من هذا أبداً ، أريد أن أعرف كل شيء ، أظن من حقي أن أعرف ، كيف جئتُ إلى هنا ، وكيف سبقت الزمن ، أنا أعرف هذا يمكن أن يكون في الخيال العلمي ، أو في الأحلام مثلاً ، أما في أرض الواقع فهذا صعب ومستحيل ..؟!!
ــ تعرف قصة أهل الكهف الذين أووا إلى الكهف وماتوا ثم أحياهم الله بعد ثلاثمئة سنة بالتقويم الشمسي وازدادوا تسعاً بالتقويم القمري ، وكانت تلك آية ومعجزة من الله عز وجل وكرامة لهم ،
ــ لكن أنا لم أمت ، ثم أنا أمامك الآن ، تقصد اني متُ ، أشعر بأني في حلم أقرب منه إلى كابوس فظيع ، أنا كيف حدث هذا معي كل هذا ، لا أدري .. أكادُ أُجَن ..؟!!
يضغط الشاب الوسيم ” يحيى” على نفس الجهاز الذي في يده لتختفي فجأة صورة الرجل والشاشة من الهواء ، ثم يلتفت إلى صديقه وقد بدى على وجهه مسحة من الحزن والتأثر والتعاطف مع الرجل وقد اختفت الابتسامة من على وجهه البشوش ، ليقول له :
ــ أنا يا صديقي لا أقصد هذا أطلاقاً ، الذي وصلك لا أقصده ، أنت لم تمت بالفعل صدقني ، أنا حزين جداً لأجلك ، ويؤسفني أنِّي لا أستطيع مساعدتك في هذا الأمر ، ليتني أستطيع مساعدتك بالفعل …
ثم يصمت للحظات وكأنه يفكر في أمرٍ ما هام قد عنى له ثم يكمل بنبرة منفعلة ينطق ليقول له
ــ أنا لم أحضرك من عالمك ، أنت الذي أتيت إلينا ، ونحن لم نأتي إليك ، ولا تسألني كيف أتيت ، لأني لا أستطيع أن أُجيبك عن هذا السؤال الصعب ،
ــ أعرف ذلك جيداً ، لكن أنا أريد أن أعرف لماذا جئتُ ..؟.. وكيف جئتُ ، ولما ، وإلى متى سأظل هكذا ، وهل سأعود مرة أخرى إلى عام ” 2021 ميلادياً “؟!!.
في الصباح يستيقظ الجميع إلا هو فانه لم ينم أصلاً ، فقد ظل طول الليل يفكر فيما حدث له ، وفي كل ما يحدث حتى كاد عقله أن يتوقف من كثرة التفكير، ولم يستطع أن يستوعب كل هذا الكم من الاشياء الغريبة التي تحدث حوله ، وهو لا يكاد يصدق نفسه ،
يسمع أصوات العصافير والحمام من حوله لكنه لا يرى شيئاً، يتساءل في نفسه
“هل يعقل هذا ، أو هل يُصِدق العقل هذا الكلام ، هل يعقل أن ينتقل بين غمضة عين وانتباهها إلي الألفية الثالثة، في غمضة عين ، وهو لم يزل في القرن الواحد والعشرين مستحيل طبعاً ،
نعم هو قرأ عن هذا في الكتب الصفراء والبيضاء الشيء الكثير بل وشاهد عشرات الأفلام والفيديوهات التي تتحدث عن هذا الأمر وكثيراً من القصص التي عالجت هذه الفكرة في السينما أيضاً ، لكن كل هذا كان لا يتعدى كونه خيالاً في خيال برؤوس مؤلفين شطحوا بعيداً بعقولهم وتخيلوا هذا الأمر ، وراحوا يحلمون به، وهو واحد منهم ، لكن أن يصبح كل ما قرأه في الكتب وما شاهده في الأفلام من خيال إلى حقيقة يعيش فيها هذا شيء محال وفوق الخيال نفسه ” ،
يرجعه من تفكيره وشروده صوت هذا الشاب النائم بجواره “يحيي” وقد استيقظ توًا، يخرج من منامته البنفسجية وهو نشيط ، ليرتب غرفته الصغيرة ، ويعيد كل شيء على ما كان عليه من قبل وذلك بمساعدة الانسان الآلي الذي اشتراه من أول راتب له ليقول له وقد قام من مقامه ، ليُجري بعض التمرينات الرياضية التي تعود عليها كل صباح وقد خرج من شرنقة نومه البنفسجية ،
ــ صباحك سعيد صديقي العزيز ،
ــ ………………………….
