القصة القصيرة

نظارة سوداء

قررتُ أن ارتدي نظارة سوداء. كنت أود اخفاء مشاعري وكذبي واحتيالي وسخريتي ، لأن كل الناس تقرأ مافي عيني فتكشف ألاعيبي ،لا أحب أن أكون واضحاً و مكشوفاً لكل غبي وأحمق ،أريد أن أمارس حريتي لوحدي ، فقد اعتدت على إرتدائها حتى في النوم. معارفي وأصدقائي إذا مررت بهم مصادفة في طريق ما لا ألقي عليهم التحية، وإن عاتبني أحدهم ،أقول له أنا نظري ضعيف لا أرى الأشياء بوضوح كنوع من الاعتذار. أصدقائي و معارفي ، بداوا يتغامزون ويدلقون ألسنتهم سخرية مني كلما رأوني .
ثم انتشرت تلك العادة بسرعة إلى كل الناس ..كل شارع وميدان أمر فيه، ،أشاهدهم يسخرون مني ويتراقصون كالقرود، ربما اكتشفتُ متأخراً أن طريقتي هذه أفادتهم كثيراً، فقد رفعوا برقع الحياء بحجة السخرية مني ،الجميع يرقص بطريقته الخاصة، حتى الذين كانوا يتمتعون بالهدوء والرصانة والجية وجدوها فرصة لمارسة مايعتمل في نفوسهم .
بمرور الأيام تحولت تلك المدينة إلى مهرجان كبير لممارسة الحريات ، تغيّرت طباع الناس الذين أعرفهم والذين أجهله، حتى رئيس البلدية دأب على الرقص كلما خرج يتفقّد ميدانياً أحوال الرعية.. الأغاني انتشرت، والموسيقى العالية تصدح في كل مكان، تحوّلت المدينة إلى صخب غير طبيعي، حتى صبيان المدينة بدأوا يشكلون جوقات وجوقات للمشي ورائي يتراقصون فرحين. استدعاني مسؤول البلدة وأعلن عن إقامة مهرجان كبير ليقلدني فيها وسام الفروسية من الدرجة الأولى ،واثنى عليّ ثتاءاً كبيراً وتلا بياناً يصفني فيها بصانع الفرح والسعادة .
وأصدر قراراً بمنع صناعة أي نظارة سوداء، ومصادرة النظارات السوداء حصرا من الأسواق والمحال التجارية، وفوّض لي الأمر وحدي ..أصبحت أنا الوحيد يحق له إرتداء النظارة السوداء.
حقد عليَّ البعض من الخاصة ووصموني بالمفسد، فأرسل كبيرهم من يسرق نظارتي من على وجهي وأنا نائم ليلاً. حزنت كثيراً على فقدها، عندما خرجت إلى الشارع في صباح اليوم التالي بلا نظارة، تغيرّت طباع أهل المدينة وعادوا إلى سيرتهم الأولى،.اختفت منهم مظاهر الفرح والسعادة، ولم يعد يرقص الناس في الشارع ككل مرة. غضب المسؤول غضباً شديداً وأصدر قراراً فورياً باعتقالي ،
كوني تسببتُ في عودة الكآبة إلى نفوس الرعية، وأنني كنتُ متعمداً خلع نظارتي واخفائها، أودعوني الحبس ليتسنى لهم فيما بعد تنفيذ قرار إعدامي.
تمكّنت راقصة معروفة من مساعدتي في الهرب ليلاً، عرفاناً منها لكوني جعلتها راقصة، بعد أن كانت متسوّلة لا تحصل على لقمة عيشها، و هيّ ممتنة لي كوني السبب في ثرائها.
المفاجاة الكبرى، أنني عندما وصلت المدينة الأخرى التي هاجرت إليها.. وجدت جميع أهلها يرتدون نظارات سوداء نساءً ورجالاً.
والكآبة تخيّم على المدينة برمُّتها ..وقفت وسط الميدان أمام الناس، في وسط السوق الكبير، وشرعتُ أهز كتفيّ.. رويداً رويدا، تجمّع حولي ذوو النظارات السوداء، وأخذوا يصفّقون لي.. وأنا أُمعن في الرقص،..أهزّ جميع مفاصلي بلا هوادة !

السابق
فلاح
التالي
وجهة

اترك تعليقاً