ــ يبدو أنك لم تنم جيداً ليلة أمس ،
ــ ……………………….
يكتفي بالنظر إليه وهو يهز له رأسه بالإيجاب، يبادره صديقه “يحيي” وهو يقول له بعدما
جلس لجواره بعد فراغه من التدريبات الصباحية ، وراح يجري محادثة مع أصدقاه في العمل
ثم يعود لما كان علية من تمارين صباحية :
ــ هيا يا صديقي كن معي ، ألا تحب الرياضة ، إنها مفيدة جداً للجسم والعقل معاً
ــ …………..
كان يستمع ‘ليه وهو يبحث عن سجائره التي نفذت وفرغت منذ ليلة أمس لعله يجد واحدة يُشعلها وينفخ فيها كل ما بداخله من حنقٍ وغيظٍ ، وأشياء أخرى غير مريحة بداخله ..
بحث في جيوبه أكثر من مرة ، فلم يجد شيئا ، فهداه تفكيره بأن يبحث في حافظة نقوده ، فكثيراً ما يضع فيها سيجارة أو سيجارتين وبالفعل وجد ضالته ، سيجارة مكسورة ،
ينتهي ” يحيي” من تمارين الصباح ، يدخل الحمام ليأخذ دش من الماء الفاتر، بينما صديقه يجلس في وجوم وحيطة وحذر متحفزاً لأي شيء خائفاً يترقب ،
تذكر أنه كان قد وضعها في حافظة نقوده حتى يشتري لها دفتر” بفرة “، وقبل أن يمد يده إليها أخرج هويته ، بطاقة تحقيق الشخصية، قرأ بياناتها ، الاسم ، السن، العمل ، العنوان ، الرقم القومي ، وقبل أن يضعها مكانها ، صدمت يده ورقة كبيرة بعض الشيء فظن أنها ورقة يقبع بداخلها احدى القصائد التي كان قد كتبها ، سرح بعقله بعيداً للحظة وتذكر أنه طبع له خمسة دواوين شعر ، وكذلك ستة مجموعات قصصية، ورواية جديدة في عام واحد فقط الفين وواحد وعشرون ” 2021 ” وكتبه تجوب المعمورة كلها وتتصدر قامة المبيعات في المعارض، وتذكر أيضاً أنه كان في طريقه لاحدي المؤتمرات الأدبية المهمة التي دُعي إليها ووُجِهتْ له دعوة رسمية من وزارة الثقافة، وتذَكر أيضاً أنه كان في القطار قبل أن يجد نفسه في هذا الكابوس وهذه التوهة ،…
خرج من تداعياته سريعاً لينظر في الورقة التي ترقد في حافظة نقوده بجوار بطاقته الشخصية، أخرجها، نظر فيها، يقرأ ما في جوفها، هو يبتسم في نفسه، وهو يتمتم
” إنها روشته طبيب ” قرأ اسم الطبيب .. فتذكر .. أنه كان قد قام بالكشف عنده بعدما أصابته نوبة برد شديدة مع نوبة صرع.. فكثيراً ما يأتيه هذا الدور” البرد ” وخاصة في الشتاء حتى صار يكره فصل الشتاء ويعده من ألد أعدائه ، لكن الشيء الذي أدهشه هو أنه لم يتم العلاج بعد فالتاريخ والارقام التي على ” الروشته ” يشير بأنه لم يُعد الكشف بعد عند الطبيب ، واصل القراءة ، تذكر أنواع الدواء الذي كتبه له الطبيب ، تذكر ، وتذكر،
وتذكر أيضاً كلام الطبيب له وهو يبتسم في وجهه ويهدِّئ من روعه ،
ــ الموضوع بسيط ولا يستدعي كل هذا القلق والتوتر ،
ــ عندي ايه يا دكتور .. صارحني أرجوك
ــ قلت لك الأمر بسيط وهين ..
ــ كيف ..؟!.. ماذا.. ؟!
ــ دور برد يا سيدي ، وستأخذ هذا العلاج وتشفى منه إن شاء الله تعالى ..
ــ ربنا يجعلك سبب يا دكتور، ولكن هذا العلاج فيه مهدِّئ للأعصاب ، يعني نوع من أنواع الادمان يا دكتور ..
ينظر إليه الطبيب نظرة تعجب وهو يرفع يده وعينه من فوق الورقة ” الروشته ” ليقول له بنفس ذات الابتسامة التي اتسعت على وجهه حتى بانت أسنانه البيضاء :
ــ مين قال كده ، لا يا سيدي ، ده بس عشان التوتر الذي لديك والانفعال الذي عندك عشان تهدأ وتنام بالليل ، ولا تفكر كثراً ، وأشوفك مرة ثانية إن شاء الله بعد أربعة أيام ..!!
يمد يده وهو يشكره، فيضغط الطبيب على الجرس، وهو يمد يده ليودعه، وينصرف ..!
عاد ليجد نفسه في نفس الكابوس المزعج ، كوَّر ورقته ” الروشته ” ثم وضعها مكانها ، وجلس ليشعل سيجارته، وراح يسأل نفسه، وهو يحاول أن يخرج من هذا المأزق وذاك الكابوس المزعج وهو يسترسل في تداعياته ، وتفكيره ….
” أيكون فعلاً كما قال الطبيب بأن كل هذه أوهام ، وبأني متوتر ومضطرب ويلزمني الهدوء والراحة، أيكون فعلاً كل هذا بسبب هذا الدواء الذي كتبه الطبيب لي، جعلني أهذي، وبأن كل هذا أوهام في أوهام برأسي بسبب هذا الدواء اللعين ، وأن الأمر لا يتعدى كونه كابوساً في منام وفقط ، وكل هذا ما هو إلا مجرد تهيؤات .. ”
أعاده إلى نفسه صوت صديقه وهو يسأله .. ماذا كان يصنع آنفاً ..؟!!، ..
فأخبره بأنه يشعل سيجارة ،..
لكنه أعاد سؤاله مرة أخرى وسأله عن الورقة التي كانت في يده ، فاقترب منه ، همس في أذنه ــ ماذا كنت تقرأ ..؟!.. وما الذي كان في يدك ..؟!،
فهذا الأمر كان غريباً بالنسبة له وألفت انتباهه ، فهز رأسه وأجابه دون اكتراث ليجيب فضوله ــ روشته طبيب ليس إلا .. ،
فضحك “يحيي” حتى مال على ظهره وهو يقول له :
ــ أرني ماذا كتب لك ..؟!..
يُمسك الورقة “يحيي” من صديقه القادم من العالم الماضي بعدما كان قد أخرجها له، وراح يقرأ ما فيها في صمت ثم نظر إليه هو يضحك ، في تعجب، وقال له:
ــ ما الذي يضحكك أيها الفتى ..؟!.
دفع إليه لورقة وهو يقول له ويواصل ضحكه
ــ هذه أشياء كانت في الماضي وعفى عنها الزمان يا صديقي، نحن في الالفية الثالثة ،ألا تعلم ذلك ، كل شيء هنا يعمل بحساب دقيق، وليس هناك احتمال خطأ ولو واحدٍ في المائة
كان يستمع إليه وهو يدفع الورقة في جيبه دون مبالاة لما يقول ، وواصل شحذ نفسٍ عميق من سيجارته الأخيرة، ثواني معدودة يحدق فيها بعيداً ، وكأنه يفكر في أمر ما ..! ،
ثم التفت إلى صديقه وهو يقول له :
ــ أنا لم أصدق بعد أني في الألفية الثالثة، والأمر لا يتعدى بالنسبة لي كونه كابوساً لعيناً، وسأستيقظ منه حتماً،
ــ لا عليك يا عزيزي، ولكن هيا بنا الأن إلى غرفة الطعام لقد تأخرنا كثيراً والعائلة في انتظارنا ..!،
ــ أنا لست بجائع ،
ــ حسناً لكن لابد من الجلوس مع الأسرة، والعرض على الجهاز ..!
ــ أي جهاز .. ؟!..
ــ لا تخف يا صديقي فإنه جهاز الطعام ، ليس جهاز كشف الكذب، ألا تعلمه، أنسيته ..!!
ــ حتى ولو كان، ليس لي رغبة في الأكل الآن
ــ ولكن هذا البروتكول، والنظام عندنا لابد منه، أم تريد مخالفة النظام يا صديقي ..!
قالها له وهو يقترب منه وهو يهمس في أذنه ،
ــ ثم لا تنسى الدفء والترابط الأسري ،
وأمسك بيده وخرج معه إلى غرفة الطعام ، ليجد أمه وأخته مريم في انتظارهما ،
وكان في الطريق يحدثه عن أهمية الترابط الأسري الذي أغفلوه في الماضي ، وهو لا يسمع إلا أصوات الكواكب والنجوم التي تدور في الفضاء البعيد ،
يدلف يحيي إلى غرفة الطعام ومعه صديقه وهو يقول :
ــ صباح الخير ماما ، صباح الخير مريم
ــ صباح السعادة والسرور، حبيبي ، كيف حال صديقك البارحة ،
ــ بخير يا أمي والحمد لله رب العالمين
يتناول الجميع طعام وجبة الفطور ، وهو ينظر إليهم ، وينتظر أن يفرغوا لينصرف كل منهم إلى ما يجب أن يفعله ،..
” يحيى” يأخذ صديقه في رحلة معه إلى مقر عمله حيث مصنع البذات الفضائية ، وذلك بعدما يكون قد أعطاه بذة طائرة من بذاته القديمة ، وعلمه كيف يستخدمها، ومتى يطير بها ومتى يتوقف ومتى يُهدِّئ من سرعته ، فتلك البدلة الطائرة في مستوى جسده ، وهو أيضاً على قدر كبير من الذكاء الذي يجعله يتعلم منه بسرعة ، فهو مولع بالإلكترونيات منذ الصغر وكان يتمنى ان يكون مخترعاً كبيراً يشار له بالبنان لكن الظروف لم تتهيأ له ولم تساعده الحياة على ذلك ،..
إلا أنه كان يحب القراءة كثيراً بنهم في كل شيء، وخصوصاً في هذا الأمر لدرجة أنه لم يدرس الإلكترونيات ومع ذلك عندما اشترى جهاز الكمبيوتر وكان وقتئذٍ حديث العهد به ، استطاع أن يُعلِّم نفسه بنفسه وليس هذا وحسب وإنما أيضاً تعلَّم الصيانة وبرع فيها، وكأنه قد حصل على دورتين ” هاردوير ، وسوفتوير “، وهو لم يفعل ذلك …
وراق له الأمر وهو يرتدي تلك البذة الطائرة التي تشبه بذة رواد الفضاء الذين كان يشاهدهم في المحطات الفضائية التابعة لوكالة ناسا الفضائية ،
ضبط “يحيى” كل شيء ، السرعة، الوقت ، ودرجات الحرارة لتلائم الجو خارج السكن ، والمدة المحددة للسرعة ،
وراحا يُحلقان في الفضاء البعيد دون أن يتهيب الوضع وكأنه في عالم خيالي، فقد اكتسب خبرة لا بأس بها من ليلة أمس ومن توجيهات صديقه ” يحيى” فضلاً على أنه عنده روح المغامرة والتحدي، والفضول لاستكشاف شيء جديد في للألفية الثالثة حتى ولو كان هذا مجرد كابوس في حلم من وجهة نظره ،
تلمس يده شيئاً ما في بزته الطائرة دون قصد منه فجأة يختل نظام التشغيل فيحدث خللاً ما يعطل الأنظمة يختل توازنه فيسقط فوق المباني المصنوعة من الألياف الكهرومغناطيسية يقترب منه صديقه بسرعة البرق ، يمسك بيده حتى لا يصاب بأذى، أو مكروه ، وهو يعنفه ، وفي نفس الوقت يحاول أن يصلح له النظام حتى لا يصاب بأذى أو سوء ، وبعد محاولات دؤوبة منه لم يتمكن من ذلك ، ولم يستطع أن يمنع سقوط صديقه، فاضطرا هو وصديقه أن يهبطا هبوطاً اضطرارياً على إحدى السحب الكثيفة التي وجدها أمامه ، حتى يفعل شيئاً آخر، فكر فيه حتى يستطيعا أن يخرجا من هذا المأزق الشديد ….. يتابع

السابق
غصة
التالي
أشجار يابسة

اترك تعليقاً